سيذكرها التاريخ..

آلاف جلدات التعزير: مبتكر سعودي!

أحمد زكي يماني

لا أجد صلة وثيقة أشدّ ارتباطاً بالشهر ـ رمضان ـ من مكة، التي هبط بها الوحي ونزل بها القرآن، أو من المسجد الحرام الذي تدرس به علوم الإسلام، والذي كان بمثابة جامعة، وصفها المستشرق الهولندي سنوك بأنها فريدة ومتميزة. وقد أكرمني الله في مقتبل العمر، بأن أدرس في تلك الجامعة،
أحمد زكي يماني
وأتنقّل من حلقة درس الى أخرى، حيث كان العلماء يدرسون المذاهب المختلفة، والعلوم المتعددة، كالتفسير والحديث والفقه بمذاهبه الأربعة، وأصول الفقه والرياضيات والفلك، والعربية بكل فروعها، الى غير ذلك مما يطول شرحه.

وأعود بالذاكرة الى تلك الفترة الذهبية من جامعة المسجد الحرام التي بدأت التدريس من عصر الصحابة الى أن شاء الله فقفلت مؤخراً.

وأهم ميزة لتلك الجامعة هي الإنفتاح وتعدد الآراء، وألاّ يفرض رأي واحد هو الصحيح وغيره خطأ، فإذا كان الحديث عن (الخلوة غير الشرعية) التي يجب منعها وتعزير من قام بها، تسمع في حلقة من حلقات الدرس أنها (أن يخلو رجل بامرأة لا يراهما أحد ولا يسمعهما أحد ولا يدخل عليهما أحد إلا بإذنهما). ويقول الشيخ الحنفي في حلقته أنها ـ أي الخلوة ـ هي التي لا يكون معها مانع من الوطء لا حقيقي ولا شرعي ولا طبيعي. أما الشيخ المالكي فيعرفها بأن خلوة الإهتداء من الهدوء والسكون، وأنها إرخاء الستور أو غلق الباب، ويقول شيخ آخر في حلقته أن انفراد رجل بامرأة في وجود الناس بحيث لا تحجبُ أشخاصهما منهم، بل بحيث لا يسمعون كلامهما (حكمها مباحة).

ولا أريد الإسترسال في أحكام الخلوة غير الشرعية، وأقوال فقهاء المذاهب السنيّة ينقلها عنهم علماء المسجد الحرام، ولكن أعيد للذاكرة حادثة أحد أساتذة جامعة أم القرى بمكة المكرمة الذي جاءته امرأة تطلب استشارته، وكانا في مقهى الجامعة، فانقض عليه بعضهم وقادوه للمحكمة، فقضى (الحكم الشرعي) بسجنه وجلده، رغم أنها جاءته وجلست معه في مكان عام يراه الناس ويحيطون به، وإن كانوا لا يسمعون كلامه!!!

ويقودني ذلك الحكم الى أحكام الجلد للتعزير بآلاف الجلدات، وهنا تعود الذاكرة الى حلقات العلم بالمسجد الحرام، حيث تظهر اختلافات الرأي بين فقهاء أهل السنّة، إذ يقول أحدهم أن الراجح عند الحنفية أن أكثر الجلد لا يزيد على تسعة وثلاثين سوطاً، وهو قول الإمام، وحجته حديث رواه البيهقى في السنن الكبرى عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (من بلغ حدّاً في غير حدّ فهو من المعتدين). وفي حلقة أخرى نجد رأياً مخالفاً هو أن أكثر التعزير خمسة وسبعون سوطاً، وهو قول أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ورواية عن الإمام مالك، ويستند هذا الرأي الى رواية لبعض الحنفية عن الإمام علي رضي الله عنه، أنه جعل حدّ التعزير خمسة وسبعين سوطاً.

ولو جئتَ الى حلقة لشيخ حنبلي لسمعته يقول أن أكثر الجلد يقرب في كل معصية الى جنسها مما فيه الحدّ. فالتعزير في اللمس والتقبيل يقرب من حد الزنا، وهذه رواية عن أبي يوسف، وقول للشافعية، ورواية عند الحنابلة، واختاره ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.

ولا أريد أن أوغل في آراء الفقهاء في الحدود العليا للجلد في التعزير، فالغالبية تضع حدوداً لها، والقلّة منهم من زاد في الجلد عن جلد الحدود مستندين الى أن الفاروق ابن الخطاب رضي الله عنه، جلد من زوّر ختمه مائة جلده، ثم كرّر الجلد.

ولكن لا أجد حرجاً من القول أن آلاف الجلدات في التعزير سيذكرها التاريخ بأنها مبتكرات بلادنا العزيزة، ولا شيء يؤرقني مثل سماع علماء الشريعة خارج وطننا وهم ينتقدون ما يجري عندنا، ولا أجد وسيلة للدفاع أو الشرح أو التبرير، وأسأل الله أن يلهم من بيده الأمر الى وضع مدوّنة للأحكام الشرعية يلتزم بها القضاة، وهي مدونة لا تلتزم بمذهب معيّن واحد، وتراعي في الإختيار ما يفرضه الواقع، ويتلاءم مع حاجات العصر واحتياجاته، وهذا أمرٌ لا يخالف الشرع، ولا يصدم واقعاً محلياً... ورحم الله ابن القيّم حين قال أن على الفقيه أن يزاوج بين الواجب والواقع. وفي التاريخ الإسلامي كانت (المجلّة) أول مدوّنة عند العثمانيين.

* من تهنئة الشيخ أحمد زكي يماني بقدوم شهر رمضان المبارك الماضي

الصفحة السابقة