الدولة المذعورة

لم يكن رد فعل الأمير نايف في لقائه السري ـ المعلن عنه لاحقاً ـ مع رؤوساء تحرير الصحف المحلية بحضور وزير الثقافة والإعلام عبد العزيز خوجة على سؤال حول تأثير الثورة المصرية على الداخل السعودي طبيعياً ولا عادياً، فقد بدا وكأنه يدافع عن مصير دولة آل سعود. ولكنّه نسي أن جوابه هو من سنخ أجوبة مبارك والقذافي وعلي صالح وحمد آل خليفة بأنهم (يختلفون عن الآخرين)، وهي ما يمكن أن نطلق عليها (أجوبة ما بعد رحيل بن علي)، فكل من جاء دوره في الرحيل كان يقول (لست مثل الذي سبقني..)، وإذا هم جميعاً في مركب واحد وإن كانت قلوبهم شتى.

الأمير نايف يقول (نحن لسنا مصر)، حسناً من تكونوا إذن؟ وقد استعمل غيركم (الخصوصية)، حتى أن القذافي قال بأنه كيف يستقيل من منصب هو قد تخلى عنه من عام 1977، وأنه مجرد زعيم تاريخي، ومجد، وكرامة الأمة..والحمد لله رب العالمين على نعمة العقل والدين!

يعتقد آل سعود بأن عدم التنازل لمطالب الشعب علامة ضعف، ولا بد من الصمود حتى تمرّ العاصفة، لأن الإستجابة لها يعني الغرق، والمواجهة يعني الإنكسار، ولا سبيل سوى الإنحناء للعاصفة مع الثبات على الموقف. هذا الموقف التقليدي الذي اعتاد عليه آل سعود منذ نشأة دولتهم..يتركون الحركات الإجتجاجية تأخذ مداها بدءً من لحظة إنفجارها إلى أن تصل إلى درجة الإنهاك ثم تنقّض عليها وهي في حالة بائسة، عاجزة، واهنة..

مشكلة آل سعود أنهم يتمسّكون بأساليب قديمة يعتقدون بأنها مازالت صالحة للإستعمال، ولا يدرون بأن هذه الأساليب تصلح لكل الأجيال باستثناء الشباب الذي يتسلّح بعدم الإكتراث، حين يصبح العناد محرّضاً فعّالاً على المواجهة مع السلطات، وخصوصاً تلك التي تحاول إستخدام القوة السافرة من أجل إخضاع الشباب.

لا شك أن التوسّل بالقمع في مثل هذه الظروف يعتبر أمارة هلع، كالذي يملؤ المقبرة صراخاً وهو يمشي وحيداً بين قبورها في حلكة الظلام، فهو يغطّي على خوفه برفع الصوت كيما يسمع الآخرين بأنه ليس خائفاً. الحكومة السعودية مذعورة ليس لأن رياح الثورة هزّت بقوة جدارنها من الجهات الأربع فحسب، بل إن المناخ الذي صنعه الإعلام العربي والعالمي وكذلك حملات التواصل الإجتماعي الداعية إلى التظاهرات جعلتها في حالة فزع غير عادي، وقد يدفع بها خوفها إلى ارتكاب أخطاء كارثية عن طريق استعمال القوة المفرطة ضد المتظاهرين..

ما ظهر في الأيام التي سبقت الموعد المحدّد للتظاهرات (11 مارس)، أن المناخ العام بات مهيئاً بدرجة كافية لأي نشاطات احتجاجية شعبية، وأن ثمة انفرازات واضحة بدأت معالمها من خلال الموقف من التظاهر، فقد كان إصدار وزارة الداخلية بياناً (تحرّم) فيه التظاهر باعتباره مخالفاً للشريعة الإسلامية، وما أعقبه من بيانات مماثلة صدرت عن كل من (هيئة كبار العلماء)، و(مجلس الشورى)، و(هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، إضافة الى عدد من رجال الدين والمشايخ المقرّبين من المؤسسة الدينية الرسمية قد أحدث انقساماً داخلياً على أساس مع أو ضد التظاهر أو بالأحرى التغيير، ولذلك بدا واضحاً أن (مجلس الشورى) الذي يفترض فيه تمثيله مصالح الناس بات وكأنه مؤسسة تابعة بصورة كاملة للنظام السياسي، ما يعزّز مطالب التيار الإصلاحي في هذا البلد المطالب بتغييرات جوهرية، بما فيها إنتخاب أعضاء مجلس الشورى، وفصل السلطات الثلاث، وتحقيق مبدأ المحاسبة والرقابة..

ماذا يعني ذلك أيضاً؟ إنّ أول نتيجة يمكن أن نخلص إليها من كل ما سبق أن الدولة السعودية تحشد كامل قوتها لمواجهة الأغلبية الشعبية، وهذا بحد ذاته أول الأخطاء المهلكة، لأنها بذلك تضع نفسها أمام تحديات الإستقرار والوحدة. فالخيار الأمني لم ينجح حتى الآن في أي دولة عربية، وحتى سلطنة عمان التي تنبّهت في مرحلة مبكرة إلى أنها تقترف جريمة في حال واجهت المحتجّين في الشارع ولذلك لجأت على نحو عاجل إلى إجراء تعديلات وزارية وتهيئة أجواء جديدة مشجّعة على الإصلاح.. بالنسبة للدول المعاندة مثل ليبيا واليمن والبحرين، فإن النتائج شبه محسومة، وأن مؤشرات السقوط بدأت تلوح في الأفق، وبالتالي لا سبيل إلا التواضع والإنصات لمطالب الناس المشروعة..

السعودية ألفت التعايش في حال الخوف الدائم، وأدمنته، ولذلك فهي تبطش لأنها تستجيب لخوفها، وتنكّل لأنها تدرأ عن نفسها هلعاً يهيمن عليها من الآخر، الذي قد يكون عدوّاً واضحاً أو حتى صديق يخشى منه الإنقلاب في لحظة ما..كانت تشتري حلفاءها بالمال، وتحافظ عليهم بالمال، لأنها فزعة من سوء المنقلب..

يمكن القول بأن هذه المرحلة هي أسوأ ما مرّ على آل سعود منذ قيام الدولة السعودية 1932، لأن مصادر الخطر الموجّهة إليهم الآن ليست معروفة، هل هي من الداخل أو من الخارج، هل هي من الولايات المتحدة وأوروبا (أي الحلفاء الداعمين) أم هي من خصومها العلنيين (إيران، وسوريا وحلفائهما)، أم هي من الدول الثورية (مصر وتونس، واليمن والبحرين..)، أم هو الشعب في الداخل الذي تأخذ حركة الاحتجاج فيه وتيرة متسارعة وغير قابلة للضبط..

من وجهة نظر باحثين غربيين، أن الشعور بالحصار هو ما ينتاب آل سعود هذه الأيام، وهو ما يجلب جملة مخاوف قد تدفع بهم للتصرّف بطريقة غير منطقية وربما حمقاء، ولابد من قرار تاريخي..ونخشى أن يكون هذا القرار يأتي في الوقت الضائع.

الصفحة السابقة