التشدّد الديني الوهابي..المستفيد والخاسر

آل سعود مصدر تشدّد الوهابية الرئيسي

يحي مفتي

غالباً ما يثار سؤال حول مصادر التشدد الديني في السعودية، ولكن في أحيان نادرة يطرح سؤال عن هوية المستفيد، لأن الخاسر بات معلوماً سواء كان جماعة محلية أو دول إقليمية، أو حتى قوى أجنبية وصل إليها ذراع التشدد الديني إنطلاقاً من السعودية أو من المناطق التي شكّل فيها قواعد انطلاق الى مناطق متفرقة من العالم.

ولأن السؤال عن المستفيد من التشدد الديني في السعودية يضيء على السؤال المركزي: من يصنع التشدّد الديني في هذا البلد؟، أي من هي الجهة التي تقف وراءه، وتمدّه بأشكال الدعم المالي والأمني والسياسي، فإن ثمة جهداً متعمّداً تقوم به الحكومة السعودية، وتحديداً الأمراء المكلّفين بـ (هندسة) التشدّد الديني، لناحية تضييع آثار العلاقة بين الحكومة والجماعات المتشدّدة التي تنشأ في المجتمع السلفي الوهابي، وتتخذ مسارات متعدّدة ثقافية، ودعوية، وخيرية، وإجتماعية وأخيراً عسكرية.

ما يلفت الإنتباه في موضوع الساعة، أي الإصلاح السياسي، يقدّم التشدّد الديني باعتباره عائقاً أمام الملك عبد الله لتنفيذ (أجندة) إصلاحية، وتفترض هذه المقاربة أن لدى الملك، بالفعل، (أجندة)، دع عنك أن تكون إصلاحية.

في تقرير وكالة (رويترز) نشر في 26 يونيو الماضي حول المعوّقات التي تحول دون تنفيذ الملك عبد الله للإصلاحات، تم فيها تسليط الضوء على رجال الدين المتشدّدين. وقال التقرير أنه في فبراير أقال الملك عبد الله رجلي دين متشددين من منصبين بارزين للحد من نفوذ النخبة الدينية التي أعاقت إصلاحات في قطاعي التعليم والقضاء وهي إصلاحات ضرورية لإيجاد دولة حديثة ومكافحة التشدد الاسلامي، في إشارة الى الشيخ صالح اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ إبراهيم الغيث.

ولفت تقرير الوكالة الى التغييرات الوزارية والإدارية الجديدة التي أعلن عنها الملك في فبراير الماضي، وقالت بأن وزارة التعليم تبحث منذ ذلك الحين، بعد أن أصبح لديها للمرة الأولى نائبة وزير، أفكاراً لتحسين التعليم بينما شهدت العاصمة الرياض أول عرض لفيلم سينمائي منذ 30 عاما ومسرحيات قليلة ومعارض فنية ترعاها الدولة. ونقلت الوكالة عن المحلل مصطفى العلاني الذي يتخذ من دبي مقرا له قوله بأن (عجلات الاصلاح تتحرك لكن رؤية تغييرات قد تستغرق سنوات. لكن الأهم أن العجلات تتحرك. الاصلاحات لا يمكن التراجع عنها. المجتمع لن يقبل ذلك).

ثم تنتقل الوكالة لتسليط الضوء على دور رجال الدين في إبطاء العملية الإصلاحية، وقالت بأنه منذ اعتلائه العرش عام 2005 ينظر كثير من السعوديين الى الملك عبد الله على أنه مؤيد للاصلاحات، لكن دبلوماسيين يقولون ان الكثير من رجال الدين وأيضا أعضاء بارزين بالأسرة الحاكمة يقاومون. ونقلت الوكالة عن الكاتب السعودي عبد الله العلمي قوله (يحاول الملك الموازنة بين الجماعات الدينية المحافظة والتكنوقراط والمتعلمين الذين يريدون إصلاحات اجتماعية). ويضيف (قاعدة التغيير لن تكون بين عشية وضحاها. لا نريد أن يحدث هذا بين عشية وضحاها لانه قد يأتي بنتائج عكسية وتكون له عواقب سلبية).

وتعلّق الوكالة بأن السلفيين المتشدّدين يقفون عقبة أمام أي انفتاح مفترض، وتضيف (يشير دبلوماسيون الى أنه حتى اذا كانت هناك رغبة في التغيير مثل إصلاح المناهج التعليمية بالمدارس لتحسين تأهيل السعوديين لسوق العمل فان هذا لا يعني أن التغييرات التي يصدر بها الأمر من أعلى تنفذها البيروقراطية كما هو مُخطط لها).

ونبّهت الوكالة إلى أن السعودية قطعت تعهّدات لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الانسان في شهر يونيو الماضي بوقف التمييز ضد النساء بإنهاء وصاية الرجل على المرأة عند العمل والسفر والدراسة لكن نشطاء لا يتوقعون حدوث أي تغيير عما قريب.

ولكن عثرت رويترز على أول إشارة سلبية على نوايا التغيير لدى العائلة المالكة، وقالت بأنه بعد مرور ثلاثة أشهر على اجراء تغيير وزاري قررت الحكومة إرجاء الانتخابات البلدية لعامين مما قضى على الآمال بأن تتمكن النساء من التصويت للمرة الاولى. وخفّت ضغوط الولايات المتحدة حليف الرياض لاتخاذ خطوات سريعة نحو الاصلاح. ومن الطبيعي حين يذكر الإنقلاب على الإصلاح يرد إسم وزير الداخلية نايف الذي يقدّم دعماً مفتوحاً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

هذه القراءة المبتسرة والسطحية تسترعي إعادة رسم صورة العلاقة بين المؤسسة الدينية والعائلة المالكة، وسنحاول هنا أن نستحضر التجاذبات التي جرت بين التيار الديني السلفي والأمراء منذ عهد الملك عبد العزيز وحتى اليوم.

ولنبدأ بما نقله المستشار السابق للملك عبد الله السابق عبد العزيز التويجري حول ما دار بين الإخوان وعبد العزيز بعد أن قرر بعض فلولهم ترك عبد العزيز والمغادرة الى الكويت أو العراق. يقول التويجري بعد أن وصلوا هناك وجدوا الإنجليز أمامهم، فقرروا الإدبار عائدين الى عبد العزيز وحين وصلوا الى خيمته، كان في استقبالهم رجاله الذين أمطروهم بالشتائم وكانوا يوكزوهم بالعصي ومؤخرة الأسلحة التي كانت بحوزتهم، وطلبوا منهم أن ينقسموا الى فسطاطين كيما يمرّ عبد العزيز بينهما، وحين مرّ بينهم كان يتصفح وجوههم ويسأل كل واحد منهم عن إسمه وإسم قبيلته ثم يقرّعه على فعلته، أي الفرار، ويذكّره بهباته عليه، ولكّن أحدهم لم ترق له وجبات التقريع المتواصلة، فقال له: إسمع يا عبد العزيز نحن فعلنا ما فعلنا، إن أردت أن تعفو وإلا فاقتلنا ولا تزيد في تقريعنا. فأجابه عبد العزيز: ماذا أفعل بكم، أنتم مثل يدي، ولا يمكن أقطعها.

هذه الحادثة تحمل دلالات هامة تساعد في فهم طبيعة التعامل الإستثنائي الذي حظي به عناصر الجماعات السلفية المسلّحة الذين انخرطوا في عمليات إرهابية سواء داخلية أو خارجية. نفهم أيضاً البرامج التي اعتمدتها (لجنة المناصحة) بتقديم حوافز مادية مغرية لهذه العناصر مثل التوظيف، والهبات المالية، وتحمل نفقات الزواج، وشراء سيارة للعائدين من غوانتنامو، وهي حوافز لم يحصل عليها آخرون ممن لم يحلموا سلاحاً أو يهدّدوا الأمن بقول أو فعل.

الإزدواجية في التعامل تقوم ببساطة على قاعدة التمييز بين العناصر المحسوبة على معسكر السلطة، والعناصر الخارجة عنه، فمهما بلغت أخطاء العناصر السلفية والنجدية فإنها تبقى قابلة للإستيعاب، لأنهم (أيدي) العائلة المالكة، بعكس الجماعات الأخرى التي تضمر، من وجهة نظر آل سعود، شراً بهم، وتريد الثأر لما اقترفوه من ويلات في المناطق الأخرى..

لا غرابة أن تلتزم العائلة المالكة الصمت حيال فتاوى وبيانات التكفير التي تصدر من علماء سلفيين متشدّدين، حتى وإن صدرت في ظل حشد داخلي حول (الحوار الوطني) أو حتى دولي حول (حوار الأديان). وقد تكون تلك البينات المتطرّفة بتحريض من الأمراء أنفسهم لتحقيق توازن إزاء تطلعات الجماعات الأخرى، وتثبيت المسوّغ المكرور القائل بأن رجال الدين يشكّلون عقبة أمام الإصلاح.

لم تكن فلتة لسان صدرت من وزير الداخلية الأمير نايف حين قال بأن (المملكة دولة سلفية) بل ويشدّد على ذلك بأنه (يفتخر بذلك). ولو صدرت هذه التصريحات عن أي دولة أخرى، باستثناء الكيان الإسرائيلي بطبيعة الحال، لواجهت حملة ضارية من الإعلام السعودي. مفارقة مثيرة، أن يتم استعلان سلفية الدولة في السعودية ويهودية الدولة العبرية في فلسطين المحتلة في وقت متقارب.

في 26 يونيو الماضي نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) خبراً عن أدلة على وجود روابط مالية بين العائلة المالكة السعودية وتنظيم القاعدة، وقالت الصحيفة في محاولة للربط بين أفراد العائلة المالكة السعودية بتمويل القاعدة، قام محامو المدعين في قضية الحادي عشر من سبتمبر وشركات التأمن التي تمثلهم بجمع عدة مئات من الآلاف من الصفحات التي تتضمن تفاصيل مقابلات، وتقارير حكومية، وسجلات مالية، وشهادات تم الإدلاء بها أمام المحاكم، وغيرها من المواد. غير أن أربعة من هذه الوثائق لم يتم وضعها في سجل المحكمة، ولكن تم تقديمها مباشرة إلى صحيفة نيويورك تايمز (ونشرت الصحيفة صورة منها). وينفي محامو العائلة المالكة أي صلة لها بتمويل تنظم القاعدة، ويقولون أن الادعاءات التي تسوقها أسر ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضعيفة ومضللة.

على أية حال، فإن التشدّد الديني قد رافق الدولة السعودية منذ التحالف التاريخي بين مؤسس المذهب الوهابي والأمير محمد بن سعود سنة 1744، وكان له المفعول الأقوى في الحملات العسكرية التي انطلقت في أرجاء الجزيرة العربية والخليج وصولاً إلى العراق وبلاد الشام. فقد كان تكفير المجتمعات محرّضاً على الغزو السعودي، وبالتكفير أمكن بناء إمبراطورية دينية متوّزعة بين الوهابية وآل سعود.

فالدولة لم تحقق وجودها وتكفل استمرارها سوى عبر تطوير أيديولوجية دينية متطرّفة تصم العالم بالكفر والضلال كيما تبرر الانقضاض عليه وإدخاله ضمن دائرة الطموحات السياسية التوسّعية لآل سعود. وقد عبّر مؤسس المذهب وأتباعه من بعده عن تلك الأيديولوجية الدينية المتطرّفة بصورة واضحة بكون العالم غارقاً في الشركيات وأنواع البدع الضالة، وأن ثمة فئة قليلة في بقعة صغيرة من إقليم نجد هي (الفرقة الناجية) التي حملت على عاتقها مهمّة إصلاح الأمة، التي عاد إلشرك إلى كثير منها، بحسب تعبير الشيخ صالح الفوزارن في كتابه (التوحيد). من نجد انطلقت فكرة تكفير المجتمعات، ومنها أيضاً انبثقت فكرة (الهجرة) ومترادفاتها، ومنها أيضاً انطلقت الكتائب المسلّحة المؤلفة من عناصر قبلية كانت تقتل بالأمس القريب بإسم القبيلة واليوم بإسم الجهاد والدعوة، والنتيجة في الحالتين واحدة: قتل بإسراف غير مبرر.

عبد العزيز: ملك التشدّد

كان التشدّد الديني وشحنه بجرعات تفجيرية متواصلة وحده الكفيل بضمان مشروع الدولة السعودية، ولا يجب التيه في تفكيك الدعوة السلفية في شكلها الراديكالي عن الدولة السعودية، فكلاهما متصاهران ويلبيّان أهدافاً متبادلة. ولذلك، فمن السذاجة الاعتقاد بأن ما يقترفه السلفي المتشدّد لا علاقة للطبقة الحاكمة به، بل هي من ترعاه وتمدّه وتطلقه في أرجاء مختلفة داخلياً وخارجياً. إن مجرد انحلال الطبقة الحاكمة أخلاقياً لا يعني مطلقاً بأنها عطّلت مفاعيل التشدّد الديني، أو أنها بدأت في تبني الخيار الليبرالي الذي بدا كما لو أنه الطلاء الخارجي لصورة الدولة في الخارج.

في الرؤية المفتوحة على التجاذبات بين المجتمع الديني السلفي وآل سعود، كانت هناك دائماً قدرة لدى كل منهما على (التسوية) و(إعادة توجيه) لتلك التجاذبات، ولابد، مهما بلغت شدّة حالات الاحتقان، أن يتوصل كلاهما إلى تفاهمات مرضية، هذا حصل مع الإخوان بعد معركة السبلة في مارس 1929، والتي نجح فيها عبد العزيز بتصفية قادة الإخوان مثل فيصل الدويش وسلطان بن بجاد، ثم قام باستيعاب فلول الإخوان في جهازي الحرس الوطني، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحدث الشيء ذاته بالنسبة للعلماء الذين عارضوا إدخال العلوم والمنتوجات والقوانين الحديثة الى البلاد في عهد عبد العزيز، والتي أفضت إلى احتجاجات واسعة داخل المجتمع الديني السلفي، وتواصلت حتى عهد الملك فيصل، ولكن جرى احتواؤها من خلال ترضيات حاذقة باعطاء العلماء صلاحيات واسعة في مجال التعليم الديني، وتعليم البنات، والقضاء الشرعي، وهي ذات المجالات التي نسبت إليها فيما بعد مسؤولية تغذية التشدّد الديني.

ولعل المثال الأبرز في عمليات الترضية التي جرت بين تيار التشدّد الديني والعائلة المالكة ما جرى في التسعينيات الميلادية. وقبل ذلك لابد من الإشارة إلى أن الإنطلاقة المنفلتة للتيار السلفي بأشكاله الراديكالية بدأ على يد الملك فهد، في رد فعل وقائي ضد الثورة الإيرانية عام 1979، حيث سمح بأن يأخذ التيار السلفي المدى الأقصى في التعبير عن نفسه اجتماعياً وثقافياً وسياسياً أيضاً. في التسعينيات الميلادية من القرن الماضي، كان التشدّد الديني السلفي قد استكمل شروط انتشاره الكوني، فقد أصبح له حضور كثيف في كل قارات العالم تقريباً، وتحوّل إلى تيار عريض عابر للقوميات، والدول، والأحزاب، وحتى المذاهب (الإسلامية السنيّة). وحين تفجّر التشدّد الديني في الداخل على خلفية أزمة الخليج الثانية سنة 1991، والتي شجّعت من يدعون بـ (مشايخ الصحوة) على تقدّيم فاتورة حساب طويلة ضد العائلة المالكة، كونها فرّطت بشروط التحالف التاريخي بين الوهابية وآل سعود.

عبد العزيز.. تنظيم التشدّد الديني

حين بدأ عبد العزيز بتبني الخيار الديني، لم يكن حينذاك يمتلك رؤية دينية من أي نوع، ولكنه وجد في جيش الإخوان بميولها الدينية المتشدّدة قوة جاهزة لا يمكن التفريط فيها أو السماح بانتقالها إلى خصومه، ولذلك قرر أن يلبس الرداء الديني، وأن يتظاهر بالتزامه بتعاليم السلفية الوهابية المتشدّدة، ووجّه دعوة في عام 1916 الى قبائل نجد للإنضمام إلى حركته الجديدة، وطالبهم بدفع الزكاة له باعتباره إمامهم الشرعي. من جهة ثانية، بدأ في تكثيف اتصالاته بقادة الإخوان، وأطلعهم على خططه السياسية والعسكرية التي قدّمها بلغة دينية موجّهة، كيما تنال قبول الاخوان وتحرّض فيهم الروح القتالية. والأهم في ذلك، ربما، أن عبد العزيز وكيما يكسبهم إلى جانبه، عرض عليهم مقترح الإشراف على (الهجر) أي المستوطنات الجديدة التي كان عبد العزيز ينوي إقامتها لاستيعاب قبائل نجد. رفض قادة الاخوان عروض عبد العزيز في البداية ولكنه نجح عبر إقحام العلماء وقادة القبائل القريبين منه في إقناعهم، وتمكّن من أن يقبلوه إماماً عليهم. لم يكن عبد العزيز واثقاً بأن بقاء كيان الإخوان على حاله يمكن أن ينجيه من تفجّرات داخلية، ولذلك عمد إلى إعادة تشكيل بناء قوته العسكرية عن طريق إدماج الإخوان في الكيان الذي أعدّه هو من خلال مشروع (الهجر) بهدف إضعاف الروابط القبلية وبعثرة الوحدات العسكرية، التي تم تشكيلها من خلال مشروع يضم 220 هجرة ممتدة على منطقة واسعة من نجد والحجاز وصولاً الى الحدود الأردنية.

لابد هنا من تسليط الضوء على ما أطلق عليه بـ (الهجرة)، في الدولة السعودية لما تنطوي عليه من دلالات دينية وإجتماعية وسياسية. ولابد من التذكير بأن فكرة الهجرة لم تكن ابتكاراً فريداً من عبد العزيز، وكان أول من أرسى بناها النظرية وطبّقها عملياً مؤسس المذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي أكّد في مصنّفاته على أن الهجرة من الدرعية الى العيينه واجب ديني، وهناك تشكّلت النواة الأولى لدار الإسلام، ودعى أتباعه بالهجرة إلى ما وصفه جلال كشك في كتابه (السعوديون والحل الإسلامي) بـ (يثرب الجديدة) التي ينتقل فيها المهاجرون إلى (أرض الإيمان..إلى دار الهجرة..إلى الأرض المحررة الى الجهاد..إلى "الهجر"..ومنها ينطلق إلى تحرير العالم ونشره بقوة للمجتمع المثالي الذي يحقق خير الدنيا والآخر). ووافق على هذا التفسير الإيحائي العطار في (صقر الجزيرة)، ومحمد المانع في (توحيد المملكة). وأضاف الأخير بعداً آخر الى أهداف عبد العزيز من وراء إنشاء الهجر بأنها كانت مخرجاً مثالياً لمشاكل ابن سعود مع القبائل، ولكنها حقّقت أهدافه السياسية والعسكرية، حين نجح في تحويل منظومات مسلّحة ذات طابع قبلي إلى جيش عقائدي ينتشر في الهجر ويميّز نفسه بعصابة خاصة في إشارة إلى الإخوان.

لقد حملت فكرة إنشاء "الهجر" دلالات متعددة، ولا تخلو الشروحات الآنفة من قوة، فعبد العزيز قد أضفى دون أدنى ريب معنى دينياً مفتوحاً على فكرة الهجرة. وكتب حفيد عبد العزيز الأمير خالد بن سلطان في موقعه على شبكة الإنترنت (مقاتل) يعرّف فيه الهجرة بقوله (واشتق اسمها ـ أي الهٌجَر ـ من الهجرة التي تعني ترك الوطن، الذي بيد الكفار، والإنتقال إلى دار الإسلام. فذلك ما فعله النبي، عليه الصلاة والسلام، والمسلمون الأوائل في هجرتهم من مكة إلى المدينة، فاستغل الملك عبد العزيز فكرة التوطين، بإعطائها عمقاً دينياً، يستثير من خلاله العاطفة الدينية في نفوس هؤلاء البدو).

ما سبق يشير الى حقيقة أن تثمير التشدّد الديني، بل صنعه جاء بقرار السياسي قبل الديني، وأن عبد العزيز هو من أحيا فكرة (الهجرة) بمعناها الديني، وأحالها الى مشروع سياسي. فبعد أن كانت الهجرة مقتصرة على أجزاء محدودة من إقليم نجد في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تحوّلت في عهد عبد العزيز إلى مشروع استراتيجي يمتد على مساحة واسعة من الجزيرة العربية. وقد أنشئت أول هجرة عام 1330 هـ في الأرطاوية، بحسب فؤاد حمزة في كتابه (قلب جزيرة العرب) وتقع في المنطقة الواقعة بين الزلفي والكويت، وكانت موطناً لقبيلة مطير بقيادة فيصل الدويش، وبلغ تعدادها بحسب بعض الاحصائيات عشرين ألفاً. وقال سليمان بن سمحان، في تتمة (تاريخ نجد) للألوسي، بأن الأرطاوية كانت أكبر قرى قبيلة مطير. ويذكر الشيخ عبد الرحمن بن ناصر في مخطوطة له بعنوان (السعد والمجد) والتي نشرت في مجلة الدارة سنة 1981 بتحقيق محمد بن سعد الشويعر حول أهداف التوطين في الأرطاوية بقوله: (قدم بلد حرمة جماعة من حرب ومطير راغبين في الدين مختارين الحضارة وتعلم أصول الاسلام وشرائعه ومن اعيانهم سعد بن مثيب واخوه راضي وصالح بن فايز الحربي وجلوي الاشقر وعياله ومحمد بن فهيد وجماعته من مطير وغيرهم ثم لم يزالوا يزيدون الى ما مالوا إليه من محبة الدين والخير وساعدهم في ذلك جماعة من طلبة العلم من الحاضرة حتى بلغوا نحوا من خمسين رجلاً. ثم حصل بينهم وبين اهل حرمة مخالفات اوجبت انهم يختطون الماء المعروف بالارطاوية وتكون وطنا لهم فاختطوها وبنوافيها قصرا واقاموا فيها جمعة ثم انتشرت دعوتهم في البادية وصار لهم ذكر عند القبائل فصاروا يهاجرون اليها من كل اوب والامام ايده الله لم يزل يحثهم على الاستقامة ويساعدهم بما يحتاجون من المعلمين وبناء المساجد والمصاحف والكتب والاطعمة وغير ذلك).

وقد أورد باحثون في التاريخ السعودي ذكر عدد من الهجر التي لعبت دوراً رئيسياً في حروب ابن سعود مثل عرجا شمال الدوادومي. وقد شارك مع الملك عبد العزيز في حرب اليمن عدد من أهل عرجا مثل قاعد الحبيل ومطلق بن جازع الحبيل، والحفيرة جنوب شرق الدوادمي أسسها مناحي بن خالد الهيضل أمير قبيلة الدعاجين من اشهر أمراء قبيلة عتيب وشارك مناحي الهيضل وابنه سجدي في العديد من معارك عبد العزيز مثل احتلال جدة والسبله والدبدبه. وهناك هجر أخرى هامة مثل الداهنه وتقع بين المجمعه وشقراء، يضاف إليها هجر أخرى شارك رؤساؤها في مؤتمر الرياض سنة 1928 مثل دخنه، وآقبة، والخشيبي، والقوارة، وخصيبة، وضيدة، وكحيلة، والنحيتيه، وأبو مغير، وثادق، والقرين، والبرود، والبعائث، والمحلاني، وقطن، والدليمية، والشبيكية، وبقيعه، والذيبية، والفيضة، والبدع.

صنع عبد العزيز أنوية مجتمع مضاد لتأهيلها للإنقضاض على المجتمع القائم، وأخذت العملية خطوات متسلسلة بدأت بتكفير المجتمعات، ثم اعتزالها، وصولاً إلى مرحلة إعلان الجهاد عليها. وإذا كان جيش الإخوان قد اعتنق الوهابية المتزمّتة في مرحلة سابقة فإن عبد العزيز غرس أبعاداً سياسية في ميول التشدّد الديني الوهابي، وصار يتحرك على قاعدة إنشاء دولة ممتدّة على مساحة واسعة خارج إقليم نجد، ولولا تدخّل القوى الدولية آنذاك، وخصوصاً بريطانيا لتواصلت الغارات على كل المناطق التي يمكن لجيوش الإخوان الوصول إليها واحتلالها. ولا شك أن التشدّد الديني لدى الإخوان خدم الأهداف السياسية لدى ابن سعود، فكان هو من حافظ على الوتيرة المتصاعدة لنزعة التعصب لتدعيم حركة الغارات التي لم تتوقف إلا بعد أن وضع المندوب البريطاني حداً نهائياً لها.

فهد: يكره الدين ويدعم المتشدّدين

كان لدى الإخوان توق شديد الى مواصلة الحروب بإسم الجهاد، ولأن كل من لم يسكن الهجر فهو كافر، فقد حكموا بضلال المسلمين عموماً، وتبعاً له وجب قتالهم، بما ينسجم مع المآرب السياسية لدى ابن سعود، الذي كان هو الآخر يطلق صفة الكفر والشرك على خصومه السياسيين سواء داخل الجزيرة العربية أو خارجها، ويرى نفسه إماماً للإخوان، باعتبارهم الصفوة المختارة من المسلمين. ويروي أمين الروحاني، وجون فيلبي حوارات مع ابن سعود كان يستعمل فيها أحكام التكفير ضد الحجازيين والشيعة والإسماعيلية، حتى قيل بأن إبن سعود، شأن علماء الوهابية، لم يدخل في الإسلام إلا من هم حلفاء له من الإخوان وشيوخ الوهابية.

وإذا كانت الوهابية تختزّن مواقف عقدية متطرّفة ضد كل المذاهب الإسلامية، فإن ابن سعود صاغ من تلك المواقف مشروعه السياسي، القائم على (الفتح)، بما تنطوي عليه الكلمة من دلالات دينية وتاريخية واضحة. بل إن المجازر الدموية التي إرتكبها الإخوان سواء في نجد أو الحجاز، إنما وقعت بأوامر ابن سعود نفسه وبإسمه، كما يكشف عنه شعار الإخوان (من عادى آل سعود يعادي الله، فخذ عدو الله لعهد الله واغدر به) وشعارات أخرى تحفيزية كان يرفعها الإخوان لتنفيذ أجندة عبد العزيز.

ولعل أحد الصور اللافتة في حروب إبن سعود على الحجاز، دعوته زعماء الإخوان والعلماء وشيوخ القبائل وأعيان الحواضر إلى مؤتمر الرياض في 5 يونيو 1924 والذي أعدّ فيه ابن سعود بيان الحرب على الحجاز. وقد شحن العاطفة الدينية، وأغرى من حضر بتلبية الواجب الديني، وطلب من العلماء إصدار فتوى بإعلان الجهاد ضد الشريف حسين، فتقدّم بعد صدورها أربعة آلاف من رجال الإخوان إرتدوا لباس الإحرام، في إشارة إلى تأدية فريضة الحج، وجهّزهم عبد العزيز بالعتاد وأوكل قيادة الجيش الى زعيم الغطغط سلطان بن بجاد، وخالد بن نوى، وأغاروا على الطائف وقتلوا حاميتها ثم ارتكبوا مجازر وحشية في سكّانها ودمروا الأحياء السكنية ونهبوا الممتلكات، وهرب الأهالي الى الحدائق العامة، وقتلوا علماء الشافعية من بينها الشيخ الزواوي وأبناء الشيبي.

لم يكن الإخوان وحدهم المسؤولين عن الدماء التي انهمرت في الطائف، وفي منطقة تربه على وجه الخصوص، بل كان ابن سعود المسؤول الأول عن ذلك كله، ولولا بيان الحرب المشحون بجرعات تحريض عالية، وإقناعه العلماء بإصدار فتوى تجيز الحرب الشاملة على الحجاز لما كان لقطرة دم تسيل دون وجه حق.

التشدّد الديني.. الثورة والدولة

بعد قيام الدولة السعودية سنة 1932، بدأ التشدّد الديني يأخذ أشكالاً جديدة، فبعد أن كان موجّهاً الى الخارج بات مطلوباً في الداخل لترسيخ أسس السلطة السعودية. صحيح أن العقيدة التكفيرية لم تبطل مفاعيلها الإجتماعية والفكرية، ولكن جرى تعطيل مفاعيلها السياسية والعسكرية في الداخل، واستمر الحال عليه حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، حين ظهرت حركة جهيمان العتيبي في مكة المكرمة في نوفمبر 1979، والتي مثّلت إمتداداً تاريخياً وعقدياً واثنولوجياً لجيش الإخوان. ولأول مرة منذ نشأتها، تواجه الدولة السعودية سلاح التكفير الذي ساهم في تأسيسها، وشكّكت رسائل جهيمان في التزام آل سعود بتعاليم الوهابية، سواء في علاقاتهم مع الدول المصنّفة في خانة الكفار، أو حتى في تطبيق القوانين، ونشر الدعوة، والتزام مبدأ الجهاد.

وكتب جهيمان العتيبي في رسالته بعنوان (دعوة الإخوان كيف بدأت والى اين تسير): (نحن مسلمون نود أن نتعلم الشريعة لكنا سرعان ما أدركنا أننا لا يمكن أن نتعلم في مؤسسات تقيدها الحكومة.. لقد انفصلنا عن الإنتهازيين والمأجورين..). وقال عن آل سعود ما نصه (فهؤلاء الحكام ليسوا ائمة لأن إمامتهم للمسلمين باطلة ومنكر يجب انكاره..لانهم لايقيمون الدين ولم يجتمع عليهم المسلمون وانما اصحاب ملك سخروا المسلمين لصالحهم بل جعلوا الدين وسيلة لتحقيق مصالحهم الدنيوية فعطلوا الجهاد، ووالوا النصارى (أمريكا) وجلبوا على المسلمين كل شر وفساد. نسأل الله ان يريح المسلمين منهم ويجعل لهم من لدنه ولياً ويجعل لهم من لدنه نصيراً).

خشي ابن سعود من تمرّد جيشه العقائدي بعد استكمال بناء دولته، ولم يجد في المرحلة الأولى بدّاً من الإصطدام معه لكسر شوكته وإخضاعه لسلطته، وترويض نزعته القتالية المنفلتة، ولكن ذلك لم يكن كافياً، فقد نقل، بعد تصفية قيادات الإخوان المنافسين لسلطانه، التشدّد الإخواني من الخارج الى الداخل، أي إلى الجهاز البيروقراطي، حيث أنشأ جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لاستيعاب فلول الإخوان، وأوكل إليهم مهمة ممارسة دور الشرطة الدينية وبوليس الآداب، لإرغام الناس على الإلتزام الديني وفق الطريقة الوهابية. وصدر مرسوم ملكي عام 1930 بتشكيل هذا الجهاز الذي انتشرت فروعه في المدن والقرى والأرياف، وانضمّ إليه الآلاف من عناصر جيش الإخوان، وعملوا على خدمة أهداف الدعوة والدولة، أي نشر التعاليم الوهابية في كل أرجاء المملكة، وتثبيت دعائم السلطة السعودية.

وبالرغم من الانتقادات الواسعة لأنشطة وتجاوزات جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منذ نشأته وحتى اليوم، فإن آل سعود، وبخلاف ما يقال عن نزوعهم التحديثي، أبقوا على مصادر الدعم الثابتة لهذا الجهاز، ولم تحدث محاولات تنظيم عمل الجهاز سواء في 1971، أو سنة 1990، أو حتى 2008 أية تغييرات جوهرية، ينبىء عنها تواصل الانتهاكات لخصوصية الأفراد والعوائل، والتجاوزات على الحقوق الخاصة والعامة، تارة تحت عنوان (محاربة البدع)، وأخرى (الخلوة غير الشرعية)، وثالثة (الإنحرافات الأخلاقية). في تقرير سريّ أعدّته لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي ولجنة أخرى من وزارة الخارجية بناء على دراسة ميدانية تم تقديم خلاصتها الى بيل كلينتون سنة 1992، فور توليه رئاسة البيت الأبيض، جاء فيه أن نصيحة وجهتها اللجنتان الى الملك فهد بإجراء إصلاحات سياسية داخلية من أجل امتصاص غضب المطالبين بالإصلاح من مختلف الأطياف السياسية والأيديولوجية، فجاء ردّه سلبياً وقال بأنه يعرف كيف يواجه هؤلاء بأن يطلق عليهم (المطاوعة) حتى يكرهوا هذا الدين وكل الأديان السماوية.

وفي يونيو الماضي، انبرى وزير الداخلية الأمير نايف للدفاع عن التشدّد الديني، ودافع عن (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وتوعّد الصحافيين الذين يوجّهون انتقادات لهذا الجهاز بعقوبات صارمة، وقيل بأن قرارات بالتوقيف والفصل من العمل قد صدرت بحق عدد منهم بسبب مقالات كتبوها في نقد (الهيئة). وقد نشرت تقارير في التسعينيات عن هبات من الأمراء الكبار لهذا الجهاز الذي اعتبره الأمير نايف صنواً لـ (الأمن)، وقال عنه بأنه تأسس (بأمر من الله). نقول، بالرغم من الانتقادات ضد مخالفات رجال الهيئة للحريات الفردية من قبيل مداهمة المنازل، واعتقال أفراد في الشوارع والأسواق العامة والتي تعود الى مرحلة ما بعد التغييرات، أي بعد تولي الشيخ عبد العزيز السعيد رئاسة (الهيئة) في ديسمبر 1990 أو بعد تولي الشيخ عبد العزيز الحمين في فبراير 2009، فإن العائلة المالكة تتمسّك بخيار إبقاء هذا الجهاز خارج مجال المسائلة والتحقيق، باعتباره جزءً من كيانية الدولة وقوتها ومشروعيتها، حسب رد للأمير نايف على مدير تحرير صحيفة (سعودي جازيت) أحمد اليوسف قبل عدّة سنوات.

ولئن أدركنا حقيقة أن العلماء ألحقوا بإدارة الدولة، فإنها المسؤولة عما يصدر عنهم من مواقف متشدّدة، بل وجماعات متطرّفة وعنفية، إذ لا يمكن أن تتشكّل هذه الجماعات بأعداد كبيرة، وتحصل على مصادر دعم متعدّدة أيديولوجية وإجتماعية ومالية، ثم تطلق أفرادها في أرجاء العالم دونما أن تكون هناك جهة ما في العائلة المالكة تتولى إدارة هذه الجماعات، وتوجيهها بحيث تحقق أهدافاً محدّدة. ولهذا السبب أيضاً، فإن التشدّد الديني الذي تعكسه تفسيرات أيديولوجية للنصوص الدينية والتاريخية يأتي متوافقاً مع منظور ورغبة الطبقة الحاكمة، سوى في حالات نادرة كانت فيها الجماعات تمارس السياسة بطريقة المناورة مع العائلة المالكة من أجل الحصول على مكاسب محدّدة كما حصل إبان دورة العنف التي ضربت البلاد في الفترة ما بين 2003 ـ 2004.

ما يلفت الإنتباه أن عملية الفصل بين التشدّد الديني والطبقة الحاكمة، أي آل سعود، كانت قابلة للتسويق قبل بداية الألفية الثالثة، باعتبار أن الظاهرة القتالية في العقيدة الوهابية لم تبرز إلا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وهناك بدأ التعرّف على التطرّف الوهابي. ولكن بالنسبة للمتخصّصين في دراسة الوهابية، يجدون أن المخزون العنفي فيها بدأ منذ لحظة نشأتها، وأخذ في الانتشار على نطاق واسع منذ عام 1992، أي بعد أن قرر حلفاء الناتو في بروكسل نقل المعركة من المنجل إلأحمر الى الهلال الأخضر، أي من الشيوعية إلى الإسلام. ومن المصادفات المدهشة، أن في هذا العام، 1992، بدأت عودة الأفغان العرب الى بلدانهم، كما بدأت أنوية تنظيم القاعدة في التشكّل والعمل. ولذلك من الخطأ الفادح، ربط ظاهرة التطرّف الديني بالحركات الإسلامية العريقة مثل الإخوان المسلمين بكل تفريعاتها، وحتى الحركات الثورية ذات الأبعاد الوطنية في لبنان والعراق وتركيا وإيران.

لقد تحوّل الجهاد الأفعاني إلى ما يشبه صندوق باندورا، في ظل انشغال إقليمي ودولي بحرب العراق وإيران، الذي انفجر بصورة دراماتيكية فور الإنتهاء من الحرب الأفغانية التي كانت العائلة المالكة والمخابرات المركزية الأميركية تتوزّعان فيها الأدوار: الدعم المالي والبشري من جانب السعودية والتخطيط والتدريب من جانب السي آي أيه. لقد تم استغلال الأفغان العرب لتقويض العملية الديمقراطية في الجزائر، وتم إلغاء نتائج الإنتخابات التشريعية سنة 1991 بعد أن فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وبات الجميع يسمع بكثافة غير مسبوقة عن اختطاف الإسلاميين للديمقراطية، وبعد عقد واحد، أي في الحادي عشر من سبتمبر 2001 بدأ الحديث عن الإرهاب الإسلامي. وصارت التركة الإفغانية بصورة شبه كاملة في عهدة تنظيم القاعدة، الذي دخل على خط الجهاد الأفغاني في مرحلة متأخرة ولكن بفعل الأموال السعودية انفلقت الساحة الأفغانية، وصدرت في تلك الفترة كتابات من قبل صحافيين ومراقبين عرب وأجانب عن الدور السعودي في انقسام المجاهدين الأفغان، على وقع انتشار عقيدة التكفير القادمة من خلف الحدود.

نايف: لا أمن بلا (هيئة)

ومع الإعلان عن مسؤولية تنظيم القاعدة عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بدأت السعودية تستعد لحملة عقاب عسير من حلفائها في الغرب. حاول السعوديون التنصّل من أي دور لهم في نشأة ودعم تنظيم القاعدة، وكتب الأمير تركي الفيصل، مدير الاستخبارات العامة في السعودية والمسؤول عن تمويل نشاطات القاعدة بحسب مجلة (Paris Match) وغيرها، بهدف نفي أي علاقة بينه وبين زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، ولكن تقارير عدّة أميركية وأوروبية كشفت عن دور مؤسسات سعودية تجارية وخيرية، وأثرياء سعوديين رسميين في دعم نشاطات القاعدة في الغرب تحت غطاء دعوي، ووضعت خطة لنشر الوهابية في العالم، بما فيها العقائد المتشدّدة التي تصم المجتمعات الغربية بالكفر وتحرّض على الكراهية الدينية والعنف.

وحتى نهاية التسعينيات كانت لدى منظمة الندوة الإسلامية أكثر من 450 منظمة شبابية وطلابية إسلامية موزّعة على القارات الخمس، تستهدف نشر الدعوة الوهابية. كما عمدت السعودية الى تمويل بناء 200 كلية دينية و210 مركز إسلامي و1500 مسجداً منها 1345 مسجداً في عهد الملك فهد، و2000 مدرسة للأطفال في الدول غير الإسلامية، كما هو مثبّت في الموقع الشخصي للملك فهد على الإنترنت. وبحسب كلام لمستشار سابق بوزارة الخزانة الأميركية ديفيد أوفهوسر في يونيو 2004، فإن تقديرات إنفاق الحكومة السعودية على نشر المذهب الوهابي في العالم تجاوزمبلغ 75 مليار دولار، فيما قال إدوارد مورس، محلل نفطي في شركة هس لتجارة الطاقة، بأن الملك فهد خصّص حساباً نفطياً خاصاً يقوم بحجز قيمة مائتي ألف برميل يومياً ـ أي 1.8 مليار دولار في العام حسب مستوى الأسعار في عقد الثمانينات، وهنالك تقديرات تفيد بأن السعودية تنفق مابين مليارين ومليارين ونصف دولاراً سنوياً على نشر الوهابية في العالم. وتولت الحكومة السعودية تمويل كميات كبيرة من المنشورات الدينية وتم نقلها على متن الخطوط السعودية لتستقر في المراكز الدعوية والمساجد والكليات الدينية والمدارس وحتى الجامعات الحديثة، وتركّز المنشورات على عقيدة التوحيد ومظاهر الشرك والكفر في العالم.

واجه علماء وباحثون مسلمون الظاهرة السلفية بأبعادها الدولية، وبمضمونها الرجعي، مثل الشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي والأستاذ فهمي هويدي وآخرين، الذين نقدوا النزعة القشرية وفي نفس الوقت التكفيرية في الفكر الوهابي. ولأسباب لم تعد مكتومة، لم يشأ هؤلاء توجيه سهام النقد للعائلة المالكة باعتبارها الراعي الرسمي لانبثاث المعتقد السلفي خارج الحدود.

يمكن الزعم، بناء على معطيات عديدة، أن التشدّد الديني السلفي يمثّل ضمانة أساسية ليس لإسلامية الدولة السعودية بل لسلامتها واستقرارها ومشروعيتها، على الأقل وسط البيئة التي احتضنتها. أكثر من ذلك، إن وجود حليف ديني متشدّد مدجج بأيديولوجية صارمة ويتمتع بقاعدة شعبية عريضة متحفّزة لمقاتلة الخصوم في الداخل والخارج مثّل على الدوام حصانة للدولة، ما أملى عليها الإبقاء على مصادر شحن التشدّد الديني، الذي كان يعمل في فترة ما محلياً ضد قوى التغيير والإصلاح، ثم انتقلت بمعاركه ضد الدول المصنّفة باعتبارها معادية، مثل العراق وإيران وسوريا وحتى حركات سياسية دينية مثل حماس في فلسطين وحزب الله في لبنان.

تعرّف العراقيون عن قرب على طبيعة التشدّد الديني السلفي ومفاعيله الأمنية، وكان آخرها وتيرة التفجيرات المتصاعدة في بغداد وكركوك في يونيو الماضي، أي قبل موعد إنسحاب القوات الأميركية من المدن العراقية، ما أثار استفهاماً حول الرسالة السياسية من وراء تلك العمليات. وبحسب رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي هادي العامري في 27 يونيو الماضي فإن الحكومة السعودية تقف في مقدّمة دول إقليمية تخطط لعرقلة إنسحاب القوات الأميركية من المدن. ولفت العامري إلى تمويل السعودية لتنظيم القاعدة في العراق وفلول حزب البعث في العراق لتنفيذ عمليات إرهابية. وأشار الى فتاوى تكفيرية تصدر من السعودية.

وتنبّه باحثون في أدبيات تنظيم القاعدة أن ثمة تطابقاً أيديولوجياً بين التنظيم وبين التيار السلفي العام الموجود داخل السعودية، فكلاهماً في التشدّد الديني يستمد من نفس المرجعيات العقدية المتوافرة في متناول المنتمين للوهابية، ما دفع بسجين كويتي كان في معتقل غوانتنامو للقول بعيد الإفراج عنه بأن أفكار الشيخ سلمان بن عودة أخطر من أفكار ابن لادن.

في مقال سابق نشر في (الحجاز) بعنوان (المنابع الفكرية للتطرف.. متى يصبح الفكر السلفي المتشدد مادة حوارية؟)، ذكرنا بأن هناك نيّة مبيّتة لعدم إخضاع التطرف الوهابي لأي من الفعاليات الحوارية، خشية الوصول إلى منابعها الموصولة بالعائلة المالكة، ولذلك كان هناك إصرار من قبل الأمراء على (قذف لهب النار الى الخارج أفراداً وأفكاراً، لاخلاء الساحة من تهمة سنّ واستنان سنة التطرف التي تحمل بصمة سعودية خالصة). وجاء أيضاً (لقد ضربت العائلة المالكة صفحاً عن المصادر الفكرية للتوتر السياسي والعامل الأيديولوجي لقسمة المجتمع لادراكها بأن نقاشاً من هذا القبيل يؤول الى فتح ملفات أخرى لا تخرج العائلة منها معافاة، وكأنها برعاية هذا النقاش تعين خصومها على نفسها، فهكذا تنظر الى مراجعة الايديولوجية المشرعنة لسلطانها).

بدلاً عن ذلك، فإن الأمراء يعمدون إلى تجزئة العنف والتشدّد بحسب درجات الخطر على السلطة، فالفكر يصبح متطرّفاً إذا كان يستهدف السلطة، ولكنه لا يصبح كذلك إذا كان مصوّباً ضد المجتمع، بل قد يسدي خدمة جليلة للسلطة في وحدتها، كما تفعل (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الآن، وكذلك (لجنة المناصحة) التي تضمّ مشايخ الصحوة الذين حاربوا السلطة في التسعينيات وكانوا يوصمون بالغلو والخروج على ولي الأمر، ولكنهم اليوم يمثّلون الإعتدال، بل بلغ الحال بتسويق إطروحة الليبرالية الوهابية للخارج، كونّها تقدّم آراء في الانفتاح على الغرب، وحضارته، وتنبذ الخروج على الحكومة السعودية.

وكان عدد من المعلمين وخبراء التعليم قد طالبوا في 12 مارس 2006 بمناقشة ملف التطرف في المدارس والمناهج ضمن الحوار الوطني القادم. وقال بعض المعلّمين بأن أضراراً فادحة أصابتهم من قبل المتطرفين، وقال أحدهم بأنه عانى من تجربة مريرة مع بعض زملائه من الذين يدعون الى التطرف. ويصف ذلك المعلم بحسب صحيفة الوطن ما أصابه بالقول (عانيت كثيراً من هذا الخطر بحكم عملي كرائد للنشاط بالمدرسة التي أعمل بها حيث حملت على عاتقي مهمة توعية الطلاب بخطر الإرهاب وبيان أفكار الفئة الضالة، وقد عملت جاهداً على التحذير من خطر الغلو في الدين والتطرف والإرهاب من خلال الطابور الصباحي والإذاعة المدرسية وحصص النشاط ودروس التربية الوطنية، وهذا أثار بعض المعلمين المتشددين فبدأوا يؤلبون الطلاب وأولياء الأمور ضدي ويكيدون لي المكائد).

وجاء في خلاصة المقال (لقد اعتادت الدولة على إجتزاء المشكلة وتبعاً له خرجت الحلول مجتزئة، وستبقى المشكلة قائمة طالما لم يقرر رعاة الحوار وضع الفكر السلفي المتشدد بكامل حمولته تحت الضوء وعلى طاولة الحوار). ولكن ثمة إضافة ضرورية في هذا الصدد، وهي أن المقاربات التي قدّمها كتّاب وصحافيون وحتى بعض الأكاديميين لظاهرة التشدّد الديني تستبعد أي دور للسياسي، وبالخصوص للعائلة المالكة المسؤولة عن توفير مصادر القوة والدعم، بل الأخطر في توظيف الجماعات المتشدّدة في حروبها الداخلية والخارجية، حتى باتت الجماعات السلفية المسلّحة واحدة من أهم تجسيداتها في الخارج والتي جرى تأهيلها كيما تستغل في قمع قوى التغيير في الداخل.

الصفحة السابقة