لعبة الباب الدوّار..

السعودية وتهريب الإرهاب

عبد الوهاب فقي

هل تحتاج السعودية الى استيراد العنف من الخارج، أو حتى استنساخ العناصر التفجيرية للعنف من خلف الحدود، أليس في البلاد فائض من الأفكار، والاشخاص، والتجارب ما يحرّض على العنف. بالنسبة للمتخصّص في شؤون هذه الدولة، ترتسم أمامه علامة تعجب حيال التصريحات المتكررة الصادرة من الأمراء وهم يتحدثون عن منابع التطرف الخارجية، وانتقال تأثيراتها الى الداخل، حتى ردّد بعض الصحافيين، وقسم منهم وجد في الاشتغال على الموضوع قطاراً سريعاً نحو الشهرة. إلصاق أسماء خارجية بجماعات عنف أو تطرف في الداخل مثل السرورية والجامية والاخوان وغيرها يهدف الى تحويل الأنظار عن خزائن التشدّد المحلية التي مازالت قادرة على تقديم كل الدعم لجماعات يجري تشكيلها وتحريضها في الخارج للقيام بما هو أقصى وأقسى من أعمال عنفية.

محمد سرور زين العابدين

الحديث عن قيادات خفيّة للعنف لا يتغيا مجرد تبرئة ساحة الأمراء من ضلوع مباشر في الإرهاب، رغم أن التقارير المتناوبة التي تصدر في الغرب وخصوصاً الدول المتضررة من الأعمال الإرهابية تشير أحياناً الى وجود صلة للأمراء بتمويل جماعات العنف في الخارج، ولكن الأهم هو إبعاد المصادر الفكرية عن المسائلة القانونية والإعلامية، رغم أن دراسات عديدة صدرت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر تناولت تراث التشدّد الديني في السلفية الوهابية.

في المقابل، حاول الأمراء وكتيبة من الصحافيين المشتغلين على موضوع الجماعات المسلّحة في الداخل تصوير المشكلة وكأنها خارجية، فجرى فتح ملفات الجماعات الدينية في الخارج وذيولها المحلية، مثل السرورية والجامية والاخوان أو القطبية (نسبة الى سيد قطب)، وغيرها، على أمل أن تخمد الأضواء المسلّطة على الوهابية باعتبارها مصدر التغذية الرئيسي لكل العمليات الارهابية. وصار الكلام على هذه الجماعات كما لو أنها منجاة للسلفية الوهابية وللعائلة المالكة من العقاب القانوني والإعلامي على المستوى الدولي.

في محاولة لإحداث فصل تعسفي بين السلفية الوهابية والجماعات الدينية بهوياتها الخارجية، جرى تصوير السلفية وكانها تعرضت لاختطاف من قبل الجماعات الحديثة، أي تلك التي نقلت السلفية الى مشروع حركي وسياسي، فقالوا مثلاً بأن السرورية هي النموذج الحركي للسلفية المتشدّدة، وهي المسؤولة عن زرع عنصر الجهاد في السلفية الوهابية، فيما تم تصوير تسرّب العامل الإخواني الى السلفية الوهابية بأنه المسؤول عن تحويلها الى مشروع كوني بعد أن كان مجرد حركة دعوية ذات طابع محلي.

الأمير نايف الذي انبرى لمهمة تحميل جماعة الاخوان المسلمين في مصر مسؤولية انتشار الأفكار المحرّضة على العنف، والتطرف في السعودية، كما جاء في مقابلته مع صحيفة (السياسة) الكويتية في 25 نوفمبر 2002، تعمّد، على ما يبدو، تجاهل نصوص شبه واضحة في رسائل جهيمان العتيبي وجماعته يقدح فيها الاخوان المسلمين وجماعة التبليغ والدعوة، كما قام جهيمان بتطهير جماعته من أي عناصر قريبة من الاخوان المسلمين.

وتمضي الرواية الإعلامية في تصوير التداخلات الأيديولوجية والحركية بين السلفية الوهابية والجماعات الإسلامية في الخارج، لينتقل فيما بعد الى جانب التوزيع الجغرافي لكل جماعة، بعد أن أصبحت كل واحدة منها تياراً شعبياً، فبينما اقتصر وجود تيار الاخوان في المنطقتين الشرقية والغربية، كانت السروية تتمّدد في بقية المناطق، ولم تشهد الساحة المحلية صراعات علنية بين التيارات الحركية تلك لسبب بسيط هو غياب مناطق الاحتكاك بينها، فكل تيار يعمل في مجال مستقل عن الآخر، ولم يكن هناك تنافس بين التيارين. تقول الرواية الإعلامية بأن الصراع يحتدم بين التيارين في العالم الافتراضي، أي على شبكة الانترنت، أو في مجال النشر الدعوي، وبلغ الصراع ذروته في الانتخابات البلدية العام 2005، حيث انغمس قادة التيارين في حملات تشهير متبادلة، ومارس الجميع اللعبة الإنتخابية بكل أصولها الدنيوية، أي على أساس المصالح وليس المبادىء.

ثمة، بلا ريب، فجوة زمنية واسعة تفصل بين تاريخ تشكّل التيارات تلك وبين التأسيس الأيديولوجي للعنف، فنحن نتحدث عن فارق زمني يقترب من قرنين، أي منذ أن بدأ إرساء الأساس الديني للدولة السعودية. لم تكن السلفية الوهابية بحاجة الى السرورية كيما تستعير منها العنصر الجهادي، ففي الأدبيات السلفية التأسيسية ما يكفي من عناصر تحريضية على القتال، وبإمكان المرء أن يعثر في رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه والعلماء المتحدّرين من مدرسته على كتلة نصوص تشكّل رؤية أيديولوجية محكمة تكفّلت بتوفير وصفة المشروعية للدولة السعودية، وهي رؤية تقوم على مكوّنين أساسيين: تكفير المجتمعات المجاورة، وإعلان الجهاد ضدها. بل أمكن القول، بأن من نبّه التيارات الحركية سواء في مصر أو الأردن الى الفكر التكفيري والقتالي لدى الشيخ ابن تيمية هي السلفية الوهابية وليس العكس، كما تكشف مصنّفات ورسائل علماء المدرسة الوهابية. وقد تحدّثنا عن ذلك مطوّلاً في الاعداد السابقة.

أبو بكر الجزائري

أما البعد الكوني في السلفية القتالية، فلم يكن المسؤول عنه الإخوان المسلمين، ولم يكن من مهمات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين إشاعة الرعب في أرجاء العالم، كما هو الحال بالنسبة للسلفية الوهابية التي بدأت في نجد ثم أطلقت العنان لنزعتها التكفيرية كيما تبرر مقاتلة المجتمعات في المناطق القريبة والبعيدة فغزت بادية العراق، وبادية الشام وكل أنحاء الجزيرة العربية بما في ذلك شمال اليمن وبلدان الخليج الحالية، ولو قدّر لها التمدّد خارج هذا المجال لفعلت، وكانت ترى في نفسها (الطائفة المنصورة) التي يكتب على أيدي عناصرها نشر الهداية للبشر قاطبة. صحيح، أن البعد الكوني للسلفية القتالية كما نراها اليوم يحتّل المشهد الإعلامي الدولي، ولكنه امتداد طبيعي وايديولوجي للنزعات الكونية التأسيسية للسلفية الوهابية. ولابد من الإشارة إلى أن الانتشار الدولي للسلفية الوهابية منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي هو ما وفّر للجماعات القتالية بنيّة تحتية واسعة وصلبة كيما تحقق أحلامها القديمة.

ما يلزم لفت الإنتباه إليه، أن أغلب الأسماء التي أضفيت على جماعات بعينها مثل الشيخ أبو بكر الجزائري، ومحمد بن سرور زين العابدين، والشيخ ربيع المدخلي، والشيخ مقبل الوادعي، والشيخ محمد أمان الجامي، وغيرهم لم تكن كما يراد تصويرها بأنها جماعات نشأت في الخارج ثم نقلت تأثيراتها الى الداخل، بل هي في الأصل ذات منشأ أيديولوجي داخلي، تربت في المدرسة السلفية الوهابية وتشرّبت أفكارها المتشدّدة سواء في الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة أو جامعة أم القرى بمكة المكرمة أو جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. ولابد هنا من الإشارة الى مواصفات هذه الشخصيات:

أولاً: أنهم أكثر ولاءً لآل سعود من التيار السلفي المحلي ولم يكن لديهم تحفظات على حكم آل سعود، وهم النموذج الأقصى يمينية في العلاقة بين علماء الوهابية والدولة، وهم ضد العداء للنظام، والتأكيد على فضائل النظام، وربما ساعدت غربتهم على تبني موقف متملّق من النظام حتى قال الشيخ أبو بكر الجزائري في كتابه (الإعلام بأن العزف والغناء حرام، ط. 1407ص 57)،(لو لم يبق إلاّ عجوزٌ واحدة من آل سعود لم يكن لها أن تتنازل عن مبدأ الحقّ). وكان جهيمان العتيبي لا يثق به ويتّهمه بالتجسس عليه وكان ينقل ما يدور في الجلسات الخاصة التي كان يحضرها مع جهيمان وجماعته الى الحكومة، ونقل الشيخ مقبل الوادعي في كتابه (المخرج من الفتنة) (ص 76 سنة 1983)، عن جهيمان قوله (نحن لا نثق به… هناك مجالس سريّة بيننا بلغت الحكومة… فمن بلّغها؟!).

ثانياً: أن أكثرهم له امتدادات خارجية بالتنسيق مع الدولة السعودية، وليس كما يصوّره البعض بأن هذه الجماعات نشأت خارج عباءة الدولة أو أنها هرّبت بضاعتها الأيديولوجية والحركية الى الداخل. فقد اشتغل أبو بكر الجزائري، المقرّب من وزارة الداخلية، على السلفية في الجزائر وفي فرنسا، والوادعي ثم المدخلي على اليمنيين وبالذات على الشوافع والزيود، وقد أشعل ربيع المدخلي بحركته التكفيرية في منطقة صعدة بشمال اليمن شرارة الحرب الأولى العام 2004. أما الشيخ الجامي القادم من الحبشة فدرس على كبار مشايخ السلفية المعاصرة مثل الشيخ محمد بن ابراهيم والشيخ ابن باز، وكان يصنّف على علماء (أهل المدينة)، وكانت له جولات تبليغية في الخارج وخصوصاً في القارة الأفريقية، وحمل راية الهجوم على الجماعات الأخرى السرورية والقطبية وغيرها. وقال عنه الشيخ محمد بن علي بن محمد بن ثاني، المدرّس بالمسجد النبوي في كتابه المؤرّخ 4 محرم 1417هـ (وله نشاط في المحاضرات في المساجد والندوات العلمية في الداخل والخارج). وله كتاب بعنوان (أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام) يحتوي على عرض للدعوة في أفريقيا، ورسالة أخرى بعنوان (الإسلام في أفريقيا عبر التاريخ).

كان من المدافعين عن الدولة السعودية، وجاء في كتاب للشيخ الدكتور صالح بن عبد الله العبود مدير الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة بتاريخ 15 ربيع الثاني سنة 1417هـ : في عام خمسة وتسعين وثلاثمائة وألف من هجرة المصطفى ص كانت بيننا وبين أناس من خارج هذه البلاد ممن ابتلينا بهم خلافات في العقيدة والمنهج، يريدون معارضتنا في عقيدتنا الإسلامية وسياسة حكومتنا الراشدة ، فكتبت إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وغيره من علماء الدعوة في بلادنا أشكو من بعض هذه الأمور، فلقيت الشيخ محمد أمان في مكة بدار الحديث وأطلعته على ما كتبت أستشيره وأستطلع رأيه، فشد من عزمي وشرح لي بكلمة موجزة معنى المرجعية الصحيحة وقال: إن هؤلاء العلماء في بلادنا من علماء الدعوة إلى الله هم المرجع الذين يؤخذ عنهم الاعتقاد فينبغي ألا نتردد في الرفع لهم عن كل مخالفة تحدث وينبغي أن نقول لهم أنتم مرجعنا في مثل هذه المسائل العقدية فإذا لم نجدكم أو لم تحتملونا فقدناكم.. ويضيف (وافترقنا وأنا أحمل هذه الروح فكان لها تأثير بأمر الله جيد، وفهمت فهماً راسخاً كيف ينبغي أن نحافظ على سلسلة مرجعيتنا وألا نلتفت إلى أولئك الأجانب مهما تظاهروا به من التزيي بالعلم و لباس العلماء، وأقصد بالأجانب الأجانب عن عقيدة السلف الصالح ممن تلقوا ثقافتهم وتشبعت أفكارهم بمنطق اليونان وفلسفة الفلاسفة البعيدين عن الوحي الإلهي بقسميه الكتاب والسنَّة، المغرورين بآرائهم وعقولهم المختلطة وشبهاتهم المنحرفة).

محمد أمان الجامي

وصنّف الجامي كتباً في الدفاع عن نظام الحكم في السعودية ومعارضة الديمقراطية، وهما (حقيقة الديموقراطية وأنها ليست من الإسلام) و( للجزيرة العربية خصوصية فلا تنبت الديموقراطية)، و(حقيقة الشورى في الإسلام).

أما محمد سرور زين العابدين (فلسطيني الأصل) فقد التحق بالمدرسة السلفية بعد انشقاقه عن حركة الاخوان في سورية بعد أحداث حماه في مطلع الثمانينات ودرس في جامعة الامام محمد بن سعود وتشبّع بالفكر السلفي في السعودية ثم سافر الى افغانستان للجهاد في الثمانينات ثم انتقل الى بريطانيا وعاش في مدينة بريمنجهام وكان يصدر مجلة (السنة) والتي عارض فيها الحكومة السعودية فترة من الوقت قبل أن يعود أدراجه الى الخط السلفي التقليدي بنزعته الطائفية النافرة. وانتقل الى الأردن في العام 2004.

ورغم أن هناك من حاول ربط السرورية بالإخوان، على أساس اعتماد فكرة التنظيم باعتبارها منتجاً إخوانياً في المجال الاسلامي، ألا أن التباينات الكبيرة بينهما كانت واضحة في اعتماد الأولى على فكر ابن تيمية، والامتثال للمرجعية السلفية المتشدّدة. وعارضوا انخراط الاسلاميين في السلطة.

في ضوء ما سبق، فإن دور الخارج في صنع توجّهات عنفية متشدّدة في الداخل لم يكن سوى إسقاط متأخر ومحاولة هروب من مسؤولة التورّط في دوامة العنف. لقد بات ثابتاً الآن أن السعودية وأيديولوجيتها السلفية وعلماء المؤسسة الدينية التابعين لها هي من تتصدر قائمة الارهاب في العالم.

ونذكّر هنا بالتقرير الذي نشرته مجلة فورين بوليسي في عددها الصادر في يوليو/أغسطس 2006 بعنوان (مع أصدقاء مثل هؤلاء)، تم تقديم سؤال حول إسم البلد الذي ينتج العدد الأكبر من الارهابيين الدوليين، فأشار خبراء السياسة الخارجية الى السعودية وباكستان ومصر، وهي الدول الثلاث الحليفة للولايات المتحدة في العالم الإسلامي. مايلفت الإنتباه بدرجة خاصة أن ثلثي (أي 62) من المشاركين في التقييم عرّفوا السعودية بأنها المحور القيادي للمشكلة، فيما أشار 13 بالمئة الى مصر، و11 بالمئة الى باكستان. وحسب فواز جرجس من كلية ساره لورانس أن السعودية بعد الحادي عشر من سبتمبر قد برزت باعتبارها مسرحاً رئيسياً للأفكار والأفعال الجهادية السلفية. أما الدول الأخرى مثل العراق، ولبنان، وفلسطين، وايران، واليمن، وأفغانستان فإن الخبراء وضعوا لكل من هذه الدولة علامة واحدة فحسب فيما يرتبط بالإرهاب الدولي.

نقطة الجدل الجوهرية تقع بالدقة في استمرار تدفق مقاتلين من وسط السعودية للإلتحاق في صفوف القاعدة، وتصاعد نبرة الخطاب التحريضي لدى مشايخ السلفية المتشدّدين. يقول المراقبون بأن مصر لأنها التزمت بتعهّداتها بملاحقة ما تعتبره واشنطن إرهاباً فقد حصلت على مساعدة مالية منتظمة منذ العام 1979 وحتى الآن والتي تتجاوز ستين مليار دولار أميركي، وكذلك فعلت باكستان لولا أنها لم تعد تحظى بتلك الأولوية في برنامج المساعدات الإقتصادية الخارجية للولايات المتحدة، فأوكلت المهمة الى دول حليفة لواشنطن للعب هذا الدور عن طريق عقود واتفاقيات عسكرية وتجارية كما جرى بين العراق وباكستان، وبين الأخيرة من جهة والسعودية والامارات من جهة ثانية، من أجل مواجهة تحديات اقتصادية وأمنية عاجلة.

أما بالنسبة للسعودية، فإن الأمر مختلف تماماً، ولو أردنا كلاماً مختصراً لقلنا بأن الأميركيين لا يثقون بآل سعود، وقد خبروا ألاعيبهم، وكلاهما يلعبان السياسة بأقذر أشكالها. لا يقدّم آل سعود معلومات صحيحة للأميركيين، وهذا معلوم منذ سنوات طويلة، وأن التشدد الديني السلفي في الداخل هو أحد أوراق اللعبة بيد آل سعود حتى مع الأميركيين، الذي يدركون حقيقة ما يريده حلفائهم في الرياض. بطيئون في ملاحقة عناصر القاعدة، ومشايخ التحريض، بل إن لعبة (الباب الدوّار) باتت جزء من مشهد السياسة السعودية في قضية الإرهاب.

الصفحة السابقة