الهوية الوطنية..أين المشكلة؟

محمد الأنصاري

كلما قارب بعض الكتّاب موضوعة الهوية الوطنية في هذا البلد، وجد نفسه أمام شعب عظيمة موغلة في عمقها وطولها، فيكتفي بالدوران حول مبادىء عامة مورد إتفاق الأمم، فيما يترك الباب مفتوحاً لدخول مزيد من الأسئلة حول مصادر الهوية، وتكوّنها، ومعوّقات نشأتها.

لفت إذعان وزير الداخلية الأمير نايف الى أن الخيار الأمني لمقاومة الإرهاب ليس حاسماً ولن يضع نهاية قاطعة لمسلسل العنف، ولابد من جهود فكرية وثقافية تؤسس لمناخ مناوىء لكل ما يهدّد أمن الدولة والمجتمع. ولكن هذا الاكتشاف المتأخر للحل الجذري، واجه سؤالاً آخر، يدور حول طبيعة وجوهر الفكر والثقافة المراد التأسيس عليها لمعالجة مشكلة ذات أبعاد وطنية وعامة. وكما اكتشف الملك عبد الله ذات لقاء ضعف ولاء طلاّب المدارس، فإن الأمير نايف إكتشف هو الآخر بأن الدور الوطني المأمول للمثقف في تعزيز الخيار الأمني في محاربة الإرهاب ضعيف ودون المستوى المأمول. بل سيكتشف أغلب وزراء الدولة بأن ضعفاً شديداً يعاني منه ولاء المنتسبين إليها، وكل يعبّر عنه بطريقته، وفي كل المؤسسات تقريباً، بل حتى الأجهزة الأمنية المحصّنة في الظاهر من الإختراق، فإن هناك من المواطنين من نجح في شراء ولاءاتها ثمناً لبعض الخدمات التي يؤدونها، بما فيها الأمنية. ولكن السؤال: وماعلاقة ذلك بالهوية الوطنية ومتوالياتها؟

الجواب يبدأ من المقاربة العقيمة التي مازال يعتصم به أهل الحكم في هذا البلد لموضوعة الهوية الوطنية كونها تنطلق من مفهوم خاطىء، وما يستتبع ذلك من سلسلة مفاهيم لا تقل عقماً من الهوية نفسها المؤسسة لها. يعتقد آل سعود بأن الهوية الوطنية هي الإنتساب إلى الدولة، إلى الحكومة، إلى سلطة آل سعود، وبالتالي فإن الولاء مستمد من نفس الهوية بحسب الاعتقاد الفارط في سذاجته لدى هؤلاء. ولا يكتفي آل سعود بحصر الهوية الوطنية في هذا المفهوم القاصر، بل يقحموا مصادر دعم هي الأخرى قاصرة لتوليد هوية وطنية ليست فيها من البعد الوطني إلا الدعوى. وإذا ما أريد اختصار الهوية الوطنية في المفهوم السعودي، فإنه لن يتجاوز العبارة الواردة في تصريحات سابقة لوزير الداخلية نايف (المملكة دولة سلفية). وحين نقوم بتفكيك العبارة سيكون الحاصل النهائي أن الهوية الوطنية تتألف من مكوّنين سياسي، الملك لآل سعود، وديني، سلفية الدولة. فهل حقاً يمكن التعويل على هذين المكوّنين في تشكيل هوية وطنية، تكون أساساً لنسج مشاعر الولاء، وتكون حافزاً على الإضطلاع بأدوار (وطنية) تدرء أخطار مصوّبة ضد أمن الدولة والمجتمع، كما تستحث غالبية المواطنين من خلفيات مختلفة للإمتثال لمتطلباتها في المؤسسة، والمدرسة، والشركة، والمنشأة، ثم تنعكس في صون المصالح العامة (الشوارع، تمديدات الخدمات، الماء، الكهرباء، الاسواق الحكومية، إشارات المرور، المرافق العامة)..

إن ما أراد توجيه الشكر في النعم إلى آل سعود كالقول النجدي الدارج (الله يعز ابن سعود)، تقابله أشكال شتى من التعبير عن السخط والانتقام من الدولة، ويعبّر عنه بصيغ متعدّدة شعبية. وإن أقصى ما يمكن أن تنتجه هذه الوطنية هو أن يأتي المواطن على صورة حاكمه، في كل شيء، حتى في سرقة الأموال العامة، وعلى حد د. محمد عبد الكريم في مقالة له في 6 نوفمبر 2008، بعنوان (صورة المواطنة والانتماء الوطني داخل السعودية) نشره موقع (خبر) الإلكتروني، ما نصه:(إن الدعوات المتواصلة للانتماء الوطني، تبتغي تصميم مواطن بارع في الانقياد، سالم من الرجولة، مستسلم بجوارحه، قانت في منبره، أن يطيل الله أعمار الحكام، لينهب الوطن برعاية رسمية!).

هاشم عبده هاشم كتب مقالاً في جريدة الرياض في 20 مارس الماضي بعنوان (الولاء ثم الولاء للوطن) من وحي خبر مفاده (أن هناك من المدرسين..وربما الطلاب من يرفض الانضمام إلى طابور الصباح المدرسي.."وتحية العلم"..) وتساءل عن الوسيلة التي سيتم بها معالجة الأمر: هل سيكون الحساب هذه المرة..بخصم بضعة أيام من مرتب هذا المعلم..وعدة درجات من علامات ذلك الطالب فقط؟! أم أن علينا أن "نفصلهما" من المدرسة إذا كان ذلك قد تم عن سبق إصرار..وتبعاً لقناعاتهما الخاصة والمرفوضة؟!).

وبدلاً من أن يقدّم هاشم تشخيصاً دقيقاً لهذه الظاهرة، تبنى لغة تحذيرية ذات طابع مدرسي، وبنكهة أمنية واضحة، وحمّل المدرّسين المسؤولية، حين اعتبرهم غير مؤتمنين على تربية أجيال، ثم أسهب في شرح أهمية الولاء للوطن، ووجوب التعبير عنه بالوقوف أمام العلم، أو النشيد الوطني، أو أداء القسم.

هذه الالتفاتة المتأخرة من جانب هاشم كان يمكن أن تجري منذ أكثر من عقدين حين بدأ الطلاب يعيدون تركيب النشيد الوطني بطريقة ساخرة، ويستبدلون كلمات النشيد بكلمات أخرى تشي ليس بغياب الولاء للوطن، بل لعدم قناعة الجميع بأن ما يتحدث عنه النشيد الوطني لا ينطبق على الواقع، أي أن الوطن الوارد فيه لا تمثّلات له على الأرض.

توصيفات هاشم ونصائحه في الوطن لا يختلف عليها إثنان، ولكنها تسبح في فضاء بعيد، ولا ثقافة تخبر عنه بين الناس، بل لا صلة له بواقع يعيشه الناس في هذا البلد، ويرون نقائضه، ولذلك فلا شك في (إن المواطن الذي لا تربطه بوطنه مشاعر حقيقية وقوية..ومتأصلة تجاه وطنه..لا يمكن أن يخلص لهذا الوطن..أو يدافع عنه..أو يحميه..أو أن يكون أميناً على مصالحه ومكتسباته..وبالتالي فإنه يشكل بذلك أرضاً هشة قابلة للاختراق..وإلحاق أشد الأضرار بهذا الوطن وبمن يعيشون فيه..). حسناً هذا تشخيص صحيح لتمظهرات غياب الهوية الوطنية، ولكن هل نسأل لماذا حدث ذلك، أي لماذا تغيب الهوية الوطنية في دولة مضى على إنشائها مايقرب من ثمانية عقود؟

إن مجرد الإنشغال في ملاحقة آثار ومظاهر عدم الولاء ليس وحده كافياً لتشخيص جذر المشكلة، لأن ذلك سبيل مضلّل يكرّس الإهتمام بأعراض المرض ويغفل المرض نفسه. لأن هناك ما هو قبل الولاء، وهو تشكّل الهوية الوطنية، التي عجزت الدولة طوعاً أو كرهاً عن إنتاجها، لأنها أرادت منها هوية بمواصفات خاصة غير قابلة للحياة، ولا يمكن لهوية أن تولد من مكوّنات لا تنتمي إلى مشتركات الشعب. وكيف يمكن لهوية وطنية أن تتشكل، وفئات عديدة من الشعب تقع خارج المجال الحيوي للدولة، وتبعاً له كيف يمكن لهذه الفئات أن تحمل بداخلها مشاعر ولاء لوطن لا تنتمي إليه سوى بالإسم، وليس بالشراكة الفاعلة فيه.

وجه آخر للمشكلة ينبّه إليه هاشم ويحوم حول نقطة تعتبر مقتلاً، وهي وراء كل أزمات الدولة، حيث يطالب بإصدار تشريع (يبدأ بتعريف وتحديد مفهوم المواطنة..وينتهي بواجبات ومسؤوليات المواطن تجاه الوطن..مروراً بما يتوجب علينا أن نفعله..لنصون وطننا من العبث..أو الامتهان..أو التحقير إلى الحد الذي نستكثر عليه الوقوف في طابور الصباح المدرسي..وترديد نشيده..واحترام علمه..). عفواً، فهذا بالدقة المنزلق الخطير الذي وقع فيه من توهّم بأن المواطنة إلتزام من طرف واحد، فمن حصل عليها أصبح ملزماً بالدفاع عن الدولة، وبات عليه أن يتحوّل رجل أمن متطوّع، وأن يضحي من أجل صون سلطة بلاده. لا ليس الأمر على هذا النحو يا دكتور هاشم، ولا يمكن مقاربة الهوية بهذه الطريقة الإكراهية بما تشتمل عليه من قائمة إلزامات أحادية الجانب، ولا يمكن لهوية وطنية في العالم أن تنبثق من تشريع رسمي، بل هي تفاعلات وجدانية وتاريخية واجتماعية وثقافية بين فئات المجتمع وبينها وبين الدولة.

ولم أكن أرغب في إفساد فرحة الدكتور هاشم بالشعار الذي سطّره في نهاية مقالته (الشعوب لا تختار أوطانها..ولكنها تصبح مسؤولة عنها..وحريصة على الانتماء إليها..أكثر من خوفها على أرواحها..ومكتسباتها المادية والأدبية)، لولا ان الشعار يحمل في طياته ألغاماً، فالشعوب، على عكس ما ورد في شعاره، تختار بالفعل أوطانها، ولا تختار الأرض التي ولدت فيها، وهنا المفارقة الدقيقة التي يلزم لفت الإنتباه إليها، وأن المسؤولية عن الوطن إنما تنبع من فعل الشراكة فيه، وليس من وجوده القهري، فالإنسان يصبح مسؤولاً عما يختاره وليس المكره عليه، وكذلك حرصه على الانتماء إلى وطن هو اختاره وشارك فيه. هذا لا يعني المفارقة بين الأرض والوطن من حيث الكيانية، ولكن المفارقة بين الإكراه والإختيار من حيث إرادة التكوين، فأنت تولد في أرض لا تختارها، ولكنك تشكّل بإرادتك الوطن وهذا جوهر العقد الإجتماعي.

في مقالة الدكتور خالد المقرن جريدة (اليوم) في 24 مارس الماضي بعنوان (الإنتماء الوطني) ثمة إشادة بما ورد في ندوة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تحت عنوان (الانتماء الوطني في التعليم العام: رؤى وتطلعات) التي عقدت في 24 مارس الماضي. ما يلفت في إشادة المقرن أنه ينطلق من نقطة وسط الطريق، حيث يشدّد على أهمية الانتماء الوطني وضرورة تعزيزه وتعميمه في كل المؤسسات، ومعالجة تشابك دوائر الانتماء الوطني والديني، وأن من لا يحمل الانتماء الى وطنه فلن يحمله إلى أمته، وفي ذلك تبسيط شديد، ليس لأن القضية الشرطية مفقودة فحسب، بل لأن مفهوم الانتماء يبدو غامضاً الى درجة أن مجرد وضعه في مقابل انتماءات أخرى يزيده غموضاً، فقد يناضل كثيرون من أجل قضية عامة على أساس الاحساس المتفجّر بالولاء للأمة، ولكنهم ينأون بأنفسهم عن قضايا خاصة لمجرد إنعدام أو ضعف إحساسهم بالإنتماء، كما يفعل القوميون والإسلاميون الأمميون.

ما يدهش حقاً، أن الندوة التي عقدتها جامعة الإمام محمد بن سعود كشفت عن هدف لها غير معلن، وكأن هناك من حرّض على عقد مثل هذه الندوة لناحية درء تهمة رافقت الجامعة منذ حوادث الحادي عشر من سبتمبر وعمليات العنف التي اندلعت في مناطق متفرّقة من المملكة، في وقت كانت مصادر عديدة محلية ودولية تشير بأصابع الإتهام إلى التعليم الديني في السعودية كونه يشجّع على التطرّف والعنف.

مقالة عضوان الأحمري في (الوطن) في 2 إبريل الماضي بعنوان (جامعة الإمام .. والوطنية .. و"نحن الموقعون أدناه"!) بدأت بنتيجة الندوة، وزعم الأحمري بأن الجامعة (أغلقت الباب في وجه متهميها بدعم الإرهاب، واللاوطنية)، لمجرد أنها عقدت ندوة في الوطنية، وكأن مهمة الندوة لم تتجاوز حد درء تهمة التورّط في الإرهاب اللاوطنية. بالمناسبة، هذه الندوة لم تكن سوى حلقة في سلسلة طويلة من الأعمال الدعائية من بينها أن جميع مطبوعات الجامعة ستحمل شعار (أنت يا وطني أنا)، وإطلاق قناة فضائية لمكافحة الفكر المتشدد، تبث من الجامعة.

المثير أن تلك التدابير الدعائية لم تترافق مع حملة تنقية المناهج التعليمية في جامعة الإمام والمسؤولة عن تعميم الفكر المتطرّف والتكفيري، إذ لا معنى لندوة تعقد حول المواطنة فيما لا يزال منهج تقسيم الوطن جزءً جوهرياً من منهج التعليم الجامعي.

ويسترعي ما سبق الإنتباه الى دور التعليم في صوغ الهوية الوطنية، وخصوصاً في بلد كالسعودية، الذي يمكن القول بأن التعليم كان أحد المصادر الرئيسية في ضعف الهوية الوطنية بل في إخمادها، من خلال المناهج الدينية الإقصائية التي اعتمدتها الحكومة السعودية في المدارس الرسمية، حيث كان الطلاّب يدرّسون العقيدة السلفية التكفيرية. وحتى بعد إقرار مادة التربية الوطنية، فإن المحتويات الواردة في المادة لم تسهم سوى في تكريس الهويات الفرعية وليس تنشئة هوية وطنية، بسبب الاغراق في سيرة العائلة المالكة.

في مقالة الدكتور مشاري بن عبدالله النعيم نشرت في صحيفة (الرياض) في 28 نوفمبر من العام الماضي بعنوان (التعليم وتشكيل الهوية الوطنية)، مقاربة مفتاحية لمسألة الهوية الوطنية، كون النعيم ينطلق من رؤية علمية بحكم تخصصه في الهوية المعمارية وتجربته الجامعية. يتحدث النعيم عن ديناميكية الهوية الوطنية باعتبارها حالة متغيرة وليست جامدة، بفعل عوامل متشابكة ثقافية وتاريخية وتعليمية واقتصادية تمرّ بها الأمم في مراحل متعاقبة. ومن بين الملاحظات التي لفت النعيم إليها (أن التغير في التعليم غالباً ما يكون متأخراً جداً عن التغير في مكون الهوية وبالتالي فإن ما تقدمه المدرسة والجامعة لا يتناسب مع ما يجب أن يتعلمه أبناء الوطن كي تتشكل علاقاتهم الثقافية والفكرية مع مجتمعهم وبالتالي غالباً ما تظهر مسألة المواطنة مخدوشة أو ناقصة..).

ومع أن النعيم نأى عن الإدعاء بامتلاك حلول جاهزة لهذه المشكلة، إلا أنه ألمح الى أهمية (إعادة بناء فلسفة التعليم) بوصفها مصنّعاً للهوية الوطنية. وفي تقديرنا أن ذلك يشكّل مدخلاً مناسباً لوعي مسألة الهوية الوطنية، لأن تصنيع الهوية لا يتم عبر جرعة ثقافية أو تعليمية مكثّفة بقدر ما هو متصّل ببناء الوطن القادر على إنتاج هويته الخاصة به، وعليه فإن الحديث عن هوية معيارية كما يشير إلى ذلك النعيم لن تتحقق، لأنها غير موجودة، وليست الهوية بالشيء القابل للإستنساخ، وليست أيضاً جامدة، بحيث لا تكتسب مكوّنات أخرى جديدة، وهذا ما يجعل التعليم بوظيفته الحالية، التلقينية غالباً، عاجزاً عن تنشئة هوية وطنية ديناميكية قابلة للحياة.

وإجترح الدكتور خضر محمد الشيباني في مقالته المنشورة في صحيفة (المدينة) بتاريخ 3 مارس الماضي بعنوان (التعليم: قضية الوطن!!) درباً موازياً في معالجة نظام التعليم باعتباره قضية وطنية، ولابد من إصلاحه كمقدمة لإصلاح مجالات أخرى مسؤولة عن رحلة التنمية الطويلة. ويطالب الشيباني بوضع إستراتيجية جديدة للتعليم تؤسس لرؤية تنموية تتعامل مع مقتضيات التنمية وعلوم العصر وتسترشد بالهوية الدينية المعتدلة والوسطية..

ومن وجهة نظر الكاتب صقر العنزي، كما جاء في مقالته في صحيفة (اليوم) في الأول من مارس الماضي، بعنوان (الاختلاف في الانتماء لا يفسد الوحدة الوطنية) أن تعدد الانتماءات ليس مصدر تهديد للوحدة الوطنية، لأن ذلك خلاف الطبيعة البشرية (فكل فرد له انتماؤه الخاص الديني والمذهبي، الفكري والثقافي، العرقي والقبلي. ولا يمكن أبدا ان تجد مجتمعا ما يصطبغ أفراده جميعهم بصبغة دينية أو مذهبية أو عرقية واحدة، أو يحملون فكراً وثقافة واحدة، بل كان الاختلاف المذهبي والفكري والقبلي سمة بارزة). وأن التميز والنجاح يكمنان في قدرة المجتمع على بلورة وحدة إجتماعية متماسكة بين الأفراد على اختلاف إنتماءاتهم، وكذا الحال بالنسبة للوحدة الوطنية. وما يقال عن القبول بالتنوّع في داخل المجتمع، يقال أيضاً عن انعكاساته في الروابط الداخلية بين أفراده، وعلى أوضاعهم العامة.

في سؤال جوهري وجدير بالمناقشة، ويبطن في داخله أسئلة أخرى عديدة في حقل الهوية الوطنية، أثاره مقال حليمة مظفر في صحيفة (الوطن) في 11 مايو الجاري بعنوان (هل صوت القبلية أعلى من الوطنية؟) وقد ينجب هذا السؤال أسئلة مماثلة من قبيل (هل صوت المنطقة أعلى من الوطن؟ وهل صوت المذهب أعلى من الوطن؟) وأمثال ذلك.

من وحي تجربة شخصية، تبدأ حليمة مظفر في تشخيص جذر المشكلة من السؤال الذي يطرح في أول لقاء بين اثنين: من وين ترجع؟ ولأي قبيلة تعود؟ كي يصدر كل شخص حكمه على الآخر وطبيعة الرابطة المفترضة معه. وتضيء مظفر على نماذج محددة من قبيل التعليقات في بعض المواقع الالكترونية (لتكتشف حجم هذا التطرف القبلي والمناطقي). وتنقل مظفر مقاطع من رسائل وصلتها من أفراد يشكون من تعاسة بسبب تفوق العنصر القبلي. وبالرغم من انحباس مظفر في موضوعات ذات طبيعة اجتماعية، إلا أن بامكان المرء تلمسّ تداعيات هذه الميول الفرعية على مستويات أخرى اجتماعية وسياسية وثقافية.

وفي قراءة إنسية ذات طابع إمبريقي كتب عبد الله السهلي عن (المواطنة..وترهل الذوق العام) نشر في صحيفة (الاقتصادية) الالكترونية في 3 مارس الماضي، إنتقد فيه منهج التربية الوطنية وقال (إن التربية الوطنية ليست مقرراً يُدرّس بقدر ما هي فيض وجدانٍ وولاء وحرص على مقدرات الوطن ومكتسباته..)..وطالب السهلي بمراجعة مقرر التربية الوطنية من أجل تحويله إلى شعور وجداني يندغم في سليقة الطالب. ولكن السهلي، شأن كثير من النجديين، لا يرى في الهوية الوطنية إلا ما تدلعه من مظاهر سلبية، فيما لايحمل كتّاب آخرون من مناطق أخرى هذا القلق، لأنهم ببساطة لا يشعرون بوجود هوية وطنية يخشون عليها، وكأن لسان حالهم يقول أن الهوية الوطنية منتوج سلطوي بامتياز، ولسنا مسؤولين بالدفاع عنه.

واستطراداً في بحث مسألة الهوية الوطنية بالنسبة لتعبيراتها لدى مختلف الأطياف في هذا البلد، يظهر أن الهوية الوطنية بالنسبة للنجدي هي هوية السلطة، وليست الهوية الوطنية بالمفهوم العلمي والشامل، ولذلك فحين يتحدث النجدي عن الهوية الوطنية فهو يتحدّث عن هويته هو كما يراها، أي أنها جزء من عقله السلطوي، أما بالنسبة لغير النجدي فالقضية مختلفة تماماً، فهو غير معني بالحديث عنها لأنه لا يشعر بوجودها، وإذا ما شعر فإنه ينظر إليها باعتبارها مخلوقاً سلطوياً، فلا يتعامل معها إلا بالقدر الذي يفيد منها، وليس إيماناً واقتناعاً منه بوجودها في الواقع. ولهذا السبب، ندرك تماماً لماذا تصبح مسألة (الهوية الوطنية) اشتغالاً نجدياً بدرجة أساسية، ولماذا وحده النجدي الذي يثير مسائل الولاء والانتماء، فيما لا نجدها واردة في أجندة اهتمامات كتّاب آخرين من مناطق أخرى. ألا يلفت ذلك إلى شيء ما؟ أي بكلمات أخرى لماذا يكون الاحساس بوجود هذا المسمى (وطناً) مقتصراً على فئة محدّدة، وألا يعني ذلك أنها وحدها المستفيدة من تصويره وطناً، والحريصة على بقائه كذلك، حتى وإن جاء متناقضاً في تكوينه مع اشتراطات الوطن بالمعنى الحقيقي.

بالنسبة للنجدي، السلطوي بدرجة أساسية، فإن الهوية الوطنية تبطن ديمومة سلطته، ولا تعكس بالضرورة إيمانه بإلزاماتها المقابلة، لأنها تعوّد على أن يراها مكسباً ومصدراً يجني منه الامتيازات الخاصة، واستقرار السلطة، وهيمنته على المناطق الأخرى، فهو يريدها هوية وطنية ولكن بمقاييس نجدية خالصة، تنعكس تلقائياً في توزيع السلطة والثروة، والتعيينات الوزارية، وتوزيع المناصب الإدارية، وسياسات الدولة وبرامجها، وتكاد تغمر كل أجزاء الدولة، وهنا تكمن المشكلة ومن هنا أيضاً يبدأ الحل.

الصفحة السابقة