هل يملك الخائفون من الديمقراطية بديلاً عن الاستبداد؟

ينتاب البعض الخوف أو بصورة أدق التحسس والنفور من اللجوء الى الديمقراطية كمصطلح وكمطلب سياسي يطمح دعاة الاصلاح لتحقيقه. ولذلك، فإن ثمة جدالات متصاعدة تدور تارة حول المصطلح نفسه، أي حول أعجمية المصطلح وقسمته الى عناصره اللغوية الأولية (ديموـ كراسي) أي حكم الشعب، وتارة ينظر اليه من خلال أبعاده الايديولوجية المضاهية او المتناقضة ـ زعماً على الأقل ـ مع التفسير الديني لأساس الحكم.

بيد أن ثمة مقاربات أخرى للديمقراطية تتجنب التفسير الحرفي أو الايديولوجي للمصطلح، وتتجه تحديداً الى وضع الديمقراطية في سياق البحث عن حلول لمشكلات ثقافية واجتماعية قبل السياسية منها، وتكون الديمقراطية كأحد (ونؤكد كأحد) خيارات الحل المقترحة.

فثقافتنا السائدة مشحونة بالتوتر ومؤسسة على نفي الآخر وفي أحسن الأحوال مقاطعته، أي أنها ثقافة أحادية تنزيهية، يختفي فيها عنصر التسامح والقبول بمبدأ الإختلاف. والحديث هنا لا صلة له بالدين كنص موحى وكتجربة ساطعة في بعض حقب التاريخ الاسلامي، بل الحديث هنا وبصورة محددة عن الثقافة المنعكسة في السلوك والتفكير والممارسة، أي الثقافة التي تترجمها المواقف والآراء والتصريحات اللفظية أو المكتوبة، فهذه بكلمات أخرى ليست سوى ثقافة إسقاط حق الآخر في التعبير عن رأيه، أي التعبير العملي عن رفض مبدأ التعدد والأختلاف والتسامح الديني.

فالذين يخشون الآثار الجانبية الحقيقية والمتوّهمة للديمقراطية يغفلون دائماً الجوانب الكارثية للواحدية والاستبداد بالرأي، فإذا كانت الديمقراطية تفتح الباب أمام الافكار الفاسدة للتسرب الى المجتمع، فإن الواحدية كفيلة بتشريع الاستبداد والظلم. ولو خيّر الناس بين الحاكم الكافر العادل وبين الحاكم المسلم الجائر لاختاروا الأول دون تردد. ويكفي كمثال على صدق ذلك أننا نتذكر سيرة أهل العدل والحاكم العدل ولحظات العدل في تاريخنا ولكن نغفر أو نضرب صفحاً عن معتقدات الحاكم، لأن الغاية من الحكم هو تحقيق العدل، وهذا وحده كفيل بتحويله الى حكم شرعي، لأن الغاية من الشرع إقامة العدل بين الناس، والحكم هو أبرز تجسيدات ممارسة العدل واقامته.

فبناء على الحساب الاجمالي للمنافع المرجوّة من الديمقراطية والمفاسد المحذورة منها، تكون الديمقراطية أفضل ما توصلت اليه التجربة البشرية في التأسيس لعلاقة آمنة بين الحاكم والمحكوم، ولأنها بشرية الانتاج والممارسة فمن الطبيعي وقوع الاخطاء والنواقص فيها على المستويين النظري والعملي. ورغم ذلك، فإن الديمقراطية كآلية وكتجربة تمنحنا القدرة على تصحيح الأخطاء التي نرتكبها خلال ممارستها، وتمنحنا الحرية على تأهيل أنفسنا من خلال التجربة والخطأ وتصحيح الخطأ، وهكذا تعلمنا الديمقراطية بأنها ممارسة وليست ايديولوجية كما يتوهّم البعض، فالديمقراطية وحدها التي تمنحنا الحرية على طريقة ممارستها، وبإمكان كل شعب وكل دولة وكل جماعة صياغة نموذجها الديمقراطي بالطريقة التي تتواءم حسب الظروف والثقافة والتقاليد الخاصة بكل واحدة منها.

الديمقراطية قد لا تكون مفتاح الحل السحري لكل مشكلاتنا، ولكن إدخالها ضمن ثقافتنا وممارستنا وشبكة علاقاتنا اليومية يشكل قبولاً ضمنياً بالتصالح الداخلي مع الذات قبل الآخر، أي القبول بالتعددية والاختلاف والتسامح الديني. فالديمقراطية بقدر ما هي حل لمشكلاتنا السياسية فهي أيضاً حل لمشكلاتنا الثقافية والاجتماعية القائمة على أساس استبدادي تنزيهي إقصائي. ولذلك يجب ان تبدأ الممارسة الديمقراطية من أسفل أي من المجتمع ارتقاءً الى السلطة، ولكن هذا لا يعني الانتظار الى مرحلة يصل فيها المجتمع الى رشد ديمقراطي بحيث يكون أفراد المجتمع قادرين على التعامل مع الديمقراطية سياسياً. الصحيح هو أن الديمقراطية لا يجب حصرها في المجال السياسي بل يجب أن تبدأ أيضاً وعلى نطاق واسع في المجال الثقافي والاجتماعي.

بناء على ما تقدم يكون ما قاله الدكتور تركي الحمد صحيحاً عن أن ''الديموقراطية ليست انتخابات فقط، بل هي دستور يحكم الجميع، وقانون يطبق على الجميع، وحقوق للإنسان بصفته إنساناً تمثل خطوطاً حمراء لا تمس، وحريات عامة هي قدس الأقداس في أي كيان ديموقراطي''. ولذلك ايضاً فإن المخاوف من إجهاض الديمقراطية من أناس غير ديمقراطيين بل قد يدخلوا اليها كمن يتزوج بنية الطلاق، أي بنية تدميرها تبدو مشروعة لأن هناك بالفعل من يحاول الوصول الى الديمقراطية مفيداً من تأثيره الروحي على بعض الأتباع، بغرض تهديم الديمقراطية والعودة الى الواحدية بسلاح ديمقراطي. ولكن هذه المخاوف لا يجب أن تعيق المجهودات العامة الشعبية والرسمية من أجل تشييد صرح الديمقراطية، ولا يجوز لتلك المخاوف أن تصنع مشروعية لاعاقة الديمقراطية، بل الصحيح أن تعزز أركان الديمقراطية بمزيد من التجربة والوعي الناتج عن تلك الممارسات الديمقراطية المتراكمة.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة