الأنظار ترمق ما يجري في ''الخارج'' كي يصطلح حال ''الداخل''

حين تفشل الدولة في إصلاح ذاتها

الالحاح المتواصل على تحييد متغيرات الخارج على الداخل يترجم عقيدة السلطة الرافضة للتغيير. فالتأثيرات السياسية الخارجية على الداخل كانت تجبه بالاهمال المتعمد او القمع، وكأن هناك في داخل الدولة من يريد ايصال رسالة ضمنية مفادها: أننا ضد التغيير.

ولكن ماذا يحصل بعد ذلك؟

وحتى قيام الدولة على أساس غلبوي في بدايات تكوينها لا يدحض الحاجة أكثر من عقد مرّ على اعلان الانظمة الثلاثة أي منذ مارس عام 1992 وحتى يناير 2003، وهي فترة يمكن وصفها بأعقد مراحل الدولة السعودية وأشدها خطورة، فالاشتقاقات الناشئة عن ازمة الدولة والمجتمع باتت واضحة المعالم.. هناك خطا سير منفصلين: أحدهما يحث سالكوه الخطى نحو التغيير وهو خط المجتمع، والآخر يصر سالكوه على ايقاف دولاب الزمن وعقارب ساعة التغيير، وهو خط العائلة المالكة أو الغالبية من اعضائها.

الفجوة الواسعة التي أظهرتها ردود الفعل الموحدة على الانظمة الثلاثة، والتي جاءت دون مستوى التوقعات الشعبية، تزايدت ولم يعد هناك ما يمكن فعله لتجسير الفجوة. مواد النظام الاساسي سيما الخاص منها بالحقوق المدنية على محدوديتها وغموض عباراتها وعموميتها لم تدخل حيز التنفيذ، فقد سجّلت الحكومة سلسلة مخالفات في مجال حقوق الانسان لم تكن مسبوقة قبل اعلان النظام الاساسي.

ثلاث دورات من مجلس الشورى لم يتغير فيها سوى الجانب الكمي في عدد الأعضاء: 60 ـ 90 ـ 120، فيما بقي المضمون متخلفاً بل هناك من يرغب وبشدة في ابقائه كذلك، والانكى حين يعتبره البعض صيغة متقدمة من الصيغ الديمقراطية. القراءات التي قدّمت عن المجلس وآخرها قراءة ديكميجيان كانت يائسة من هيكل لا يمكن ان تبعث الروح فيه الا بوقف حركته واستبداله.

مجالس المناطق، رغم أنه لم يقصد منها سوى نقل السلطات من اليد اليمنى الى اليد اليسرى، أي من الملك الى ابنائه وابناء اخوته، ظلت هي الاخرى فقيرة الى سلطة قرار تتخذه في ما يفترض أنها وليت عليه من مصالح عمومية.

أقول، بعد عقد من الزمن، هل أنهت الانظمة الثلاثة الأزمة المتفاقمة بين الدولة والمجتمع، أي، بكلمات اخرى، هل وضعت الدولة أسس حل لمشكلات غير قابلة للترحيل، اذ أن ترحيلها لا يعني اكثر من زيادة حجم الأزمة وان بدا في ذلك اطالة لعمر الدولة.

ردود مدوّية جاءت كرد فعل على الانظمة الثلاثة بدأت بتفجيرات العليا عام 1995 والخبر عام 1996 وتلتها سلسلة تفجيرات متفرقة وحوادث شغب واختطافات، وصولاً الى انعدام وزن الدولة بالكامل. فالسكان لم يعد يتحركوا الآن بناء على شعورهم بضرورة الالتزام بقوانين الدولة او حتى الخشية من عقابها، فأشكال العقاب الحالية ممثلة في البطالة ونقص الخدمات الصحية والتعليمية كافية لأن تسقط تأثير أي اشكال اخرى غير متوقعة من العقاب.

الدولة المسلوبة

حتى وقت قريب، كان هناك ما يأمله الناس من الدولة للقيام به من اجل اصلاح اوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية، وكانت هناك مواعيد للناس ينتظرونها كيما تعلن فيها الدولة قراراتها المصيرية، كما هو موعد الميزانية السنوية التي ظل الأمل معقوداً عليها لتخفيف أعباء محلية ضاغطة، ونقل جزء كبير من التخصيصات المالية المفرطة للقطاع العسكري للقطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة وهو ما لم يحصل. أقول هناك مواعيد كان السكان يترقبونها من اجل وضع حد عاجل لمشكلات طاحنة، ولكن الآمال المعقودة على تلك المواعيد تبددت او في طريقها للتبدد.

وماذا كانت النتيجة؟

ان الانظار ترمق ما يجري في الخارج كي يصطلح حال الداخل، فلا الدولة نجحت في اقناع رعاياها بجدارتها في توفير فرص حياة أفضل، ونظام سياسي كفوء، وأوضاع اقتصادية ومعيشية محتشمة، ولا خلقت آليات قابلة للاستعمال من اجل تطوير ما هو قائم.

في أوضاع مماثلة لأوضاع أزمة الثاني من اغسطس عام 1991، تشهد منطقة الخليج اجواء حرب يتزايد قرع طبولها مع تدفق طوابير الجنود الاميركيين وبنسب اقل البريطانيين على سواحل المنطقة، وتتزايد التصريحات حول توقيت ومكان انطلاق الحرب، هناك ـ في اجواء كهذه ـ ترمق الانظار الوافد مع المتغير في العراق.

للحكومة ومتوالياتها (شبكة تحالفاتها المناطقية والقبلية والدينية) قضية تشغلها وهي مصيرها المهدد فيما لو أطيح بحاكم بغداد، وللشعب قضية اخرى تشغله، وهي تغيير هذه الاوضاع الكالحة السواد التي عاش ضنكها واستهلكته حد الانهاك.

الحكومة تفتش عن أنصار وحلفاء لمواجهة المجهول الذي سيولد مع أوضاع ما بعد نظام الرئيس صدام حسين، ولكن الشعب لا يعنيه ما يشغل بال الحكومة، وبنظره ان الاخيرة لم ترعه في أزمته وبالتالي فهي لا تثير فيه احساساً بالمسئولية تجاهها، بل هناك من يرى ان زوالها ضروري.

حين تتقطع السبل الداخلية بالسكان، يتحوّل الخارج الى أمل ومخرج وربما حل لمشكلاتهم، وهو ما تخشاه الحكومة التي تحفر الصخر من اجل اخماد تأثيرات المتغيرات الخارجية عليها.

الحكومة تدرك أن اجهزة التأثير لديها قد ضعفت، وأن صناعة توافق عام داخلي، أو خلق اصطفاف شعبي وراءها بات الآن مستحيلاً، ليس خارج نجد فحسب بل حتى بداخلها، فحلفاء الامس من التيار الديني يتربصون بها الدوائر لا بالتعاون مع الولايات المتحدة، بل باستعمال ذريعة التحالف الاميركي السعودي لشن الحرب عليها. وهذا ربما يفسر جنوح بعض اقطاب الجناح السديري الى اعادة ترميم العلاقة مع التيار السلفي كما الحال بالنسبة للعلاقة المتنامية بين الامير نايف وزير الداخلية واقطاب التيار ذاك.

المتضررون كثر في هذا البلد، والناقمون يتكاثرون، وفي حقيقة الامر أن في ذلك ترجمة لفشل الدولة منذ تكوينها في صناعة اجماع وطني حولها بسبب سياسات تقسيمية بدأت بهويتها ذات المكونات الضيقة، ثم امتدت الى سياساتها وهيكلها الاداري وتوزيع الخدمات والوظائف فيها. وكنتيجة، هناك قطاع كبير يرى نفسه غير معني بالدولة، فلا هي التي احترمت خصوصياته ولا هي التي منحته فرصاً متساوية كما هو الحال مع غيره، ولذلك قد يرحب بأي اتجاه تغيير سواء كان داخلياً او خارجياً طالما ان ذلك سينهي معاناته.

متى ''الخارج''؟

الادبيات الحزبية والسياسية العربية وربما العالمية تمتليء بكل المواقف الخصامية مع كل ما هو خارجي حين يتعلق الامر بالنضال السياسي، وخصوصاً المتصل منه بالقوى الاستعمارية. يكفي لاعتقال او حتى اعدام شخص ما، اتهامه بالتخطيط او التخابر مع قوى خارجية او أجنبية. فهناك اذن ما يبرر نبذ ''الخارج'' سواء كان دولة جارة او أجهزة استخبارات دولية، او قوى استعمارية وفي الغالب غربية.

هذا ''الخارج'' المنبوذ نظرياً كان سلاحاً بيد الدولة السعودية المرتبطة تكوينياً بالخارج، وكانت الخشية الدائمة ان ينشأ بداخلها جنين ينافسها، مستقبلاً، في هذا ''الخارج''.

ولعل النظام العراقي الحالي من اكثر الانظمة المفرطة في استعمال سلاح ''الخارج'' في تقويض خصومه، الذين سقطوا ضحايا بالملايين على جبهات الحرب بأسلحة خارجية، وأميركية حصراً خلال حرب الثمان سنوات، يضاف الى ذلك مئات الآلاف من ضحايا الرأي والتعبير في سجون العراق، وكثير منهم لم يغادروا تراب العراق وهواء العراق، ولم يعرفوا هذا ''الخارج'' الا عن طريق ادوات تعذيبه وعسفه واعدامه التي كان يحملها جلادو العراق.

''الخارج'' الآن لم يقرره العراقيون بل قرره النظام العراقي نفسه الذي أفقر نفسه من خيار التفاهم مع شعبه، وخيار اصلاح نفسه. فأفق الثقة المعدوم بين الحكومة والرعايا يفتح الطريق امام قوى من خارجهما للتدخل.

في حقيقة الامر، أن ''الخارج'' مرشح الآن للتدخل في كل بلدان الشرق الاوسط، وان ''مباردة الشراكة الشرق الاوسطية'' التي أعلنها كولين باول في الثاني عشر من ديسمبر الماضي هي احدى تعبيرات التدخل. وهذا ''الخارج'' يلقى درجات قبول متفاوتة، فبالنسبة للعراق بات ''الخارج'' على مشارف حدود هذا البلد، وهناك بلدان اخرى بما في ذلك السعودية ينتظر ان يكون فيها لـ ''الخارج'' دور في شؤونها الداخلية، وتستوعب القائمة دولاً اخرى شرق اوسطية.

خلفية المبادرة الاميركية مثيرة للجدل حقاً، وهي تعكس الى حد كبير منطق الوصاية ونظام القطبية الاحادية في العالم. توحي تصريحات وزير الخارجية الاميركي كولين باول بأن فشل حكومات الشرق الاوسطية في لجم مصادر العنف وتطوير اجهزتها الادارية وتحقيق الاصلاح السياسي القادم بالاستقرار المحلي والضامن لتدفق منتظم للنفط للاسواق الاميركية والعالمية قد تطلب صياغة مبادرة تلزم هذه الدول باتباع منهج محدد في الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

ومهما يكن، فإن الانزياح نحو ''خارج'' حقيقي او متوهم يترجم عطالة الدولة عن الاضطلاع بدور في التغيير، والاخطر في هذا الانزياح هو ما يسفر عنه من انحلال بقايا الروابط التقليدية والضرورية بين المجتمع والدولة.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة