سلاح سعودي لن يُتنازل عنه!

تحويل الخصومات السياسية الى حروب طائفية

خالد شبكشي

في كل ضائقة تمرّ بها الحكومة السعودية لا ترى أمامها سوى التمترس الطائفي، وسوى مشايخ الوهابية ليقفوا معها وليحوّلوا معارك النظام السياسية الى معارك طائفية، يعتقد النظام انه ناجح وبارع في استخدامها.

في الحرب مع الحوثيين انقلب الإعلام السعودي طائفياً بشكل شبه كامل ضد الزيود اليهود عملاء المجوس في إيران. ثم انثنى الإعلام الطائفي المحلّي ليواجه المواطنين الشيعة تبعاً لحرب الخارج الحوثي، وقصف مدن اليمن وقتل الآلاف من المواطنين هناك بلا مبرر، وتهجير عشرات الألوف من ديارهم عبر القصف بالطيران. ومع أن المعركة الحوثية السعودية سياسية بامتياز، إلا أنها أصبحت طائفية، بفعل آل سعود بغرض تحشيد الداخل الوهابي المتوثب طائفياً كالعادة لقتال أعداء الله والإنسانية الكفرة (وهم كل من لا يؤمن بما يؤمنون). ومع هذا كان هناك، تساؤل: لماذا في خضم الحرب السعودية/ الحوثية، تمّ توجيه المعركة طائفياً ايضاً تجاه الداخل الشيعي، مع أن قيادات الشيعة في السعودية (وهذا خطأ) وقفوا مع النظام في عدوانه على أُناس يخوضون معركة ضد علي صالح، حيث جاء لإنقاذ الأخير وتصوّر أنه سينتصر على الحوثيين، ولكن الله أخزى الجيش السعودي، وها هو ينتقم من علي صالح عبر ثورة شملت كل محافظات اليمن، ولن يستطيع آل سعود إنقاذه لا بالطائرات ولا بالحرب الطائفية.

لنترك اليمن جانباً. فلو تساءلنا: ما هي مشكلة السعودية مع النظام في العراق؟ بالقطع فإنه موضوع سياسي وخلاف مع الحاكمين هناك لأنهم ليسوا أداة في يد الرياض، في حين أن حلفاء الأخيرة لم يستطيعوا رغم الأموال السعودية السيطرة على حكم بغداد. إذن لماذا صار موضوع العلاقات العراقية السعودية موضوعاً طائفياً، ولماذا أرسل السعوديون وهابييهم القاعديين ليعانقوا حور عينهم في تفجيرات هناك تأتي على المئات من المدنيين؟ لماذا الإصرار على إعطاء كل خلاف سياسي مع الآخر طابعاً مذهبياً أو تحويله الى خلاف ديني؟

وتتكرر القصة مع ايران منذ أن سقط الشاه. في زمن الشاه كان الخلاف سياسياً، حول مواقع النفوذ والسيطرة، ولم يكن خلافاً عقدياً، وكان الإثنان الشاه والملك السعودي دعامتا أمن الخليج، وكلاهما مواليان للغرب وبالخصوص الولايات المتحدة. لكن مع هذا النظام الجديد، خسرت السعودية مع طهران معارك النفوذ، فتحولت المعارك طائفياً منذ ست سنوات بعد هدوء المعارك السابقة وعودة العلاقات، وبعد أن كانت الثمانينات ميداناً للسعودية لتجربة سلاحها الطائفي والعنصري لوقف امتدادات التأثير الإيراني على المنطقة العربية.

وها هي المسألة الآن ذاتها في البحرين: إنها قضية شعب يطالب حكومته بالمزيد من الحريات. ماذا حدث أن يتنادى لها كل وهابيي العالم ليجعلوها ـ بأمر من السعودية ـ حرباً طائفية ينقسم فيها الشعب البحريني على نفسه، وتفتح أبواب ونوافذ الصراعات الإقليمية على داخله الهش؟!

تحالف الإستبدادين الديني والسياسي

ومع سوريا، تتكرر القضية، فالحكم العلوي يجب أن يسقط. هذا هو منطق السعودية. يجب إسقاطه لأنه علوي، وليس لأنه نظام مستبد كالنظام السعودي نفسه؟ إن اختلاف سوريا والسعودية أمرٌ سياسي يتعلق بالموقف من اسرائيل ولبنان ودعم المقاومة الفلسطينية والتحالفات السياسية في المنطقة. رفضت سوريا أن تكون في خانة حزب الإعتدال وتتبنّى سياساته، فكانت الحرب عليها تتخذ طابعاً سياسياً في الظاهر وطائفياً في العمق، قبل أن ينفجر القيح الطائفي مؤخراً في كل القنوات السعودية ووسائل إعلامها. ما يدهش المراقب أنه حتى من يعتبرون أنفسهم علمانيين ظهروا وكأنهم الأسرع مبادرة الى استخدام الموضوع الطائفي كلما تعرّضوا لانتكاسة كما هو حال الحريري، في خطابه السياسي والإعلامي.

ولقد سبق أن فعلت السعودية ذات الأمر، ولكن على قاعدة دينية عامّة، إذا ما كانت المواجهة لا تنطبق عليها مواصفات المذهبية الطائفية. فمع عبدالناصر كما مع ليبيا وحتى مع عراق صدّام حسين ومن قبله، كانت السعودية تستخدم ورقة الدين كمحور في صراعها السياسي مع الآخرين. فهذا النظام كافر وملحد لأنه بعثي، وذاك يقول بالقومية العربية، إذن فهو كافر، وقد انخرطت المؤسسة الدينية السعودية في هذا الصراع كثيراً، وهناك نتاج فقهي فتوائي تجده في كتابات المفتين الأقدمين من بن باز وغيره.

ما هذا النظام الذي لا يعرف حلاً لمشاكله الداخلية والخارجية إلا استخدام الطائفية. سواء كان ذلك ضد أنظمة أو ضد شعبه نفسه. فمن يعترض عليه من الوهابيين يصفهم بالخوارج، أو خوارج العصر: وهذا اللفظ أطلق على جيش الإخوان الذي صنع مجد آل سعود قبل أن يقضوا عليه أواخر عشرينيات القرن الماضي. واستخدموه تالياً ضد السلفيين في الستينيات ثم ضد جهيمان الخارجي! أواخر السبعينيات، ثم ضد الصحويين بداية التسعينيات ثم ضد القاعديين منذ 2001. فكل من يعترض على النظام السعودي يجري تخريجه من الدين بطريقة من الطرق! فالمعارضون لم يعترضوا على سياسات النظام ـ من وجهة نظر آل سعود ـ بل اعترضوا على الإرادة الإلهية التي جاءت بهم سلاطين وملوك، وتعدّوا بذلك على الله، وليس على آل سعود!

أهذا منطق يعقل؟ أن يتم تكتيل المواطنين ضد (الخوارج) يوماً، وضد (الروافض) يوماً آخر لمجرد أن طالبوا بمعاملتهم بالحسنى وبمبدأ المواطنة وإلغاء التمييز الطائفي، وضد (الصوفيين المشركين) في الحجاز لمجرد أن اعترضوا على هذا الفعل السلطوي الإفسادي أو ذاك؟

ولا يكتفي النظام بهذا فحسب، بل أنه يضيف أبعاداً خارجية ضد كل من اعترض عليه أو يعترض. فالإصلاحيون عملاء لأميركا؛ والمواطنون الشيعة عملاء للمجوس في إيران؛ والصوفيين عملاء لمصر وميولهم السياسية لاتزال هاشمية؛ والقاعدة التي خرجت من حضن النظام وتغذت بأمواله وأفكار مشايخه، صارت تتهم بأنها بيد إيران، وأن الإخوان المسلمين هم سبب المشكلة في السعودية، في حين أن كل العالم يضجّ من فكر الوهابية وأموال آل سعود التي تمدّها بعصب التكفير والقدرة على الإنتشار.

ماذا تصنع مع نظام مطواع (إن لم يكن عميلاً) للغرب متساهل في كل شيء حتى في الدين؛ لا يجد له سلاحاً يواجه به خصومه ومنافسيه في الداخل والخارج سوى المال والطائفية؟ بعيد إفشال مظاهرات 11 مارس الماضي، ظهر لنا النظام بقرارات، تبيّن حجم إتكائه على العنصر الديني/ الطائفي، وعلى أجهزة قمعه. إن توزيع الأموال والهبات بيّن أن النظام لا يعتمد على محبّة شعبه، الذي كان أمامه اختبار 11 مارس الماضي؛ حيث يزعم النظام أن أحداً لم يتظاهر حبّاً في آل سعود؛ فيما كانت عشرات الآلاف من القوات الحكومية تحاصر المدن والقرى والساحات التي يتوقع خروج مظاهرات منها. أليس هذا دليلاً على الولاء؟!!

في الوقت الحالي، فإن النظام بات مقتنعاً أكثر من أي وقت مضى، بأن بقاءه رهين بمشايخ الوهابية، مانحي الشرعية له في محيط نجد، وأصحاب التنظيم والقدرة الفائقة على الحشد الطائفي عابر الحدود ضد هذه الدولة أو تلك الجماعة أو ذلك الشخص. آل سعود يحتاجون الوهابية وشيوخها في تحويل معاركهم السياسية الى معارك طائفية لا يجيد أحدٌ الخوض فيها بمثل مشايخ نجد، فهم الأكثر إبداعاً في هذا وقدرة على تسخير وتحفيز المشاعر الطائفية ضد الخصوم وتسقيطهم.

وكما في الخارج، فإن النظام الذي لا يريد أن يقدم تنازلاً في السياسة، أي الإصلاحات السياسية، فإنه لا بدّ أن يقف أمام الشعب، وتوفر الوهابية عصا الدين، فيما النظام يوفر عصا الأمن، وبذا يتلاحم الإستبداد الديني بالسياسي لقمع مطالب الشعب بحقوقه في العيش الكريم.

ومقابل هذا، فإن ما تكسبه المؤسسة الدينية ومشايخ الوهابية عامة، وهي كلها مؤسسات نجدية الإنتفاع، هو تسويد المذهب الوهابي، وتعزيز احتكار السلطة الدينية بيد نجد الوهابية، وسكب الأموال في أحضان رجال المذهب المتخلّف عن العالم، لكي يبلّغوه في داخل لم تبلغه الدعوة!، ونشره في الخارج على جناحي طائر التكفير!

منطق ال سعود: نقدّم تنازلات للمشايخ مالاً، ونوسّع نفوذهم داخلياً حتى يكره الشعب نفسه الدين، أي دين (وهذا قول بل نص للملك فهد سجلته إحدى الوثائق الإميركية عام 1991). بهذا يأمن آل سعود أن لا ترتفع مطالب سياسية إلا وتصدى لها هؤلاء قمعاً مباشراً، ووصمها بأنها مطالب رافضية، أو مطالب صوفية تخدش العقيدة، أو مطالب علمانية ليبرالية حداثية ملحدة! كما جرت العادة!

النظام السعودي الذي يفشل في الخارج ويضعف نفوذه يوماً بعد آخر، لازال بحاجة الى مقاومة تأثير الثورات، ولا يستطيع في خضم المنافسة مع الآخر إلا استخدام الطائفية أو سحب بساط الدين لتكسيره بعد تكفيره. فالتكفير لا تستخدمه القاعدة فحسب، بل هو منتج وهابي أصلي، استخدمه السياسي منذ الأيام الأولى لغزو آل سعود المناطق الأخرى التي استحلوا دماءها وأرضها وقتلوا شعوبها تحت يافطة أنها بلد الكفار (بما في ذلك الحجاز) وبحجة إعادة الناس الى جادّة الصواب الوهابي!

هناك معارك تنتظر آل سعود مع أكثر من ثورة ناجحة، وأكثر من نظام جديد يبزغ ديمقراطياً. وكما هي الحالات الماضية، سيكون سلاح الدين الوهابي، والطائفية المصدرة سعودياً، واحداً من أهم أدوات المعركة السياسية الإقليمية.

فانتظروا لتؤكد لكم الوقائع هذه الحقيقة!

الصفحة السابقة