التقليدية السلفية والعقل..

من تجهيل الأتباع إلى أزمة التأويل

محمد بن علي المحمود


استاذ جامعي فصل مؤخراً من عمله بسبب كتاباته


محمد بن علي المحمود

كيف تفهم التقليدية التاريخَ، تاريخَها بالذات؟ هل تدرك التقليدية - على مستوى العقل الواعي - طبيعة فعلها التجهيلي الذي مارسته وتُمارسه منذ بداية التشكل في القرون الأولى، أم التقليد بما يحمله من شحنات توثينية، كان ولا يزال فاعلًا فيها، يحجب عنها طبيعة هذا الفعل (= التجهيل)، وينقله - في تصورها - من سياقه الفعلي (وهو سياق سلبي) إلى سياق افتراضي، سياق يتم تحميله - ادّعاءً - بالتضمينات الإيجابية التي تنطوي عليها مفردات : الأصالة، والانتماء، والإخلاص، والتديّن المتجرد من المطامع والأهواء؟

التقليدية تدرك - على مستويات متعددة ومتباينة - أن تاريخ تشكلها مغروس في تاريخ التجاذبات السياسية، وأن رحلة نموها بدأت من رحم الإيديولوجيا التي أرادت لها السياسة أن تسود؛ لتكون خط المواجهة الفكري - الديني، ضد التيارات الثورية التي كانت، كما التقليدية، تعتصم بمقولات الدين؛ لتحشد أكبر عدد من الأتباع.

إذن، المزايدة على الانتماء الديني لم تنبع من ذات الديني، أي لم تكن حاجة دينية صِرفة؛ بقدر ما كانت حاجة مدنية مُلحة، تستخدمها وتتنازعها التيارات السياسية في ذلك العصر المجيد.

ومن الطبيعي، والحال كذلك، أن ينتصر التيار الاتباعي؛ لأن نسق الانقياد الأعمى الكامن فيه، كفيل بأن يحشد له كثيرا من الأتباع، وأن يكون هؤلاء الأتباع (أتباع التيار النقلي الاتباعي) أشد انقيادا؛ لأنهم أشد اتباعا. وفي النهاية، ينتصر من يستطيع تطويع أكبر قدر من الأتباع، ومن يكن أتباعه أشد طواعية وامتثالا من الآخرين؛ بحيث يأخذون الأقوال - سواء في الدين أو في السياسة - كأوامر مطروحة للتنفيذ، لا كرؤى تحتمل التفكير، فضلا عن أن تُستنزف صرامتها بالتأويل.

انتصرت التقليدية قديما لأن ارتباطها بالدنيا كان أعمق؛ رغم كونها تدعي أنها تنبع من المعيارية النصية للدين. كانت التقليدية هي الأقدر على حشد الأتباع، وعلى تطويع هؤلاء الأتباع، ومن ثم، الأقدر على المُرابحة بأوجاع البائسين من جهة، وبأطماعهم وتطلعاتهم من جهة أخرى. أي أن إمكانية التفاوض لدى التقليدية كانت قوية في سياق التحالفات العشائرية التي تدخل في تركيب معادلات القوى، وخاصة تلك التي سادت زمن الأمويين أو ما قبلهم بقليل.

انتصرت التقليدية في الماضي، لا لكونها الأصدق تعبيراً عن مراد النص الأول، ولا لكونها التمثيل الحقيقي لمبادئ الإسلام، وإنما كان انتصارها لكونها الأكثر ملاءمة لتوظيف الإرادات السياسية؛ بوصفها إيديولوجيا انقياد وخنوع وخضوع.

ولأن أتباع التقليدية هم من البسطاء والسذج الذين يرصدون الأشياء كما يرونها، يرصدونها في وجودها المباشر، دون أن يتعقلوها؛ فقد انخدعوا بانتصار التقليدية التاريخي، وتصورا أن هذا الانتصار تعبير صريح عن إرادة عليا، إرادة تجعل من مثل هذا الانتصار في الصراعات العشائرية مكافأة على انتهاج الطريق الصحيح.

ولا شك أن هذا الانتصار الغشوم، وهذا التصور الموهوم المبني عليه، قادا إلى شرعنة التقليدية في التاريخ؛ لتكون هي (= التقليدية) هوية الأمة على مستوى الفكر كما على مستوى الواقع؛ ولتؤذن بعد ذلك بغياب ثقافة العقل لصالح ثقافة النقل، ومن ثم؛ لتعيش الأمة تاريخها مثقلة بأعباء وأوزار أزمنة التخلف والانحطاط.

تهميش العقل أو تحييده في التعاطي مع النص (أي نص، النص الديني، أو النص السياسي، وطبيعة التعاطي مع هذا تؤسس لطبيعة التعاطي مع ذاك) لا يعني ممارسة خيار معرفي في التعاطي مع النص، بل يعني إنتاج قطعان بشرية امتثالية، تستمد امتثاليتها من حرفية/ نصوصية ممعنة في الامتثال. ولعل مثل هذا القطيع البشري هو غاية ما يريده أو يتمناه أولئك الذين تتحقق مصالحهم طردياً مع نجاحهم في حشد أكبر عدد من أمثال هؤلاء الأتباع.

من يتعود استقبال النص الديني على أرضية عقلانية زاخرة بفرضيات التأويل، سيستقبل النص السياسي (النص السياسي قد يكون قولا، وقد يكون فعلا أو حدثا) على ذات الأرضية، وسيقيم مع النص السياسي ذات الحوار الذي يقيمه مع النص الديني، وستنداح فضاءات التأويل لخيارات أكثر تنوعا على مستويات إبداع التصور، ومن ثم على مستويات إبداع الفعل. وبقدر ما يكون العقل حاضرا هنا، سيكون حاضرا هناك. وحضور العقل هنا وهناك، هو بالضرورة تجسيد لحضور الحرية، والتي تعني بدورها حضور الإنسان.

مَن يُفعّلُ عقله إلى درجة أن يكتسب عقله شرعية التساؤل والحوار والتأويل إزاء مكونات الخطاب الديني، سيتمرد عقله على أية امتثالية في أي ميدان آخر من ميادين الفكر أو ميادين الحياة. مَن يحتفظ بعقله حراً إزاء خطاب سلطوي متلبس بالمقدس، سيحتفظ حتما بعقله حرا إزاء أي خطاب سلطوي آخر متلبس بالمدنس. ولن يكون الأمر هنا مجرد توطئة تشريعية صريحة لمقاومة إلغاء الإنسان لحساب فعاليات القهر فحسب، وإنما سيكون - أيضا - توطئة سيكيولوجية من شأنها أن تحتفظ باستقلالية الوجود الفردي للإنسان، وهو الوجود المرتبط ضرورة باستقلالية العقل الفردي المقاوم لكل صور الإلغاء.

تستشعر التقليدية - بأدق درجات الاستشعار - أن كل (تحرر عقلي) هو (تمرد عقلي) على كل صور الامتثال. وبوصفها حركة امتثالية قهرية (قاهرة ومقهورة في آن) فهي ترى في كل تحرر عقلي، مهما بدا جزئيا وخافتا، خطرا يتهددها؛ لأنه يُقوّض شرعيتها القائمة على شرعية القهر والامتثال.

التمرد العقلي هو تمرد تحرري. وهو بلا سقف، أو لا سقف له إلا حيث ينتهي الممكن الإنساني؛ إن كان ثمة حدود لمثل هذا الإمكان.

لهذا، يبدأ تحرر العقل الفردي من رفض كل صور القهر المعنوي والمادي التي تمارس عليه بوصفه فردا (ذاتا عاقلة)؛ لتنتهي برفض كل صور القهر المادي والمعنوي التي تمارس على أي فرد منتمٍ إلى النوع الإنساني، أي يبدأ من العقل الفردي لينتهي إلى العقل الكُلي الإنساني.

هذا يعني أن احتفاظ الفرد باستقلاليته العقلية المتمثلة في تمرده على كل صور التنميط، ليس تمايزاً عن النوع الإنساني، ليس استقلالًا بذاته، بفردانيته، حتى وإن بدا كذلك، بل هو إسهام مباشر في تحرير الإنسان، أياً كانت هوية هذا الإنسان.

لذلك، ليست بدعاً تلك الحرب الشعواء التي شنتها التقليدية عبر تاريخهها الطويل على التأويل؛ لأن التأويل كان يعني الاحتفاظ بحق العقل في ممارسة استقلاليته في التعاطي مع النص ومع الواقع، ما يعني إضفاء فاعليه تحررية تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع العقول، أي، في النهاية، تتحرر - كمّاً ونوعاً - بأقصى ما يمتلكه أصحاب هذه العقول من إمكانات وقدرات

منذ الأمويين أو ما قبلهم بقليل، كانت إيديولوجيا النقل والإتباع هي إيديولوجيا السلطة، أي هي إيديولوجيا القهر والإذلال الذي امتد لقرون وقرون. فالاستبداد آنذاك لم يكن ليتأسس - كثقافة وكمؤسسة حاكمة -؛ لو لم يتم قمع ومطاردة أسئلة العقل المتمردة، تلك الأسئلة التي كانت تُسائل سلطة النص؛ مع يقينها أنها - في الوقت نفسه - تُسائل نص السلطة؛ لأنهما كانا متماهيين، بل ومتحدين في شخص واحد، متحدين على مستوى ما تحقق واقعيا، أوعلى مستوى الطموحات السلطوية (سلطة النص، ونص السلطة) في كثير من الأحوال.

لهذا بدا أن الأمويين كانوا يعون ما يفعلون تماما، أي يعون أن إشاعة، وتدعيم ثقافة النقل ليسا ممارسة معرفية، بقدر ما هما ممارسة سلطوية بالدرجة الأولى، ممارسة سلطوية يُراد بها إقامة حدود وسدود ضد ثقافة العقل التي كانت تعني مزيدا من التحرر.

ولا شك أن أي تحرر من أي نوع، لابد أن يتهددهم، خاصة فيما لو تم هذا التحرر من خلال فتح المجال لثقافة العقل بأن تقوم مقام ثقافة النقل في توجيه وعي الجماهير.

*عن صحيفة الرياض، 5/4/2012

الصفحة السابقة