الوسطي المستبد

ظهر كبرق الشهاب في الأفق السياسي مبشّراً بنهج جديد في التفكير والموقف من الآخر، حتى تطلع كثيرون الى أن بذرة التسامح قد أثمرت في بيئة شديدة الانغلاق والتطرف والواحدية، وعقد الطامحون في انبثاق عهد الوسطية الأمل في أن يكون ذاك الوسطي رسول قومه في الاعتدال والوسطية.

دشّن موقعاً بإسم الوسطية، وتحدث كثيراً عن فضائل الوسطية وجذورها ومبرراتها، فتنامى الأمل في أن جذر الوسطية قد امتد عميقاً ولا بد أن شجرتها ستكون وارفة الظلال. كل ذلك وأكثر منه بشّر به الداعية السلفي محسن العواجي، وأكثر من ذلك أيضاً توسم كثيرون فيه الوسطية.

وبين منعرجات الدعوى والحقيقة كانت المسافة وعرة والثمرة مرّة والنتيجة بائسة ومخيّبة للآمال، فمن يستمع لخطابه الوسطي المبثوث عبر قناة (الجزيرة) وهو يسرد روايته في (إصلاح الكون) منفرداً أو مجتمعاً مع قلة فريدة ونادرة في هذا البلد يصاب بنوبة هلع شديدة، فالرجل كيفما تقلّب إجاباته وبيانه السياسي والأيديولوجي لا تجد فيه سوى نسخة مطابقة للاقصائيين والاستئصاليين..لا فرق بينه وبين سفر الحوالي وابن جبرين وعبد العزيز الجربوع والعقلاء وباقي القائمة الاستئصالية.

العواجي كما الدولة والايديولوجية التي ارتبط بهما واحدي حتى النخاع لا تختلف وسطيته عن وسطية ولاة أمره، فقد ثقل عليه الاعتراف بوجود معارضين في الخارج غير من ينتمون الى أهل دعوته. وسطيته لا تحتمل وجود آخر قبله أو بعده في ساحة الاصلاح والمعارضة، هذه الوسطية نجدية الهوية والهوى والوسيلة والهدف، وهذه الوسطية توحي إليك بأنها مصممة لنجد وتياراتها الايديولوجية المتلاطمة.

رسالة الوسطية ليست مطمئنة لمن هم خارج نجد وتحديداً خارج التيار الديني السلفي، بل تكاد تكون رسالة طمأنة لأهل الحكم، بأن صاحبها لا يقتفي في احتجاجه ونشاطه السياسي أسلوب العنف ولا يسعى للاطاحة السياسية بالنظام السعودي، مؤسساً عقيدته على أن هذا النظام مازال فيه أثر من خير وأنه قابل للإصلاح. ولكن هذه الوسطية تكون شديدة التطرف والاقصاء حين يراد منها موقف من آخر قد أفنى عمره في المعارضة وسبقه بعقود في الدعوة الى إصلاح النظام. يعتقد العواجي بأن هناك ثلاثة في الخارج فقط لهم عليه كرامة: محمد المسعري وسعد الفقيه وكساب العتيبي، ومع تقديرنا لكل جهد يبذله هؤلاء في إبلاغ رسالة الاصلاح الى الداخل والخارج، الا أن تاريخ المعارضة السياسية في هذا البلد سبق خروج هؤلاء الثلاثة بعقود، أي بفترة تمتد الى الخمسينيات، ومن الجبن والخسة أن يتنكّر أحد مهما كان منزعه الايديولوجي للمكاسب التي حققها رموز المعارضة السياسية في هذا البلد قبل وبعد اليقظة المتأخرة للتيار السلفي الذي ينتمي اليه العواجي.

تذكِّرنا وسطية العواجي بالمصطلح الذي ظهر في الغرب (ديمقراطية بلا ديمقراطيين)، فالرجل يبشّر بالوسطية ويسلك سبيل الاستبداد، كل إدعاءاته الفكرية لا تحقق أكثر من تحفظ القارىء وما إن تدخل حيز التنفيذ وتخضع للفحص، في ضوء سلوك الرجل، تتكشف الادِّعاءات عن فلسفة في الاستبداد والاقصاء لا تختلف عن فلسفة رهط المستبدين سالفي الذكر سوى في الطريقة، فالرجل يدخل الى الاستبداد من بوابة يلفت اليها عصمت سيف الدولة في (الديمقراطية الديكتاتورية)، والتي تنتهي بصاحبها الى إلغاء الآخر ونبذه مطلقاً.

في واقع الأمر، أن وسطية العواجي وهكذا موقعه الحواري تهافتت بصورة سريعة وفقدت جمهورها المتنوع، وبقيت محتفظة بكتلة المسكونين بتلك العقيدة الواحدية، والمتقنين للغة الوسطية الاستبدادية على طريقة العواجي، فيما اكتسحت المواقع الأخرى وبخاصة (طوى) ساحة الحوار السياسي حول السعودية، وتبنّت بأمانة ونزاهة وسطية صادقة التعبير والموقف، فلم تصادر حق غير (الانصار وأهل الدعوة وشباب الصحوة) في التعبير عن آرائهم ومواقفهم دون حجر ديني، أو شعور مستبد باحتكار الحقيقة. في (طوى) الوسطية ساطعة تنطق عن نفسها بوضوح شديد في تنوّع أفكارها وأقلامها وآرائها، وفي (الوسطية) هناك واحدية مطلقة في أفكارها، وأقلامها وأجندتها أيضاً، فصاحبها يريد تحقيق النموذج السعودي معدّلاً.

وسطية العواجي مرعبة، لأنها تأتي بالاستبداد بهوية مزوّرة، وهذا بلغة العواجي من باب (تلبيس إبليس)، ويُخشى في غفلة من الزمن أن تحدث هذه الوسطية الملبّسة تزويراً للوعي العام، فتسرق جهود المصلحين الحقيقيين وتهرب بالمغنم السياسي.

لا نتمنى لهذه الوسطية أن تترعرع، أو يمتد ذراعها خارج المنطقة التي نشأت فيها، ولا نتمنى لها التكاثر، لأن ذلك من التكاثرات المضرّة إن لم يكن الكارثية، ولأن ذلك يؤدي الى خلط الأوراق وتصعيب مهمة فرز الألوان، تماماً كالذي تمرد على العائلة المالكة وخرج شاهراً سيف المعارضة من جنيف رجاء إصلاح وضعه المالي، وبالغ في معارضته حتى بالغنا في تصويره الى حد احلال مانديلا في جوفه، وإعتبار تشي غيفارا جندياً في كتيبته الثورية، وربما صوّر نفسه كأحد قادة الثورات في العالم، فلما وصلته رسل القوم تحمل بشارة (تحسين وضعه المالي) قفل راجعاً دون حتى توديع من أوهم نفسه بأنهم قد صدّقوا دعواه بأنه المختلف في أهله وعشيرته، وأنه سيأتي بما لم يأت به من سبقوه من أمراء أحرار ومستبدين.

وسطية العواجي كمعارضة الأمير لعائلته المالكة، تخفي بداخلها هدفاً خاصاً، وتخرج الى الناس بلغة (محببّة للنفس) على حد المليك المقعد..هذه الوسطية باطن الأرض لها خير من ظهرها.

الصفحة السابقة