أعادة مراجعة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط

الموقف الأميركي من التحولات السياسية في الخليج

فريد أيهم

تبدو الولايات المتحدة حائرة في مواقفها، فقد فاجأتها الثورات العربية، بزخم غير مسبوق. كيف تستوعبها، او تحتوي عناصرها، وتقلّص خسائرها منها؟ ما موقفها من حلفائها في المنطقة، وكيف يمكنها اقناعهم بأن التغيير أفضل لها ولهم من أن تجتث عبر ثورات واضطرابات؟

قوات سعودية لقمع المطالبين بالحرية في البحرين

بالنسبة لدول الخليج، فإن دول الغرب عامة قد أبدت خشيتها عليها، وتسلسلت في التصرف البطيء معها خطوة خطوة حتى تجنبها وتجنب نفسها ومصالحها المهالك.

منذ ثورة تونس بدأت أميركا تحذر مشايخ الخليج بأن يأخذوا حذرهم ويبادروا للإصلاحات.

في الحقيقة فإن أميركا دائبة النصح لهم، ولكن بدون ضغوط وبدون إلحاح وبدون إعلان. فمادام كل شيء هادئاً والمصالح لم تتضرر، فإن المخاوف الأميركية تبقى مجرد تحليل، فإذا ما وقعت الواقعة يكون بإمكان واشنطن تصعيد الضغط على حلفائها لتعديل مواقفهم.

في فترة سقوط بن علي كانت كلينتون في الدوحة تحاضر الخليجيين في منتصف يناير الماضي وتنتقدهم بأن دولهم تواجه خطر الغرق في عاصفة الإضطرابات والتطرف إن لم يعمدوا الى تحرير انظمتهم السياسية. وعبرت عن احباطها بأن رسالة اوباما الى حلفائه العرب لم تلق اذناً صاغية، مضيفة: (إن مؤسسات المنطقة تغرق في الرمال في كثير من الأماكن وبأشكال متعددة، وإن الشرق الأوسط الجديد والديناميكي يجب أن يتعزز على أسس أصلب). وحذرت كلينتون بأن الوضع الراهن غير قابل للإستمرار وأن (الذين يتمسكون بالوضع الراهن كما هو قد يتمكنون من الصمود أمام مشكلات بلدانهم لفترة قصيرة، ولكن ليس للأبد. وإن آخرين سيملأون الفراغ إذا فشل القادة في إعطاء رؤية إيجابية للشباب وسبل حقيقية للمشاركة السياسية؛ فالعناصر المتطرفة والمجموعات الإرهابية والجهات الأخرى التي تتغذى من الفقر واليأس، موجودة على الأرض وتنافس على النفوذ).

بعد سقوط بن علي، وفيما الثورة المصرية تتصاعد، طالبت كلينتون مرة ومن ميونيخ في 5 فبراير الماضي.. طالبت حكام المنطقة بإجراء إصلاحات ديمقراطية حقيقية وواسعة محذرة من عاصفة هوجاء!. وأشارت كلينتون في كلمة أمام مؤتمر أمني الى تزايد أعداد الشباب وتزايد استخدام تكنولوجيا الانترنت الحديثة بما يهدد النظام القديم في منطقة مهمة لأمن الولايات المتحدة. وسلطت كلينتون الضوء على حث واشنطن لاصلاحات سياسية سريعة في الدول المتحالفة معها بالشرق الاوسط والتي لا تتضمن مصر والاردن فقط، وانما السعودية واليمن أيضاً. واعتبرت الإصلاحات (ضرورة استراتيجية) فـ (بدون تقدم حقيقي تجاه أنظمة سياسية شفافة وعرضة للمساءلة، فإن الفجوة بين الشعوب وحكوماتها ستزداد وستزيد حالة عدم الاستقرار عمقا. كل مصالحنا ستكون معرضة للخطر).

وواشنطن تفهم ذرائع الأنظمة، لذا قالت كلينتون بأن على حلفاء أميركا أو من أسمتهم (زعماء المنطقة) الوفاء بتعهداتهم ـ التي قدموها لواشنطن ـ وعدم استغلال تهديد التطرف كذريعة لتأخير التغيير السياسي. وتابعت: (الانتقال الى الديمقراطية سيكون مجدياً فقط اذا كان مدروساً وشاملاً وشفافاً).. وحذرت من أن الاصلاحات غير الكاملة يمكن أن تؤدي الى حركات احتجاجية يختطفها شموليون جدد يلجأون للعنف والخداع والانتخابات المزورة للبقاء في السلطة، أو طرح جدول أعمال يدور حول التطرف.

لم يقبل حكام الخليج هذه النصائح والإنتقادات العلنية، وما هي إلا أيام حتى جاءت ثورة 14 فبراير البحرينية، ثم تلتها مظاهرات سلطنة عمان، وبعدها مظاهرات السعودية ـ على الاقل في المنطقة الشرقية حيث منابع النفط وصناعته، هذا غير التحول الكبير الذي طرأ على الثورة اليمنية والتي شارفت على الإنتصار.

لكن ما يهمنا هنا هو كيف تفكر واشنطن. وهل تستمع الأنظمة الخليجية والحليفة لنصائحها؟

واشنطن بدأت بالنصح، وزادت من وتيرة النقد وعلنيته، وواضح من تصريحات كلينتون أن الهدف من الإصلاحات التي تطلبها من حلفائها ـ في الخليج خاصة ـ أمورا عديدة: 1/ حماية الأنظمة الحليفة والحفاظ على استقرارها. 2/ ديمومة المصالح الأميركية والغربية في المنطقة. 3/ منع التطرف والعنف من النمو كخيار بديل عن الإصلاح. 4/ عدم تطور الأمور الى ثورة تطيح بالمصالح والحلفاء.

العاقل الوحيد بين حكام الخليج، ونقصد به السلطان قابوس، بادر الى التغيير بمجرد أن رأى أمارات التحوّل في الشارع عبر عنها تظاهر بضع مئات من المواطنين في عدد من المدن العمانية. وقد اتخذ خطوات قد لا تكون كافية، لكنه قام بإقالة معظم الوزارة، ومنح البرلمان سلطات تشريعية أكبر، مع حزمة إقتصادية تنموية.

هذا لم تفعله العائلة المالكة في السعودية، بل عمدت الى القمع أكثر. ومثل هذه الحلول التنازلية الوسطى لا تروق لآل سعود فقد جبلوا على العنف والحق الإلهي في التسلّط.

أيضاً فإن النظام في البحرين الذي يواجه ثورة شعبية بالرصاص والعنف، لم يقبل بأنصاف الحلول (ملكية دستورية) ولا الأنظمة الخليجية الأخرى خاصة في قطر والسعودية والإمارات تقبل بذلك، وحرّضوه على العنف ما أدى الى نجاح تيار التشدد داخل الأسرة المالكة البحرينية، وعدم التنازل أمام دعوات الإصلاح.

جيفري فيلتمان، مساعد كلينتون لشؤون الشرق الأوسط امضى الشهر الماضي أياماً خمسة في البحرين لإقناع المعارضة بتخفيف سقف مطالبها، ولإقناع العائلة المالكة بتقديم تنازلات أكبر. لم ينجح، وخرج وهو مغضوب عليه من الطرفين.

تبع فيلتمان وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس الذي غادر البحرين يوم 12 مارس الجاري وكان واضحاً في نقده بل وتحذيره وربما تهديده لعائلة آل خليفة من أنها قد تفقد الحكم إن لم تستجب للإصلاحات. قال غيتس بعد لقائه بملك البحرين بأنه ينبغي على البحرين إجراء إصلاحات سياسية جوهرية سريعة، مؤكداً (الوقت ليس في صالحكم) و(أن إصلاحات محدودة لن تكون كافية). وأضاف: (أوضحت لهم انه في ظل هذه الظروف ـ ومع الأخذ بعين الاعتبار الأسباب التي تقف وراء كل أشكال المظالم السياسية والاقتصادية ـ فإن الخطوات المحدودة لن تكون كافية.. الإصلاحات الحقيقية ضرورية). وهدد غيتس بالقول: (أبلغت القادة البحرينيين بأنه لا يمكن العودة للوراء. هناك تغيير ويمكن أن تتم إدارته أو أن يتم فرضه. من الواضح هو أننا نفضل أن تتم الاستجابة لهذا التغيير).. مضيفاً بأن (الحكومة في موقف صعب) وحدد المشكلة بأن (الأنظمة السنيّة الأخرى في المنطقة قلقة من أي تنازلات محتملة للغالبية الشيعية في البحرين) على حد تعبيره. وقال غيتس (اعتقد أن الحكومة بين المطرقة والسندان. هناك جزء كبير من السكان السنّة وجيرانهم يراقبون الوضع عن كثب).

واضح إذن اليوم بأن دول الخليج وخاصة السعودية وبعض أجنحة الحكم في البحرين لم تقبل بتنازلات على قاعدة لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم.. وقد تغلبت إرادة الإستبداد على إرادة الإصلاح، وكانت النتيجة انه بعد أقل من 48 ساعة على تصريح غيتس دخلت القوات السعودية الى البحرين لتشعل فتيل الأزمة وتحولها من مواجهة بين نظام مستبد وشعبه، الى مواجهة طائفية سنية شيعية، والى صراع إقليمي طائفي.

الأنظمة الخليجية تقول لا لواشنطن إن تعلق الأمر بأصل الكرسي؛ فهذه الأنظمة تستجيب لواشنطن في معظم الأمور من أجل البقاء على كرسي الحكم، ولذا لا تقبل النصائح اليوم إن تعلق بالكرسي ذاته.

ويبقى الباب مفتوحاً في البحرين امام عدد من الإحتمالات: انهيار نظام الحكم كاملاً، أو حرباً طائفية دموية لا تبقي ولا تذر، أو تدخل أميركي في الساعات الأخيرة يتوج بتنازلات متبادلة بين المعارضة والحكومة يبرد الأزمة المشتعلة. أميركا أعطت الضوء الأخضر للتدخل الخليجي، ورأته أفضل الإحتمالات السيئة، ولكن هل سيجر هذا التدخل الى تدخل إقليمي إيراني مقابل، إن وقعت مجازر بحق الأكثرية الشيعية في البحرين؟

واشنطن في حيرة. لا يمكنها الإصطفاف كاملاً لا الى دعاة الديمقراطية ولا الى حلفائها الحقيقيين دعاة الإستبداد.

اصطفافها الحقيقي مع مصالحها وهذا ما تستدعيه المواقف الحالية.

الصفحة السابقة