دولة التوحيد ضد الوحدة

أيديولوجيا الشقاق

عبدالحميد قدس

حسم روّاد مشروع الوحدة الاسلامية في منتصف القرن الماضي المسألة الخلافية حول استهدافات الوحدة، وتأثيراتها المباشرة على المذاهب الاسلامية، فأجمعوا أمرهم على مفهوم (التقريب) درءً لأية إشكالات ذات صلة بسوء فهم وتقدير في أصل المشروع، فقالوا بأن الهدف من التقريب ليس افتئاتاً على حرية الاعتقاد لكل مذهب، ولا تأهيلاً لواقع يتنازل فيه كل مذهب للآخر، بل ما يستوجبه الواقع هو فهم وتفاهم وتعايش بين المذاهب الاسلامية التي عانت ردحاً طويلاً من الزمن من القطيعة المتبادلة، والخصومة الناشئة عن الجهل تارة والتجهيل المتناوب تارة. وكان تركيز الدولة العثمانية الرئيس في عهد السلطان عبد الحميد 1876- 1909 على فكرة الجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية في مواجهة التحديات الغربية للإسلام، ولم نعثر على موقف لعلماء الوهابية وأمراء آل سعود يشيدون قولاً أو عملاً بالمبادرة التوحيدية العثمانية. فقد جاء الوصف الوهابي للعثمانية مطابقاً للموقف من مبادرات سلاطينها كافرة، منبوذة.

ما يؤسف له أن مشروع التقريب رغم كونه شعلة أمل في سماء الأمة، في ظل بوادر توحيد سياسي كانت تنطلق في عواصم عربية من القاهرة مروراً بدمشق ووصولاً الى بغداد، في مطلع الستينيات كان مشروع التقريب بين المذاهب هو الآخر يشهد أولى مراحل تأسيسه الميمون. وكانت الرياض وحدها استثناءً في مجمل الحراك التقريبي، فكان لها موقف، بل أيديولوجية ضدّ وحدوية لم تكن تكتفي بالنأي عن مشاريع التقريب فحسب، بل أعلنت حرباً عليها. حتى عن طريق الخطأ، لم نعثر في الأدبيات السياسية والدينية السعودية ـ الوهابية على ما يشير الى رغبة في اعتناق مبدأ الوحدة الاسلامية، بل هناك كتلة هائلة من الأدلة على أن السعودية كانت على خصام تام مع مشاريع الوحدة من أي نوع سواء سياسية كانت أم دينية. على سبيل المثال، يصف المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز الوحدة العربية بأنها (دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه). ويضيف (وقد أحدثها الغربيون من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول.. فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام واغتر بها كثير من الأغمار ومن قلدهم من الجهال وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان). ويقول أيضاً: (هي دعوة باطلة وخطأ عظيم ومكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله).

في المنظور العام هناك ثلاث مواقف متنباينة للوهابية من مسألة الوحدة الاسلامية:

المفتي: الوحدة العربية دعوة جاهلية

الموقف المثالي التنزيهي

في إسقاط متأخر، وإعادة قراءة موجّهة للنص التراثي السلفي والوقائع السياسية السعودية ـ الوهابية، برز إتجاه رسمي داخل الدولة السعودية في ظل انتعاش أفكار الحوار والوحدة والتسامح الديني، يحاول تقديم قراءة أيديولوجية للتاريخ السعودي الوهابي بحيث يجعله منسجماً مع الأفكار الجديدة. ولنا وقفة متأنية مع ما كتبه الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وزير الشؤون الاسلامية والاوقاف والدعوة والارشاد، في مقالة بعنوان (الحديث عن عالمية الحج وأثره في تقوية تضامن المسلمين يقتضي ذكر بعض الحقائق). فالمقالة تعكس بجلاء الحقيقة المأمولة وليست الواقع الفعلي، لأننا أمام تصوير طوباوي ينتهك الواقع بكل قبائحه ودمويته، ففي هذا المقال تنقلب الصور التاريخية والراهنية لتقدّم نتائج ضدّية، أي ضد الحقيقة المنطقية. بداية، يعتبر آل الشيخ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بكونها (لاتزال تشكل رافدا قويا لدعم وحدة المسلمين وتقوية تضامنهم..). وبرر ذلك بالقول (فقد توحدت على هذه الدعوة الإصلاحية مجتمعات كثيرة، رأت في منهاجها وضوحا في تحقيق التوحيد الخالص لله - جل وعلا -، وعودة ميمونة راشدة إلى المصادر الأصلية للشريعة، وعدم التقيد بمذهب معين، والبعد عن مسائل الخلاف التقليدية، وتأكيدها على ضرورة الالتفاف حول إمام عادل ينصر الدعوة، ويقيم الدين، ويعمل وفق منهاج النبوة الذي تجتمع عليه الأمة كلها).

لا شك أن النص أقرب الى الدعوى المأمولة منه الى الحقيقة التاريخية، وليس هناك ما يعضده في الواقع التاريخي أو حتى في التراث السلفي بطبيعته الخصامية. إن الزعم بتوحّد مجتمعات كثيرة على الدعوة لا يتجاوز حدود الإقليم النجدي، بقدر من التحفّظ، وينسحب ذلك على سلسلة المزاعم الأخرى مثل العودة الى المصادر الأصلية للشريعة، وهي المقتصرة على المدرسة الحنبلية، حيث يتقيّد الخط الوهابي، أما البعد عن مسائل الخلاف التقليدية فذلك زعم ينقصه الدليل من الماضي والحاضر، فلم تقم الدعوة الوهابية على قاعدة مخاصمة الآخر، المختلف ليس في الفضاء الاسلامي العام بل داخل الإسلام السني حصرياً، ولطالما انهالت الاحكام التكفيرية القصوى على علماء المسلمين من المذاهب الإسلامية الاخرى في الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام ومصر وامتدّت الى شمال أفريقيا، كما تنبىء عنها الرسائل التي كان يبعث بها علماء المذهب الوهابي اليهم وتأمرهم بالدخول في الاسلام، وكذا المحاجّات العقدية التي كان يخوضها علماء الوهابية مع نظرائهم في العراق وبلاد الشام وشمال أفريقيا.

يقول آل الشيخ أيضاً بأن (التاريخ يشهد للملك عبد العزيز آل سعود أنه من أبرز الدعاة إلى التضامن الإسلامي قولا وعملا بتطبيقه للشريعة الإسلامية، وإقراره لمبدأ الشورى، ودعوته لعقد أول مؤتمر للتضامن الإسلامي في مكة المكرمة في 1344 هـ بعد تفكك الخلافة الإسلامية، فوضع الإطار المؤسسي المستمر للتضامن الإسلامي، وتبعه في ذلك أبناؤه الأوفياء لدينهم وأمتهم، فعزّزوا هذا التضامن من خلال إنشاء المؤسسات المتعددة التي تعمل على تقوية تضامن المسلمين، و دعم التعاون بينهم في المجالات المختلفة، ومحو التفرقة العنصرية، ودعم السلام والأمن والمصالحة بين الفئات المتصارعة، والوقوف إلى جانب كفاح الشعوب الإسلامية للمحافظة على حقوقها، و إيجاد المناخ المناسب لتعزيز التعارف والتفاهم وتبادل المصالح مع الدول الأخرى).

يبدو واضحاً أن الجرعة الدعائية تفوّقت على الجانب الموضوعي، كما تعكسه التفسيرات المفتعلة لوقائع ليست خافية على الباحثين في التاريخ السعودي، فقد كان المؤتمر المشار إليه لم يكن سوى مؤامرة حاكها ابن سعود لإضفاء مشروعية على احتلال قواته للحجاز، وهو ما تنبّهت له الحكومات الإسلامية التي امتنعت عن الحضور حتى لا يحظى الاحتلال السعودي للأماكن المقدّسة بقبول الدول الاسلامية الكبرى. وإذا ما ثبت بطلان تلك الدعوة، فإن ما عداها يصبح باطلاً فلا تعاون ولا سلام ولا أمن ولا مصالحة ولا مصالح ولا حقوق في ظل خديعة سياسية أراد إبن سعود تمريرها على المسلمين بعد أن وعد بأن يعطى الحجاز لأهله كيما يقرروا الحكم الذي يشأؤونه.

وثالثة المزاعم، أو حسب ما يصفها آل الشيخ بالحقائق، استقبال الملك لوفود الحجيج سعياً للتضامن والوحدة وترسيخ عوامل الالتقاء ونبذ الخلافات، ورابعها التشديد على معنى الاخوة الاسلامية، والوحدة الاسلامية، والتحذير من خطورة الفرقة وإثارة الفتن، والسعي الى جمع الكلمة وتقوية التضامن من خلال الحج. والسؤال هنا: هل يستحضر آل الشيخ بيانات التكفير والفتاوى الاقتلاعية التي تصدر تباعاً من علماء المذهب السلفي وطلبة العلم وهو يطلق دعوة مفتوحة تنطوي على الحرص على مآل الأمة ووحدتها وخطورة إثارة الفتن؟

أليس في المؤسسة الدينية التي تخرج منها آل الشيخ من استعمل لغة محقونة بأحكام التكفير والتجهيل ضد رموز دينيين في بلاده كما فعل الشيخ سفر الحوالي حين وصف عالم الحجاز الجليل الراحل السيد محمد علوي المالكي بأنه (داعية الشرك في هذا الزمان ومجدد ملة عمرو بن لحي) في إشارة إلى أول من أبدع عبادة الاصنام في مكة، يضاف الى ذلك طائفة الفتاوى الصادرة من أعلى مؤسسة دينية (هيئة كبار العلماء) من بينهم ابن باز، وابن عثيمين، وآخرين. لقد رصد بعضهم من طاله التكفير الوهابي فلم يسلم أحد من سهام تكفيرهم، حتى ثبتت النظرة عليهم بأنه مجرد مذهب تكفيري. فكيف يقول آل الشيخ بأن هذا البلد حريض على وحدة الأمة، أم أن الأمر لا يعدو كونه بياناً سياسياً بطابع دعائي وأمني مع اقتراب موسم الحج.

البوطي: التحذير من الوهابية

على المنوال نفسه يقدّم محمد أبو رمان تصويراً مثالياً عن الرؤية الحوارية السعودية. ففي مقالة له بعنوان (التقريب والسياسة والخلافات المذهبية)، نشرت في (الجزيرة نت)، قسم المعرفة، بتاريخ 20 فبراير 2008، أن انفتاح الحكومة السعودية على الشيعة في المنطقة الشرقية إذا ما تم اعتماده خياراً ليس في الداخل فحسب (وإنما في الخارج على صعيد عربي واسلامي عام على قاعدة الوحدة الاسلامية العامة والالتزام الوطني والسياسي وعلى مبدأ (التقريب بين مذاهب المسلمين)، فإن ذلك يمكن أن يشكّل تحوّلاً نوعياً في روافد الخطاب الإسلامي، وتقوم السعودية بدور واضح في هذا المجال).

يفترض هذا المقترح أن تطوّراً دراماتيكياً هائلاً قد طرأ على نهج التفكير السياسي والديني في السعودية، ولابد أن تكون تصريحات الأمير نايف المتكررة حول (سلفية الدولة السعودية) ليست أكثر من زلّة لسان، أو للاستعمال النجدي فحسب، فضلاً عن البيانات الطائفية التي ما فتأت تحقق توازن مع المحافل الحوارية ذات الطابع الاستعراضي والدعائي.

الموقف التاريخي

في محاضرة للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي بعنوان (الأسافين البريطانية لتفتيت الوحدة الإسلامية)، جاء فيه أن الاسفين الثالث الذي زرعه المستعمر البريطاني يتمثّل في الوهابية وقال عنه (وإنما غرسته بريطانيا في الجزيرة العربية) بحسب ما ذكره مؤلف كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) لتوماس لورانس، أو ما يعرف بإسم لورانس العرب، حيث حققت بريطانيا كثيراً مما ابتغت (قضي على الخلافة الجامعة والطوق الشامخ، ووضع السرطان الدائم في جسم العالم العربي والإسلامي متمثلاً في إسرائيل، ومزق العالم العربي والإسلامي بين هذه الأسافين الثلاثة (أي القاديانية، البابية والبهائية، والوهابية) ،لكن الإسلام لم يُقْضَ عليه).

أما اليوم يقول الشيخ البوطي (في ظل هذا الواقع يجري العمل صباح مساء، وبكل الوسائل، لا أقول للقضاء على الوحدة الإسلامية، وإنما أقول للقضاء على البقية الباقية من الوحدة الإسلامية. اليوم ينفخ نيران العمل على القضاء على الإسلام في الوهابية وفي الوسائل الأخرى..). وحذّر البوطي (أريد أن أقول لنفسي ولكل مسلم حذار من السلاح الأول الفتاك الذي يستعمل اليوم كما استعمل بالأمس للقضاء على وحدة هذه الأمة الإسلامية، واستثارة الفكر الوهابي ولابدَّ أن أذكر الأشياء بأسمائها واحد من أخطر هذه الأسلحة اليوم). (أنظر موقع الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي على النت).

في الرؤية التاريخية للوهابية يظهر أنه مذهب في جوهره متنافر مع الآخر حد الفناء، فهو لا يتعايش مع آخر، بل خلق كيما يسود بالقوة أو العزلة، أي أن يخضع خصمه فيحكمه، أو يعتزله فيعيش وحيداً، فهو في نهاية المطاف خط لارجعة عنه ولا فيه، أي أنه لم يخضع للمراجعة فيولّد أفكاراً ومواقف مختلفة، أي أقل تشدّداً وأكثر تسامحاً، بل أصبح التشدد والصرامة وتنزيه الذات مواصفات جوهرية في الوهابي إذا ما أراد الانتصار. ومن الطبيعي، والحال هذه، أن يحارب كل ما يفقده تميّزه، تفوّقه، إحساسه الوهمي بتمثّل وتمثيل الفرقة الناجية.

كل ما يحتويه تراثها العقدي والتاريخي يدعو لقطع العلاقة مع الآخر، بعد تكفيره واعلان الجهاد عليه، فكيف يمكن لنفس التراث أن ينهض كحافز على الوحدة والتقارب والتعايش..؟ ولذلك، فلا الوحدة الاسلامية، ولا الوحدة الوطنية، ولا أي شكل من أشكال الوحدة يمكن لها أن تنجح إذا ما كانت الوهابية وآل سعود طرفاً رئيسياً فيها، دع عنك أن يكونوا روّاداً لها.

سئل المفتي السابق الشيخ عبد العزيز إبن باز عن موقفه من مبدأ التقريب بين المذاهب فأجاب: (التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة غير ممكن؛ لأن العقيدة مختلفة.. كما أنه لا يمكن الجمع بين اليهود والنصارى والوثنيين وأهل السنة ، فكذلك لا يمكن التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة لاختلاف العقيدة التي أوضحناها). "مجموع فتاوى ابن باز" (27/325) .

الموقف السياسي الأيديولوجي

يتداول البعض طرفة معبّرة لأحد السلفيين الذي أدمن الطائفية وأراد أن يكون وحدوياً فقال (إنني ضد الطائفية والشيعية والصوفية..الخ) اعتقاداً منه أن الشيعية والصوفية هي مترادفات للطائفية، ولكنه في حقيقة الأمر ترجمة للوعي الطائفي المليء والذي يفصح عن نفسه في لحظات لاوعي.

ابن باز: التقريب غير ممكن!

مع نهاية القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين اندلعت المناظرات بين علماء المذهب الوهابي وطائفة كبيرة من المفكّرين وعلماء المذاهب الاسلامية، ودخل علماء الأزهر على خط المساجلات العقدية مع الوهابية التي اعتبروها خروجاً على الاسلام كونها ناصبت العداء لنبي الاسلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، بعد أن قاموا بتهديم بيوت زوجاته وأهل بيته وتخريب قبور الصحابة، وأعلنوا صراحة عن نية إخراج قبر المصطفى من مسجده وهدم مرقده الشريف، وكذلك تكفير جميع المسلمين المخالفين لدعوتهم، ومطالبتهم إياهم بالتوبة واعتناق المذهب الوهابي، باعتباره الطريقة الصحيحة في الدين. وبعد أن شنّ العالم الأزهري الشيخ الظواهري هجوماً لاذعاً على الحكومة السعودية في مؤتمر مكة عام 1929، كتبت مجلة (الأزهر) ما نصه (إن السعوديين هم الخوارج المارقون الذين قال فى شأنهم رسول اللّه (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وأنهم كفار وقطاع طرق وأنهم أشرار الخلق والخليقه عند اللّه وإنهم أضر الناس على الاسلام).

لاشك أن الهجوم الوهابي الشامل على المذاهب الاسلامية كافة وضعها في مواجهة المسلمين قاطبة، الذين نظروا اليها باعتبارها ظاهرة انشقاقية في الأمة، ما عزّز الشكوك حول ارتباطها بالمشروع الاستعماري التقسيمي الذي كان حاكماً على المشرق العربي الاسلامي. وأدى ذلك إلى انحسار نفوذها في مناطق كثيرة كان يأمل الوهابيون أن تسود فيها دعوتهم السلفية، فقد ظهر النفور العام من الدعوة الوهابية لأنها أخرجت كل من لم يكن وهابياً من دائرة الاسلام، بل وهدّدتهم بالقتل في حال رفض الاعتناق للدعوة الجديدة.

حين بزغت فكرة التقريب بين المذاهب في فترة الاربعينيات من القرن الماضي في مصر، حمل رايتها علماء الأزهر وتنادى علماء المسلمين من مختلف المذاهب السنية والشيعية الى الاضطلاع بأدوار فاعلة من أجل إنجاح المبادرة، وكانت جماعة الاخوان المسلمين في مقدّمة الأطراف التي استجابت لتلك الدعوة ممثلة في الشيخ حسن البنا ثم في قيادات الجماعة التي سارت على ذات الخط في الخمسينيات والستينيات. ولابد من الاشارة الى أن فعاليات التقريب بين المذاهب الاسلامية كانت تتم في ظل دولة قومية اشتراكية ممثلة في الزعيم جمال عبد الناصر، الذي ما إن غاب عن المشهد بعد وفاته المفاجئة في العام 1970 حتى بدأت إرهاصات هجمة مضادة قادتها الحكومة السعودية حيث فتحت النار على دار التقريب وشنّعت عليهم، ونعتتهم بأقذع النعوت، ووقع بعض أعضاء التقريب في دائرة الاستهداف السعودي مثل الشيخ الراحل العلامة محمد الغزالي والشيخ الباقوري والشيخ محمد متولي الشعراوي وكثير من علماء الأزهر.

في الوقت نفسه، شنّت مجلة (الإعتصام) المقرّبة من المدرسة السلفية الوهابية في مصر، وكذلك مجلة (التوحيد) الناطقة بإسم جماعة (أنصار السنة) وهي جماعة وهابية كانت تنشط في مصر، حملات متواصلة على دار التقريب وقامت بتحريض بعض العلماء المرتبطين بالمؤسسة الرسمية لجهة تعطيل أي نشاط تقريبي ينطلق من مصر. وما يؤسف له أن الشيخ المخلوف، مفتي الديار المصرية، خضع تحت تأثير الدعاية الوهابية في مصر فقام بتوجيه رسالة الى الشيخ الكبير الشعراوي، وكان حينذاك وزيراً للأوقاف، دعاه فيه الى إلغاء عضويته في دار التقريب، على أساس مخاوف من التقارب السني الشيعي، بل حذّر الشيخ الشعرواي من أن يعتنق التشيع من جراء تقاربه مع علمائهم، فيما يطالبه بالنأي عن أي لقاء مع سكرتير الدار الشيخ القمي لما فيه من استغلال لدعوة التقريب. لابد أن يكون هذا الموقف المفاجىء وغير المسبوق من قبل المفتي قد بعث أسئلة حول الجهة التي دخلت على خط التقارب بين المذاهب الاسلامية وأرادت تخريبه على حين غرّة.

وفي سبعينيات القرن الماضي، وضع الشيخ ابراهيم الجبهان كتابه المثير للجدل (تبديد الظلام وتنبيه النيام إلى خطر الشيعة والتشيع على المسلمين والاسلام)، وتكفّلت (إدارة الدعوة والافتاء والإرشاد) بإعادة طبعه في الثمانينات وثبت على غلافه عبارة (وقف لله تعالى). حمل المؤّلف على تجربة التقريب بين المذاهب الاسلامية وعدّها (من بركات السفارة الإسرائيلية): أنظر ص 24

ونسج آخرون من بعده على منواله في كيل الشتائم الهابطة ضد علماء المسلمين العاملين في مجال التقريب بين المذاهب الاسلامية ووصفوهم بالمغفّلين والمخدوعين أو الماكرين. وانفرد مشايخ الوهابية دون سواهم من علماء الدين المسلمين في أرجاء المعمورة للرد والتهجّم على كل مشروع تقريبي بين المذاهب الاسلامية، مستعينين بأدوات تعكس ما انطوت عليه سرائرهم حيث نظروا بعين المكر الى مشروع التقريب. وكتب عبد الله القفاري في كتابه (مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة) بأن (محاولات التقريب من جانب الشيعة مجرد ستار لنشر التشيع في ديار أهل السنة)، وكأن أهل السنة فئة قليلة حتى يخشى عليهم من التشيع، أو أن البناء السني من الإعوجاج حتى يحتاج الى تقويم. في واقع الأمر، إن شعور الوهابيين بكونهم أقلية داخل الأمة هو ما يدفعهم للتعبير عن مثل هذه الهواجس، فهم يدركون بفعل مواقفهم التكفيرية وتجاربهم الدموية بأنهم منبوذبون في المحيط الاسلامي العام، وهذا ما يدفعهم لمحاربة المبادرات التقريبية بين المسلمين، تماما كما يفعل ذلك الحكام السعوديون بوحي من مشاعر الخوف من الآخر، الحكومات الإقليمية والقوى الدولية.

داعية الوحدة: الشيخ الغزالي

يعبّر عالم الدين السلفي عن موقفه من دعوات الوحدة الاسلامية والتقريب بين المذاهب بعقلية البدوي الذي يعيش هاجساً إزاء الآخر، الخصم بالضرورة أو بالقوة، فينظر اليها باعتبارها خديعة، ومؤامرة، ومخطط، وكلها مفردات تنطوي على حذر شديد من أي مسعى وحدوي أو تقريبي يفضي الى اختراق ثقافي، أو عبث عقدي، أو تساكن اجتماعي. ولأنها مدرسة تميّزت بصرامتها ومواقفها العقدية البترية، حيث لم يكن ينجو مذهب من مذاهب المسلمين من سهام التكفير إلا نادراً، ولذلك فإنها تشعر بأن وجودها قائمة على القسمة والطرح وليس الجمع، تماماً كما هي السلطة السياسية، التي نشأت زمناً وبنياناً واستمراراً على قاعدة تقسيم المجتمع وليس توحيده.

لقد بات في حكم المؤكّد أن الوحدة من أي نوع ليست ظاهرة مقبولة من العائلة المالكة، كما هو الحال بالنسبة للشيخ السلفي الذي يرى في الوحدة إضراراً في تميّزه، ولذلك اشتغل بعضهم على نقض فتاوى التقريب، ومن بينها فتوى شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت بجواز التعبّد بالمذهب الإثني عشري، كما جاء في رد الشيخ سفر الحوالي على سؤال حول جواز العمل بفتوى الشيخ شلتوت، فنقض الفتوى وقال (فقد صدرت هذه الدعوى وهي دعوى التقريب بين المذاهب في مصر ودعا إليها بعض العلماء وراجت عند بعضهم -مع الأسف- حتى أصبحوا يدرسون ما يسمى الفقه الجعفري في الأزهر، ونتيجة لذلك يقول شلتوت وغيره مثل هذا القول، والحقيقة أن الفقه والأحكام الفقهية لأية طائفة لا يمكن أن تنفصل عن عقيدتها).

لم يتوقف الحوالي عند مجرد نقض الفتاوى التقريبية، بل وجّه نقداً شديداً الى رموز الجامعة الإسلامية مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، حيث وصف الأفغاني بأنه (رجل رافضي تلبّس بلباس السنة، وسمى نفسه الأفغاني رغم أنه إيراني الأصل، وهو رجل باطني يقول بوحدة الأديان، كما أنه عميل للسياسة الإنجليزية، وتلقن علومه في بلاطات ملوك أوروبا، فهو رجل - نستطيع أن نقول - لا صلة له بالإسلام). وقال كلاماً مشابهاً عن الشيخ محمد عبده (وأما الشيخ محمد عبده فإن لديه مواقف يُعرف منها الغيرة على الدين، والحرص على أوضاع المسلمين، ولكن هناك جوانب صريحة وقطعية في سيرته تدل على خلل في عقيدته، منها أنه تعلم اللغة الفرنسية ليعرف القوانين الفرنسية، ثم جاء بهذه القوانين الفرنسية وأقامها وطبقها بنفسه في مصر يوم أن كان رئيساً لمحكمة النقض ومفتياً للبلاد، وكان من دعاة خروج المرأة وسفورها، هذا لا شك فيه، وكان أيضاً في عقيدته أقرب إلى منهج المعتزلة وفي بعض الأمور إلى منهج الفلاسفة، ومن ذلك أنه يرجح أن البعث لا يكون بعثاً جسدياً، وإنما بعث وحشر روحي، وهذا ما حققه المحققون في دراستهم لتعليقه على الحاشية العضدية ، وغير ذلك من الضلالات).

وبصرف النظر عن التشوّهات الكبيرة في وعي الحوالي لسيرة الافغاني وعبده، والتي يظهر أنه قاربها بسطحية شديدة، دع عنك تساهله في إطلاق الأحكام المبنيّة على مغالطات، فإن ما يضمره الحوالي ليس الجانب الفكري في شخصية الافغاني وعبده، بل الجانب المذهبي، الذي يمثل نقطة فراقية معهما ومع كل المتقاربين في الأمة.

خلاصة القول: أن الوهابية ليست مذهباً توحيدياً بالمعنى الاجتماعي، ولا يتقن استعمال أدوات التقارب والتقريب، ولو استعملها فسينتهي الى النتيجة التقسيمية، تبدأ بالقسمة العقدية، وأن أمتى لا تجتمع على ضلالة، ولا بد من اقتفاء سيرة القرون الثلاثة الاولى، وما اجمعت عليه الأمة..حقائق لم تثبت في التاريخ يراد لها أن تكون نجوم هدي في طريق يفرض النظر اليه باعتباره خياراً جماعياً حراً وليس قهرياً ومنفرداً، أو مفروضاً من قبل فئة على باقي الفئات. فالوهابية تريدها وحدة على طريقتها بأن يذوب كل السنة وكل الشيعة في الوهابية فتخرج الأخيرة ممثلة عن وحدة الأمة، بل حينئذ فحسب تصبح وحدة الأمة مشروعة، وعلى حق، وجديرة بنيل بصمة الإجماع.

الصفحة السابقة