التظاهر في السعودية

مأمون فندي في رؤيّة مأزومة

محمد السباعي

كتب مأمون فندي، الباحث في مركز شاتام هاوس البريطاني، والمقرّب من آل سعود مقالاً في صحيفة (الشرق الأوسط) في 13 آذار (مارس) الجاري بعنوان (لماذا فشلت في السعودية؟)، في إشارة إلى الدعوة للتظاهر التي أطلقتها مجموعات معارضة للنظام السعودي وحدّدتها في 11 مارس.

فندي: قلم للبيع!

فندي الحائز على شهادة الدكتوراه عن رسالة حول المعارضة السياسية في السعودية، خلص فيها إلى أن الأخيرة هي دولة بلا أمة/ وطن، واستعرض خلالها أدبيات المعارضة السياسية في السعودية من خلفيات أيديولوجية متعددة سلفية، وشيعية، وإخوانية..

الهدف من المقدّمة المقتضبة هو أن فندي حين يكتب عن الشؤون السعودية يعي ما يقوله، وما يخلص إليه من نتائج، بصرف النظر عن طبيعتها. بكلمة أخرى، أن ما يكتبه فندي يفترض أن يتأسس على دراسته الأكاديمية، لا نقول ذلك على سبيل لزوم الركون الى ما توصّل إليه خلال البحث الأكاديمي الذي بموجبه حصل على شهادة الدكتوراه، ولكن أيضاً من غير المعقول أن تكون النتائج على النقيض تماماً مع البحث، وإلا فلا بد أن تكون هناك تطوّرات يتطلب البحث فيها، كونها مسؤولة عن هذا التحوّل المفاجىء والوقوف على النقيض من نتائج سابقة. نلفت أيضاً إلى أن فندي لا يكتب هنا مقالاً صحافياً، بل شدّد منذ البداية على أن السؤال عن فشل التظاهر في السعودية هو في الحقيقة (سؤال أكاديمي)، ويضيف (يجب ألا يسيّس أو تلوّن فيه الحقائق، وذلك بهدف الوصول إلى إجابة قريبة من الحقيقة).

فندي في مقالته المومأ إليها أعلاه، يؤسس لحقائق إفتراضية لتأكيد ما اعتبره فشلاً، مقارنة مع مصر وتونس وليبيا واليمن.. فقط، لقد سقطت البحرين عن سابق تصوّر، والسبب واضح، خصوصاً حين يكون المقال منشوراً في صحيفة مثل (الشرق الأوسط)، وحين يكون الكاتب للأسف أيضاً مأمون فندي. فالبحرين خارج الفعل الثوري العربي، من وجهة نظر فندي والجريدة التي يعمل فيها، والدولة التي تقف وراءها. مهما يكن، فندي يقدّم مجموعة حقائق نتاولها على النحو التالي:

الحقيقة الأولى المزعومة: يقول فندي بأن (المشكلة الحقيقية للأنظمة الجمهورية في مصر وتونس وليبيا واليمن، هي الفجوة ما بين الإدعاء والممارسة، التي تؤدي حتما إلى تآكل الشرعية، ومنه إلى التمرد والاحتجاج انتهاء بالثورة). حسناً، ولكن كيف؟ يجيب فندي: (إدّعت هذه الأنظمة أنها أنظمة جمهورية، تكون السلطة فيها للشعب، وتتداول فيها السلطة بعد فترتين من الرئاسة.. بل وبالغ الرئيس المصري المعزول حسني مبارك في الاّدعاء بأن النظام سيكون شريفاً، وقال: “إن الكفن ليس له جيوب”. لكن الممارسات كانت عكس الادعاءات بصورة فجة وفاضحة.. إذن هي أنظمة ملكية توريثية تدعي أنها جمهورية). ثم يقول (النظام السعودي لم تكن لديه تلك الفجوة ما بين الإدعاء والممارسة في طبيعة نظام الحكم، هو نظام ملكي ويتصرف كنظام ملكي. لم يدع أنه ملكية دستورية، ولم يدّعِ أنه جمهورية، كان الادعاء على قدر الممارسة. وبغض النظر عن رأي المعارض والمؤيد لطبيعة الادعاء وطبيعة الممارسة، لكن الفجوة التي كانت قائمة بين القول والفعل في مصر وتونس وليبيا، واليمن، ليست موجودة في علاقة الحاكم بالمحكوم في المملكة العربية السعودية).

لنقف للحظات أمام هذا النص الفذّ، الذي يستحيل صدوره من لديه خلفية أكاديمية، فضلاً عن أن يكون خبيراً في شؤون الحكم السعودي. يبدو أننا أمام لعبة المعنى الذي تتطلب من فندي القراءة عنها، حتى يستطيع هضم ما تعنيه عبارة (مديونية المعنى) التي تحدّثت عنها الفلسفة الفرنسية طويلاً من أجل فهم مايعنيه أن يكون أداء النظام السعودي متطابقاً مع الإدعاء. هل يكفي أن يزعم آل سعود بأنهم يمثّلون (ظل الله في الأرض)، حتى نقول بأنهم بالفعل كذلك، وأن آل سعود هم في حالة إنسجام مع ذواتهم، وأن المصالحة مع الذات بلغت أقصى درجاتها كيما نقول بأن ذلك أحد عوامل فشل التظاهر في السعودية.. وهل سقط زين العابدين بن علي لأنه اعتمد مبدأ التوريث أيضاً، رغم أننا لم نسمع عن وريث له من أبنائه، مع أنه بقي وفيّاً للجمهورية العلمانية. بالمناسبة ثمة نقطة إيجابية في كلام فندي غير ظاهرة وهي اعتبار الجمهوريات العربية مجرد أنظمة ملكيّة، في إشارة إلى أن النظام الملكي هو أسوأ أشكال الحكم. لا ندري إن كان يقصدها، ولكن سنحسبها له، في محاولة لاستخراج ماهو إيجابي في مقالته.

نتفق تماماً مع فندي في أن آل سعود لم يقولوا بأنهم يسوسون البلاد والعباد وفق نظام ملكية دستورية، ولم يدّعوا بأنهم جمهوريون، وهذا النفي لكل أشكال الملكية يبقي في نهاية المطاف مجرد شكل وحيد وهو الملكية المطلّقة، وهذا وحده كفيلٌ بأن يكون عاملاً للتظاهر والاحتجاج وليس لعدمه، بدليل أن العرائض التي رفعت للملك والأمراء الكبار منذ 1991 مروراً بعريضة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) في يناير 2003، وصولاً الى عرائض الاصلاحيين والاسلاميين السلفيين المتنورين التي رفعت في شباط (فبراير) الماضي تجمع على مطلب واحد وهو تحويل الدولة السعودية إلى ملكية دستورية. وهذا يعني أن ربط التطابق بين الإدعاء والممارسة لا يحبط المطلب الشعبي بإصلاح النظام، وقد يأتي يومٌ يتصعّد فيه المطلب إلى حد إسقاط النظام حين تصرّ العائلة المالكة على تجاهل المطلب الشعبي، لأنها تصل في نهاية المطاف الى نقطة التصادم. فالعلاقة بين الإدّعاء والممارسة تطابقاً وافتراقاً تلعب دوراً في وعي العلاقة وليس في التحريض على تغيير أسسها، فهب أن الدولة إسلامية كالسعودية ولكن في جوهرها وأدائها تقترب من الدولة العلمانية، فذاك يسهم في فهم الدولة ولكن شرط تغييرها يتطلب آلية أخرى بل ومنهجية أخرى، كالظلم، واحتكار السلطة والثروة، وتشجيع الفساد، والإستبداد، والتدخل الأجنبي، وهدر الكرامة الوطنية..

الحقيقة الثانية: يقول فندي ما نصّه: (طول فترة الفرد في الحكم)، حسناً، وكيف يكون ذلك أيضاً؟ لنتأمل في الجواب الصادم (فبينما جدّد النظام السعودي شعبيته من خلال قادة جدد يتناوبون على الحكم بتوجّهات مختلفة، لم يجدد لا النظام في تونس ولا في مصر ولا في ليبيا ولا اليمن شرعيته)، ويسوق مثالاً بأن طيلة فترة حكم القذافي في ليبيا تداول على السلطة في السعودية أربعة ملوك سعوديين وهم الملك فيصل، والملك خالد والملك فهد والملك عبد الله.. يقول: (تغيّر ملوك السعودية أربع مرات، والقذافي باق في مكانه). كنت أتمنى لو أن أحداً قرأ مقالة فندي قبل نشرها، اللهم إلا أن يكون المستوى الذهني في (الشرق الأوسط) لا يستوعب أكثر من ذلك.

وسنصرف النظر عن عبارة (توجّهات مختلفة)، لأنها تتطلب بحثاً مستقلا، ونقف عند حديثه عن تغير ملوك السعودية وبقاء القذافي في موقعه، (تغير ملوك السعودية أربع مرات، والقذافي باق في مكانه)، وكأنه يتحدث عن انتقال ديمقراطي للسلطة في السعودية، ونسي أن الذي يضطلع بمهمة تغيير ملوك السعودية هو عزرائيل (عليه السلام)، وليس الشعب، ولا صناديق الإقتراع، ولا حتى التوافق العائلي، ولذلك لا نجد أياً من ملوك آل سعود من بقي على قيد الحياة في ظل وجود ملك آخر، فليس لدينا مثلاً (الملك السابق)، وإنما (الملك الراحل)، وأن الملك فيصل قضى نحبه قتلاً على يد إبن إخيه الأمير فيصل بن مساعد، والملك خالد قضى عليه مرض القلب، أما الملك فهد، والذي حكم البلاد والعباد في الفترة ما بين 1982 ـ 2005، وقد تبدّل أربعة رؤساء أميركيين إبان حكمه وهم (رونالد ريغان، جورج بوش الأب، بيل كلينتون، جورج بوش الإبن)، أما كيف حكم الملك فهد البلاد والعباد، ولا نظن أن فندي بعيداً عن أجواء القصر، فمنذ إصابته بالجلطة الدماغية سنة 1996 وحتى يوم رحيله في 30 أغسطس 2005، كانت البلاد شبه مشلولة، حتى أن ملفات الدولة تراكمت في الديوان الملكي، وصار ولي عهده (الملك الحالي) عبد الله دونما سلطة، فيما كان الثلاثي (سلطان وسلمان ونايف) يبنون إمبراطورياتهم استعداداً لمرحلة يكون فيها خصمهم عبد الله ملكاً.

الأنكى من ذلك، أن الملك فهد بشهادة الأقربين والأبعدين والحلفاء والخصوم فقد أهلية الحكم بعد إصابته بالجلطة التي لم تقعده على كرسي متحرك فحسب، بل أفقدته العقل وهو شرط أساسي في القوامة السياسية وولاية الأمر، ومع ذلك أصرّ أشقاؤه السديريون على أن يحكم العباد والبلاد طيلة عقد كامل دون رقيب أو حسيب. أليس في ذلك، مايدعو للسخرية يا دكتور مأمون فندي وأنت المتخرّج في جامعة أميركية، يفترض أن تكون قد زوّدت طلاّبها بدروس في الديمقراطية والحكم الصالح.

أما في الوقت الراهن، فنحن أمام ظاهرة جديدة، فالمرض لم يقتصر على الملك وإنما أصبح عزرائيل عليه السلام في حالة تأهب دائم للإستدعاء في مهمة جماعية، لأن الحال الصحية للملك سيئة للغاية، وكذا حال ولي عهده الأمير سلطان الذي زاد على مرضه بالسرطان مرض الزهايمر، وحتى الأمير نايف، وزير الداخلية هو الآخر أيضاً مصاب بسرطان الدم، والأمير سلمان حاكم الرياض، والرجل الرابع في ترتيب الأمراء الأقوياء والنافذين في العائلة المالكة، هو أيضاً يعاني من أمراض القلب..فهل يجرؤ أحدٌ سواء من داخل العائلة المالكة أو خارجها على تقديم اقتراح بإعفاء أحدٍ من مسؤولياته بعد أن فقد الأهلية للقيام بالأمر.

يتحدّث فندي عن (إنجازات) تاريخية للملوك السعوديين، وكأنه يتحدّث عن عباقرة أو أنبياء، ولكن حين يأتي للملك خالد لم يجد ما ينسبه إليه من إنجاز فاكتفى بـ (طيبة القلب)، بديلاً عن الإنجاز التاريخي.

يقول فندي (استخدم ملوك السعودية النفط لبناء دولة حديثة)، في المقابل (حوّل القذافي ليبيا إلى خرابة، بنفس أموال النفط، لذا قامت الثورة في ليبيا ولم تقم في السعودية). وأضاف إلى ذلك الفساد المستشري في الجمهوريات الديكتاتورية حسب قوله، مقارنة مع السعودية. وهنا سنضر لاعتماد لغة الأرقام، لأننا أمام تحدٍّ حقيقي مع زعم أن الملوك السعوديين استخدموا النفط في بناء دولة حديثة، ونسي الفارق بين السعودية وليبيا في حجم الإنتاج النفطي.

ونختم بالحقائق التالية لبيان تهافت المقاربة الفندية حول فشل التظاهر في السعودية:

ـ نقلت وكالة (يونايتد برس) في 22 شباط (فبراير) 2007 عن إقتصاديين وقانونيين سعوديين بأن الخسائر التي تتكبّدها المملكة نتيجة الفساد تقدّر بنحو 3 تريليونات ريال (800 مليار دولار).

ـ كشف رئيس ديوان المراقبة العامة أسامة فقيه في تلك الفترة عن أن المشاريع الحكومية التي لم يتم تنفيذها إلى الآن وصلت الى 4000 (أربعة آلاف) مشروع بقيمة ستة مليارات ريال.

ـ في 28 أيار (مايو) 2010 نشرت صحيفة (الشرق الأوسط) نبأ عن مشروع مدينة الملك عبد الله الرياضية في جدّة بكلفة 37 مليار ريال (10 مليارات دولار) وهي الأضخم في تاريخ بناء الملاعب في العالم.

ـ نسبة تملّك البيوت تعتبر الأقل خليجياً وتصل الى 22% بينما في الإمارات تصل إلى 91% وفي الكويت إلى 86% بحسب صحيفة الرياض في 28 يونيو 2007. يقول عضو اللجنة العقارية بغرفة الرياض د.عبد الله المغلوث في 16 نيسان (إبريل) 2010 أن نسبة إمتلاك المواطنين للعقار (السكن) تعد الأقل في العالم وحتى بين دول العالم الثالث. وأكّد ذلك أستاذ الإقتصاد في معهد الدراسات الدبلوماسية د. محمد القحطاني في ندوة حول أزمة السكن في السعودية في أغسطس 2009.

ـ ذكر أعضاء في مجلس الشورى السعودي أن عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر في السعودية يصل الى 3.8 مليون نسمة.

ـ مؤشر الأوضاع المعيشية في العالم لعام 2010 احتلت فيه السعودية ذيل القائمة وحازت على المركز 169 من أصل 190 دولة شملها المؤشر، بينما احتلت تونس المرتبة 83 ومصر 135، وتقدّمت السعودية على العراق بنقطة واحدة حيث جاء في مركز 170.

الصفحة السابقة