محمد بن علي المحمود

مقولات التطرف فضائح المتطرفين

مـحـمـد بن علي الـمـحـمـود

منذ سنتين تقريبا، وخاصة بعد أن هدأت عاصفة الإرهاب الهوجاء، وانخفضت درجة التوجس الرسمي والشعبي من فعاليات المتطرفين، أصبحت تتوالى مقولات التطرف وبيانات المتطرفين المعبرة عن بركان الإرهاب الكامن الذي يحاولون التكتم عليه حتى لحظة الانفجار، بغية أن يؤدي دوره الكارثي بواسطة الاتكاء على عنصر المفاجأة، ليحصد في دورة جديدة أكبر قدر من الأرواح. ومع أن تلك المقولات والبيانات سلوكيات خطيرة لا بد من أخذها بالاعتبار، لأنها تُمثّل نوعا من المؤشرات الأولية التي تسبق لحظة الانفجار، والتي يجب أن ترصدها أجهزة الإنذار المبكر بكل دقة، إلا أن كثيرا منا لا يزال يُصر على تنحيتها جانبا، وعدّها مجرد فلتات لسان فارغة من المعنى، أي مجرد خطرات هلوسة لا تعبر عن أكثر من حالة هذيان.

نتمنى أن تكون كذلك، ولكنها ليست كذلك تماما. فهي في الحقيقة مقولات ذات معنى، رغم كونها نوعا من الهذيان المرضي. كونها هذيانا لا يعني أنها في صورتها الكلية لا تعبر عن معنى ولا تدل على (حالة!). ليس المهم ما يريده المتطرفون من هذه المقولات، بل المهم ما تريده تلك المقولات بنفسها، أي من خلال كونها مقولات تخلق لها بالضرورة معنى في السياق الذي تتموضع فيه. وهذا المعنى هو ما يجب أخذه في الاعتبار، وهو المعنى ذاته الذي يُكوّن تشخيصه بـ(الهذيان) جزءا أصيلا من معناه العام المرتبط بالسياق.

لا ريب أن هذه المقولات أصبحت تتجاوز مجالها الوظيفي الخاص، كمقولات متشددة مهمتها في نظر مروجيها أن تدعم حراك المتطرفين في الواقع إلى حالة مضادة للهدف الغائي عند أصحابها، إذ بدأت تؤدي دورها غير المقصود في الفضح والتعرية، بل والتدمير الذاتي. فهي اليوم ليست (فتاوى) يتشرف بها أصحابها، بل هي مجرد سلسلة فضائح مُدوّية تقوض هذا الخطاب الإرهابي من قواعده، وتصل به إلى مرحلة اللاعودة في سياق الوعي الجماهيري العام.

لكن، ورغم أهمية ظهور هذه المقولات والبيانات للرأي العام، مصحوبة بقراءات تشريحية، تكشف أبعاد التطرف والجهل فيها، إلا أن هناك خطراً يكتنفها، خطراً يكمن في إمكانية أن يضمن لها تلبسها بالخطاب المقدس جواز مرور إلى عقول بعض السذج والبسطاء، أولئك الذين يستطيعون بسهولة استيعابها لبساطتها وحدّيتها ومباشرتها وضربها على وتر الوجدان، في مقابل عجزهم عن استيعاب المقولات الناقدة لهذا الهذيان المتطرف. وهذا يعني أن هناك خطرا كبيرا، يتحدد في إمكانية أن يتم اقتطاع شريحة من البسطاء والجهلة ومغفلي العامة لصالح هذه المقولات المتطرفة باسم التدين.

هذا خطر متحقق، وليس هناك ما هو أخطر منه سوى أن نضطر تحت وقع كثافة مقولات التطرف إلى أن نتأقلم مع هذا الواقع المرضي، ويصبح التطرف جزءا معترفا به ومعتبرا في حياتنا. وبهذا يتم تطبيع التطرف، ويصبح طبيعيا، بل وقد نصل مرحلة من التطبيع معه نصبح فيها جزءا منه، فنكون متطرفين دون أن ندري، بحيث لا نعده تطرفا يستحق الإدانة، بل تمسكا بصحيح الدين وصمودا ضد طوفان الانحراف المزعوم يستحق الإشادة. وهذا واقع ليس ببعيد.

لا يخفى على أي راصد أن هناك شريحة من مجتمعنا قد تم التهامها بهذه المقولات وأمثالها، ولم تعد تسمع لغير مصدري هذه المقولات. هذا واقع للأسف، وهو ما تؤكده بعض الأصوات المؤيدة للفتاوى التكفيرية والمتطرفة والشاذة التي تؤيد (فتاوى!) التطرف، لمجرد أنها تتوسل بمفردات الخطاب الديني. لقد صدرت (الفتوى!) القضائية بالتفريق بين الزوجين بدعوى عدم كفاءة النسب، وصدرت (فتاوى!) تكفير بحق بعض الفنانين، ثم صدرت (فتاوى!) تكفير بحق بعض الكتاب، كما صدرت (فتوى!) قتل ميكي ماوس، و(فتوى!) قتل مُلاّك القنوات الفضائية التي لا تنتمي لفصيلة الفضائيات الذكورية المتطرفة، و(فتوى!) قتل مُبيحي الاختلاط، والدعوة العلنية الصريحة لهدم المسجد الحرام كله بدعوى منع الاختلاط الذي يجري في الطواف، كما جرى اتهام معرض الكتاب بأنه يمارس حربا ضد الدين، وأن الآمرين به والقائمين عليه محاربون لله ولرسوله - تكفير صريح ومع هذا يزعمون أنهم غير تكفيريين!- كما صدرت (فتاوى!) تتهم الليبراليين والتنويريين بل والعلماء الشرعيين المعتدلين بالنفاق (= تكفير صريح أيضا!) إضافة إلى (فتاوى!) طائفية تتهم المخالفين بالزندقة والفجور...إلخ. وهذه (الفتاوى) مع ظهور شذوذها وكونها تتكئ على رؤية تكفيرية خوارجية ذات نفس حروري واضح؛ إلا أننا وجدناها تخترق عقول بعض مغفلي الجماهير، إلى درجة أن بعضهم تحوّل إلى تأييدها بدل أن يواجهها بالشجب والاستنكار. وهذا يدعم وجهة النظر التي تزعم أن خطاب التطرف والإرهاب قادر على الاختراق باستمرار، وأن تلبسه بالمفردات الدينية يضمن له أن تقع بعض الجماهير المتدينة فريسة لمهاراته في الخداع.

إن أمثال ما سبق من (فتاوى!)، لا تستحق هذا المسمى (= فتاوى) بل هي مقولات هذيانية، كان حقها أن تواجه بغضب شعبي واسع، وأن يواجه أصحابها بالنفور والازدراء. كان هذا ما سيحدث، لو أن المجتمع كان سليما من الاختراق في العقود الثلاثة الأخيرة. لو لم يتم نشر ثقافة التقليد والتبليد وتفخيخ العقول بها، لكان البسطاء من الناس هم أول من يواجه الفتاوى التكفيرية، بل ولكانوا الأقدر بحكم قربهم من رصد السلوكيات النفعية والاستنفاعية لدعاة التكفير على كشف لغة المتاجرة بالدين. طبعا الكشف يحتاج لموقف محايد على الأقل. وهؤلاء لم يتركوا مجالا للحياد، فاستدمجوا البسطاء في خطابهم التكفيري إلى درجة أن أصبح كثير من عامة المتدينين مستلبين لا تجرح مشاعرهم فتاوى التكفير، بل قد يتعشقونها في بعض الأحيان.

إن مثل هذه المقولات المتطرفة ليست محايدة، لا بالنظر إلى مصدريها، ولا بالنظر إلى متلقيها. لقد أصبحت تؤدي دورا حاسما في الصراع الإيديولوجي. فبزعم هؤلاء المتطرفين لكي تكسب الإيديولوجيا لا بأس أن يخسر الدين.

إذن؛ حقيقة الدين عند هؤلاء لم تعد ذات أهمية، بل المهم أولا وأخيرا هو البعد الوظائفي لمفردات الدين. فلكي يكسب التكفيري ماديا ومعنويا، لا بد أن تكسب الإيديولوجيا التكفيرية، ولكي تكسب الإيديولوجيا التكفيرية لا بد أن تستخدم مفردات الدين وقيمه العليا بأسلوب ذرائعي لا يتحرج من وضعها في أي سياق يخدمها مهما كان حجم التشويه الذي سيطال الصورة المثلى للدين الحنيف.

ليس هذا غريبا، بل ربما كان هو الأقرب إلى منطق الأشياء. لكن! يبقى الشيء الغريب حقا هو أن تتم التضحية بسمعة الدين على مذبح الهوس بالشهرة والحضور من قبل رجال تجاوزوا الثمانين من أعمارهم. ليس غريبا أن يحاول داعية في الأربعين أو الخمسين أن ينقذ نفسه من درك الخمول والتجاهل وغياب الأضواء ب(فرقعة إعلامية) على صورة (فتوى!) نشاز، فرقعة تلفت إليه الأنظار. هذا سلوك يمارسه كثيرون منذ فجر التاريخ مهما ادعوا الزهد والورع، بل قد يكون لفت الأنظار بواسطة المبالغة بهما ليكونا لباس شهرة وجاه عند السلاطين وعند بسطاء العوام. أكرر، هذا ليس غريبا، لكن ما هو مستغرب يتحدد في أن يعمد شيخ في الثالثة والثمانين، سلخ كل عمره في خمول قاتل إلى إنقاذ نفسه بفتوى تكفيرية كي تضمن له الدخول إلى عالم الموت من بوابة المشاهير لا من بوابة المجاهيل. يفعل هذا بعد أن سلخ عمره البائس، حيث لا يعرفه إلا أفراد مجموعة معدودون بحجم رواد مسجده الصغير، يلقي عليهم دروسه متثاقلا ومتثائبا بل وفي حالة من النعاس الدائم في كثير من الأحيان. حالة الخمول أمضته، إذ بينما تلاميذ تلاميذه كالحكواتي مثلا أصبحوا نجوم فضائيات يتربعون على شاشاتها وملايينها في اليوم الواحد عدة مرات، بينما يبقى هو (= الثمانيني) قابعا في مسجد الحارة الصغير مع جوقة صغيرة محدودة من المريدين البسطاء، بعض التقويين الذين لا يطلبون منه علما ولا حكمة، بل مجرد بركة الحضور والدعاء.

إذن؛ هكذا تخرج الفتوى المتطرفة للفضاء العام كحالة إنقاذ عاجلة، تتم ممارستها أحيانا في الوقت الضائع من قبل أولئك الذين يعانون شبح الضياع في دنيا الخمول، لأن مؤهلاتهم النقلية (= الحفظ، إذ لا وجود للعلم أصلا) والصوتية والشكلية لا تمنحهم أكثر من ذلك. مشهد كارثي لرجل يبحث بهوس وجنون عن الشهرة والمكانة ثمانين عاما، فلا يحصل عليها، ثم يكتشف فجأة أنه يستطيع الحصول عليها بمجرد فتوى تكفير. لا شك أنه سيبكي من الندم دما أن فاته التنبه لهذا الطريق السهل إلى عالم الشهرة ؛ بينما هو قد قضى عمره أحقابا في مِحنٍ وإحنٍ لم يجنِ منها غير خمول في خمول.

فُرص مُضيّعة على تخوم عمر خامل، حالة تصنع معالم هذا المشهد البائس الذي سيجعل تلاميذه وتلاميذهم يفيقون قبل فوات الأوان، ويدركون أن (مفرقعة) تكفيرية في سطرين أو ثلاثة، كفيلة بجعلهم حديث مجتمعاتهم، بل وربما تنداح فقاعة الشهرة لتبلغ وسائل إعلام القارات الخمس (كما فعلت شتائم الحكواتي الطائفية). ولهذا تجد الجيل الثاني والثالث من أبناء التيار التكفيري يتنافسون في أيهم أجرأ على الجهر-الجهر هو الإضافة فقط، أما اعتقاد تكفير أكثر من 97% من المسلمين فهو عقيدة التيار كله - بتُهم التكفير. أصبح الجهر بالتكفير وسيلة إعلان، لتسلط الأضواء على الذات، ولم يعد مجرد اعتقاد ديني مكتوم، يعاني صاحبه من الحرج الشديد في التكتم عليه، كما كان الحال قبل سنوات.

ما سبق يُمثّل بُعدا سيكولوجيا حاضرا بقوة، بُعدا لا يمكن تفسير الانبعاث التكفيري إلا من خلال الاستعانة به على الأقل، كبُعد من جملة أبعاد أخرى لا يمكن مقاربة الظاهرة التكفيرية من خلالها. هذا فيما يخص (الفتاوى) المتطرفة بكل أنواعها، من حيث كونها في أحد أبعادها تُمثل ظاهرة استقطاب واستجداء للشهرة، كحالة من المتاجرة بالدين لمصالح شخصية يعرفها الجميع.

ثمة بُعد سيكولوجي آخر، لا ينفي البعد الأولى، وإنما يتساوق معه، وهو البعد السيكولوجي المرتبط بكل الفتاوى المتطرفة التي تتماس مع شأن المرأة من قريب أو بعيد. ولعل هذا يظهر أشد ما يظهر في ما يُسمى بـ(فوبيا الاختلاط) أي المرض الذي أفرز من مقولات في غاية التطرف والشذوذ والغرابة، إلى درجة أن أصبحت تلك المقولات - لشدة حرصها على اعتقال المرأة وتقييدها واضطهادها والتلذذ بكل هذا - تصلح لأن تكون بنودا للتعذيب في معتقلات التعذيب، لا مشاريع حياة لكائن إنساني حر، إنسان يمتلك الإرادة الكاملة في هذه الحياة.

لا يمكن تفسير ظاهرة (فوبيا الاختلاط) وكل الفتاوى المتطرفة التي تتغيا اعتقال المرأة وتصفيدها بالأغلال، بأبعاد فكرية خالصة، بل ولا ببعد سيكولوجي واحد. فالمسألة معقدة أكثر مما نتصور، بحيث يختلط فيها الفكري بالسيكولوجي، وهما بدورهما يختلطان بالأبعاد السوسيولوجية التي لا يمكن عزلها عن الأبعاد السياسية والاقتصادية بل والجغرافية التي تُشكل المجال الحيوي للإنسان.

لكن، مع هذا يبقى البعد السيكولوجي في نظري هو الأهم في مقاربة رؤى المتطرفين فيما يخص المرأة. فطبيعة النشأة وظروف التربية تُورث كثيرا من الاضطرابات السيكولوجية المتعلقة بالمرأة، التي تصل بصاحبها حد الإصابة ب(الفتشية)، إذ يصبح المُصاب متعلقا بشكل مرضي ببعض آثار المرأة أو مقتنياتها، كأن يرتبط عنده الهياج الجنسي ببعض ملابس المرأة أو مقتنياتها أكثر مما يرتبط بالمرأة ذاتها. فمثلا، قد يصبح حذاء المرأة أو صوت إيقاع الحذاء أو ملامح عباءتها مهيجا للمصاب بهذا الاضطراب إلى درجة تُفقده توازنه. بينما لو كانت المرأة أمامه مباشرة وبكامل أنوثتها لم تثر فيه إلا القليل، وربما لم تثر فيه شيئا.

في البيئات المنغلقة يتنامى الهوس بالمرأة، المرأة الحاضرة في الأذهان بمقدار غيابها عن الأعيان. ولا مشكلة في ذلك لو أنه توقف عند حدود المرض والمريض، فلكل مرض علاجه أو طريقة مُثلى للتأقلم معه. لكن تأتي المشكلة عندما يكون هذا المريض غير واع بحقيقة مرضه، فيتصور نفسه طبيعيا. وجراء ذلك يتصور أن الجميع يعانون من هذا الاضطراب. وهذا يقوده إلى أن يبني على وضعه المريض فرضيات ذهنية يُحاول تعميمها وترسيخها عن طريق ربطها بالدين خاصة، وبالرؤى الفكرية عامة، لأنه لم يدرك بعد أن حالته حالة شاذة، لا تُبنى عليها الأحكام العامة التي يُراد لها أن تتولى تنظيم سلوكيات الآخرين.

إذن، يتضح من خلال إضاءة هذا البُعد السيكولوجي، أن آراء المتطرفين فيما يخص المرأة هي في أحد أهم أبعادها نتاج هذا الاضطراب النفسي والعلاقة غير السوية بالمرأة نتيجة ظروف تربوية غير سوية. ولهذا من العبث محاولة إقناعهم بخطأ أفكارهم المتطرفة عن طريق الفكر وحده، بل لا بد من توصيتهم قبل ذلك بالعلاج. احتياجهم إلى العلاج هو أشد من حاجتهم إلى الحوار الفكري حول المسألة النسوية. الحوار الفكري مرحلة تالية، يفترض أن تتم بعد مرحلة الشفاء، لأن الحوار لا يمكن أن يتفاعل إيجابيا إلا مع أناس أسوياء، أناس يمتلكون الحد الأدنى من الاتزان النفسي المعقول الذي يمكنهم من رؤية الأشياء على نحو طبيعي، أي كما هي عليه في الواقع.

عن: الرياض، 25/3/2010

الصفحة السابقة