ماوراء الإرتدادات الدينية في السعودية

الوهابيّة تخلق تطرّفاً ضدّ الدين

سعد الشريف

الحقيقة على الأرض تقول بأن هناك ردّة حادّة عن الدين في السعودية، ليس التجلّي الوحيد لها تزايد الأفراد الذين تحولوا الى المسيحية فحسب، بل التحلّل من الدين بكامله، حتى أنك تجد تعبيرات إلحادية، ونقاشات حامية حول موضوعات تشكيكية في الدين، تدور في المنتديات السعودية، يستحيل أن تجد مثيلاً لها في أي بلد عربي آخر. كما أن درجة الإنحلال الأخلاقي غير مسبوقة في تاريخ المملكة، لا من حيث الكتابة حوله، كما فعلت الروايات السعودية ـ مزيّفة الأسماء ـ والتي انتشرت في السنوات الأخيرة، ولا من جهة تصاعد حجم التحلل ممارسة فحسب، بل أن هناك ما يشبه التنظير للتحلّل والدعوة الفجّة إليه وتمجيده.

خلال الشهرين الماضيين ارتفع منسوب كل هذا التوجّه، في ظل إسقاط المقدّس الديني، ومن يزعم أنه يمثله من مشايخ السلفية. حيث شهدنا مواجهات فكرية وتشهيرية مفتوحة، تغذّيها أطراف سياسية رسمية، عبر المقالات الصحافية والمنتديات الممولة من أمراء العائلة المالكة. لم تقف المسألة عند إثارات الشيخ محمد العريفي التكفيرية للآخر وإعلان عزمه الساذج لزيارة القدس لبث برنامج تلفزيوني؛ بل تطوّر الأمر الى طرح موضوع الإختلاط والتنديد بالمشايخ الذين قالوا بكفر من اعتقد به، والذين كان بينهم الشيخ السلفي الغامدي، ليتوّج الأمر بقضية الشيخ النجيمي وزيارته للكويت واختلاطه بالنساء ـ حسب توصيف السلفية ـ ومن ثمّ الهجوم على المفتي السعودي عبدالعزيز آل الشيخ، ولاتزال المعركة مفتوحة من كل الجهات.

ليس ما يجري اليوم يمثل تصادماً بين الإيمان والكفر، ولا بين العفّة والتحلل.. يعبّر عنه مشايخ السلفية من طرف، وفي الطرف الآخر التيار الليبرالي.

كلا. فالقضية في جذورها أبعد من هذا.

يمكن القول بضرس قاطع، أن التطرف السلفي في المملكة صنع في السابق ويصنع حالياً نقيضه. وهو تطرف أدّى فيما سبق الى تحلل جمهرة عن الدين وعن الأعراف الاجتماعية أيضاً، كرد فعل. لعلنا لسنا بحاجة الى ذكر عبدالله القصيمي، الذين كان شيخاً سلفياً تكفيرياً كما تعبر عن ذلك كتاباته العديدة منذ الثلاثينيات الميلادية، ثم تحوّل الى الإلحاد والدفاع عن الشيطان نفسه في كتبه الأخيرة. هذا مجرد نموذج واحد، وهناك نماذج ليس من المستحسن ذكرها.

التطرف الديني السلفي أخرج الناس من دين الله أفواجا. وبالتالي فهو أخرج نقيضه، خاصة بين أفراد بيئة التيار السلفي الإجتماعية، والذين يأتي منهم اليوم ـ وليس من البيئات المذهبية الأخرى في الحجاز والشرق والجنوب ـ المصادمة الحادّة للمقدس، وللمشاعر الدينية. وهذا بحدّ ذاته يكشف أن الأفراد الذين تعرّضوا لضغوط السلفية فكانوا مختبر تجاربها، هم أكثر من تمرّد على التيار السلفي ومشايخه، بل وصل الحال الى التمرّد على كل ما له علاقة بالدين.

لكن هناك وجهاً آخر للقضية. ويتعلق بانسداد طرق الإصلاح السياسي بشكل تام. فهذا الجدل والتحوّل غير المسبوق في انحدار موقع السلفية ورجالها في المملكة، يأتي في ظل غياب أية حديث عن الإصلاح، أياً كانت وجهته أو طريقة مقاربته. فلماذا تحوّلت النخب ـ أو بعضها ـ عن هذا المعترك، وتركت الموضوع السياسي، وانشغلت بموضوع آخر فيه الكثير من المناكفة لمشايخ السلفية وليس للنظام السياسي ورموزه؟

القصيمي: خادم الوهابية الملحد!

يلاحظ أن النخب السعودية عامة ليست مستعدّة لدفع ثمن التغيير، ولو في حدوده الدنيا، كما فعلت نخب أخرى خليجية. كانت تلك النخب تعوّل على أن يصلح الأمراء السعوديون أنفسهم بدون ضغط، فلما لم يحدث ذلك، ابتُنيت الآمال على إضعاف قوى المعارضة للإصلاح، وفي مقدمها مشايخ المؤسسة الدينية، والدفع بفك الإرتباط بينها وبين العائلة المالكة. وهذه الأخيرة، سوّقت اتهاماً بأن من يقف ضد الإصلاح الإجتماعي والسياسي هم المشايخ، في حين ان الحقيقة تقول أن الأمراء أنفسهم لا يريدون الإصلاح، وأن المشايخ مجرد جزء من التحصينات التي يستخدمونها لمنع التغيير.

ابتنيت آمال أخرى في التغيير الآتي من خلال الإنشقاقات في العائلة المالكة، وفعلاً فإن الإنشقاقات اتسعت خلال العقد الماضي بشكل كبير، ولكن امراء العائلة المالكة أثبتوا حتى الآن أنهم قد تعلّموا من تجربتهم التاريخية في الستينيات الميلادية الماضية (صراع سعود وفيصل) وبالتالي فإن الصمت والرهان على ضعف النظام من خلال الانشقاقات الداخلية، أمرٌ سلبي ولن يتحقق على الأرجح. آخرون راهنوا على ضعف النظام من خلال متغيرات إقليمية ودولية: حروب مثلاً، أو تدخلات أجنبية في الشأن الداخلي تضغط عليه للإصلاح. ومثل هذا الرهان تصاعد بعيد أحداث سبتمبر 2001، والآمال بشأنه تبخّرت أيضاً، فلا أحد من الغرب مستعد لقبول تحول ديمقراطي في السعودية في وقت تلبّي فيه العائلة المالكة للغرب كل ما يريده من خلال سياساتها تجاه القضايا العربية او من خلال سياساتها النفطية والمالية وغيرها.

الآن هناك من لا يريد أن يراهن على قواه الذاتية، ولا على مواجهة النظام بشكل مباشر، وإنما على تخريب النسيج الإجتماعي عامّة. ولكن ما يحدث اليوم ليس بعيداً عن السلطة نفسها، إن لم تكن هي وراء ظاهرة التمرّد على الدين والأخلاق. وإن الأقطاب التي تدفع بهذا الإتجاه، معروفة الأسماء، ولها صلة قويّة بأمراء محددين في العائلة المالكة، ما يعني أنهم لا يستهدفون إصلاحاً سياسياً كما يفترض عبر إزالة إحدى العقبات التي تقف أمامه، وهي قوة مشايخ السلفية الرسميين، بل همّهم الوحيد زيادة الفسحة والحرية الإجتماعية التي خنقها المشايخ بحجّة (سدّ الذرائع). وما يرجّح هذا، أن الحكومة هي التي أفسحت المجال للصحافة والمنتديات (التي هي خاضعة للرقابة المباشرة) بأن تنال من المؤسسة الدينية ورجالها، بالخبر والمقالة والنكتة والشتيمة والتعيير وتصيّد الأخطاء.

هل يمكن القول ـ إذن ـ بأن المقصود من كل هذا هو تمرير سياسات حكومية معيّنة بعد أن يتمّ إضعاف المشايخ المتشددين وقوّتهم؟. مثلاً: سواقة المرأة، التي يتداول الحديث بأنه قد يفسح المجال لها خلال بضعة أشهر؛ وكذلك مسألة الإختلاط في الدراسة في المرحلة الإبتدائية كما في العمل.

هناك رأي يقول، بأن العائلة المالكة، لا تريد التخلّي عن الشرعية الدينية المحدودة التي يوفرها مشايخ السلفية، باعتبارهم يمثلون شريحة لا تتجاوز ربع السكان، وجل ما تسعى إليه إضعافهم بشكل كبير، على أن يبقوا في اليد وقت الحاجة السياسية. بمعنى آخر، فإن إضعاف المؤسسة الدينية شأن مؤقت، ورهين ببعض اطراف الحكم وليس كلهم (الملك وليس نايف وزير الداخلية والجناح السديري)، وبالتالي فهو لن يؤدي الى إضعاف النظام حين يتخلّى عن بعض قوته، بل سيكسب من سياسته هذه شرائح ساخطة بسبب التضييقات غير المحتملة من متطرفي السلفية، وليبرّيء نفسه ويحوّل كامل اللوم على المشايخ.

في المدى البعيد، قد يقود هذا الحراك المعارض لمشايخ السلفية الى تهيئة الأجواء لتغيير سياسي. فتقليص اعتماد نظام الحكم على الشرعية الدينية بحاجة الى توفيرها من مكان آخر: زيادة حجم الإنجاز المادي الذي تفتقد اليه العائلة المالكة اليوم؛ أو الإنتخابات وصناديق الإقتراع.

الطريق الى ذلك بعيد، ما لم يدفع الشعب ثمن التغيير.

الصفحة السابقة