الهرب للأمام: قلق متصاعد لدى آل سعود

أثار حكام الرياض الطائفية كإسفين لإحباط إمكانية تشكيل جبهة إصلاح وطنية موحّدة

توبي جونز

نشرت مجلة (فورين بوليسي) الأميركية على شبكة الإنترنت في 23 آذار (مارس) الماضي مقالاً للكاتب والأكاديمي توبي جيمز، ناقش فيه الطريقة التي تصرّفت بها العائلة المالكة في السعودية في ضوء قرار التدخل العسكري في البحرين عقب انتفاضة شعبية اندلعت في 14 شباط (فبراير) الماضي. توبي جونز المتخصّص في الموضوع السعودي، والذي أمضى سنوات طويلة في متابعة شؤونه يضيء على نقاط هامة، تبدو خافية عن كثير من المراقبين والمحلّلين الذي يتعاملون مع الحوادث السياسية المباشرة، فيما يغوص جونز في ثنايا الأبعاد المجهولة التي لطالما فرضت نفسها على صنّاع القرار السياسي في المملكة. السعودية تدير اليوم سياسة بوحي من حالة هلع تعيشها، فرضت عليها اعتماد أدوات تقليدية، فهي اليوم تنكفىء على نفسها، وتعيد تشكيل قوتها من خلال إحياء تحالفها التاريخي مع المؤسسة الدينية، فيما يغادر الملك موقعه الإصلاحي المزعوم.

قادة السعودية الموتورين لم تكن لديهم طريقة مبتكرة لقمع المعارضة ، ولكنهم على الاقل متّسقون.

الحكام السعوديون الكهول قلقون، وأن القرارات الأخيرة في الرياض، بما في ذلك إرسال السعودية لوحدات عسكرية للمساعدة في سحق، بعنف، إحتجاجات مؤيّدة للديمقراطية في البحرين، تشير إلى أن النخب الحاكمة في المملكة غير مستقرة بصورة متزايدة، بسبب إنهيار النظام القديم في الشرق الأوسط.

يبدو الحكّام السعوديون في حالة قلق من احتمال وقوع اضطرابات سياسية في الداخل. وحتى الآن، صمدت المملكة أمام العاصفة التي تفجّرت في جميع أنحاء المنطقة. ولكن من الواضح أن آل سعود ليسوا مرتاحين تماماً، على الرغم من أن العديد من المراقبين في الغرب يؤكِّدون على الدوام بأن نظام آل سعود مستقر، وليس معرّض للخطر، في الغالب لصدمات خطيرة. في الواقع ، الرياض تسعى جاهدة لايجاد سبل لدرء احتمال معارضة شعبية - مع تعزيز القوى الرجعية في الداخل والإبقاء على تفاقم التوتر في المنطقة.

وبفعل شعوره بالقلق من احتجاجات المعارضة التي كانت ستندلع في 11 مارس، أمر النظام قوّات الأمن بأن تملأ شوارع المملكة، وخنق المظاهرات المحتملة، وإرسال إشارة واضحة إلى أن أي مظاهر علنية ستواجه بشدّة. وحذر الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية المتحفّظ، من أن النظام (سيقطع أي إصبع) يرفع ضده بالاحتجاج.

الجهود المبذولة لنزع فتيل الاحتجاج في الداخل، وهو موضع اعتبار، أخذ أشكالاً أخرى كذلك. في يوم الجمعة 18 مارس، ظهر الملك عبد الله على شاشة التلفزيون الرسمي ليعلن عن خطة لبرنامج المساعدات المحلية الجديدة، مستعرضاً الخطوط العريضة لسلسلة من التدابير المالية والإقتصادية التي تهدف إلى (تسمين) المحفظات ورفع معنويات رعايا البلاد. مزيج من التهديد بالعنف ووعد بإعادة توزيع أكثر للثروة النفطية يؤكّد عمق هواجس النظام.

شيء واحد أثبته الحكام في المملكة حتى الآن وهو عدم استعدادهم للنظر بجدية في الإصلاح السياسي ، الذي هو بالضبط ما يطالب بالقيام به منتقدوهم في الداخل. جاء الملك عبد الله، الذي هو ذو شعبية كما أي مستبد كهل يمكن أن يكون، الى السلطة في 2005 مع سمعته بأنه مصلح، شخص إعتقد كثير من السعوديين بأنه سيقتحم النظام السياسي الفاسد. إنه لم يفعل ذلك. عبد الله، في كثير من الأحيان، لا يستخدم لغة الإصلاح لتعزيز قبضة عائلته على السلطة. في خضم الأزمة الحالية، أبدى حكّام السعودية تصميماً أكبر على الإمساك بشدّة على الغنيمة ـ السلطة. لقد برهنوا أيضاً على استعدادهم للجوء إلى الإستراتيجيات السياسية الراسخة لتجنّب إنفلات السيطرة.

مظاهرات السعودية في المنطقة الشرقية

بالإضافة إلى إصدار التهديدات وإنفاق الأموال، فإن النخبة الحاكمة تتطلع أيضا لتلميع علاقتها مع قاعدة قوتها التقليدية، أي المؤسسة الدينية. وفيما يعتقد كثيرون بأن آل سعود دائماً ما يعتمدون على رجال الدين للحصول على الدعم، فإن الحقيقة هي أن العلاقة كانت في كثير من الأحيان مثيرة للجدل. وبحلول أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وسط الطفرة النفطية، كان رجال الدين مهمّشين جزئياً كقوة سياسية. على مدى القرن العشرين، كان هدف السعوديين الرئيسي هو بناء دولة مركزية قوية. في حين أن رجال الدين كانوا مفيدين في عملية التوسع الإمبراطوري في الجزء الأول من القرن الماضي، ولكن كان ينظر إليهم على أنهم عقبة في وقت لاحق.

الأحداث في اواخر السبعينيات من القرن الماضي، جلبت رجال الدين الى الواجهة مجدداً. في مواجهة الحصار المفروض على المسجد الحرام في مكة في 1979 من قبل مجموعة من المتشدّدين الدينيين ـ وهو هجوم خطير على السلطة السياسية للعائلة المالكة ـ سعى حكام السعودية لطلب مساعدة مباشرة من رجال المؤسسة الدينية. ومن أجل إحباط الإنتقادات المحتملة وإنهاء الحصار، طلبوا وتلقوا قراراً دينياً باستعمال القوة داخل الحرم وإرغام المتمرّدين على المغادرة. وفي مقابل ذلك، كافأ السعوديون المؤسسة الدينية بفيض من الدعم المالي والسياسي. فقد كانت الكلفة السياسية عالية.. وكان على النخبة الحاكمة في المملكة إعادة اكتشاف نفسها كيما تستعيد مصداقيتها بوصفها خادماً لأرض الإسلام المقدّسة، وكانت مضطرة لاستيعاب مصالح رجال الدين منذ ذلك الحين.

في السنوات الأخيرة، إتخذ الملك عبد الله تدابير مثل تحدي أحكام القضاة، وفصل شخصيات دينية بارزة من مواقعها الرسمية، والدعوة الى مزيد من الرقابة على النظام القضائي، وفحص سلطة العلماء، ودحض المسار السياسي الديني لما بعد 1979. لكن في خضم الأزمة الحالية، فإن إعادة تشكيل العلاقة السعودية الوهابية قد تمّ تعطيلها. فقد أبدى رجال الدين معارضة للتظاهرات المزمعة في 11 مارس، معلنين بأنها غير إسلامية. وأصدرت مجموعة من رجال الدين بياناً أكّدت فيه على (حرمة المظاهرات في هذا البلد)، وأن (الإصلاح والنصيحة لا ينبغي أن يكون عبر المظاهرات والطرق التي تثير الفتنة والانقسام، وهذا ما حرّمه علماء الدين في هذا البلد في الماضي والحاضر وحّذّروا منه). كان استعراضاً قوياً لتقديم الدعم للأسرة الحاكمة، ويستعد العلماء لأن ينالوا على ذلك خير الجزاء.

وأوجز جزءٌ هامٌ من برنامج المساعدات المحلية بأنه سيوجّه للمؤسسة الدينية في المملكة. وسيتم سكب الملايين من الدولارات في خزائن الشرطة الدينية في البلاد، وهي المنظمة التي تمّت محاصرتها مؤخراً بالإنتقادات في الداخل. إقترح النظام أيضاً بأن انتقاد المؤسسة الدينية لن يتم التسامح معه بعد الآن، بما يقلب الإتجاه الذي ساد في السنوات الأخيرة إزاء الخطاب العام المفتوح عن دور الدين والقيم الدينية في المجتمع السعودي. ومن الجدير بالذكر أيضاً أنه في حين إتخذ بعض رجال الدين غير الرسميين، مثل سلمان العودة ، موقفاً يدعو فيه إلى الإصلاح السياسي، واصلت المؤسسة الدينية الرسمية الإصرار على شرعية النظام السياسي القائم.

حكّام المملكة يقومون أيضاً بإذكاء المخاوف الطائفية كوسيلة لتقليل شأن الدعوات من أجل الإصلاح في الداخل وكوسيلة لتبرير التدخّل في البحرين. وفي الأسبوع الذي سبق 11 مارس، قام الشيعة في المنطقة الشرقية من السعودية بعدد من الإحتجاجات الصغيرة الداعية للإصلاح والإفراج عن السجناء السياسيين. وبالرغم من أن الإحتجاجات كانت صغيرة، وغير موصولة مباشرة بالدعوة لمظاهرات يوم 11 مارس، فقد استولت على قادة الرياض للقول بأن ثمة يداً أجنبية كانت تحرّكها. (وكما يقول الأمير سعود: لن نتسامح مع أي تدخل في شؤوننا الداخلية من أي طرف أجنبي.. وإذا وجدنا أي تدخل أجنبي، سنتعامل مع هذا بشكل حاسم). لم يعد النظام يزعم بأن المجتمع الشيعي، الذي يبلغ عدد نفوس أفراده نحو 1.5 مليون شخص، خاضعاً للنفوذ الإيراني. على الرغم من أن الشيعة في السعودية يصرّون على ولائهم للسعودية، فإن القادة في الرياض وجدوا من المناسب إثارة الطائفية كإسفين لإحباط إمكانية تشكيل جبهة إصلاح وطنية موحّدة. فقد أثارت الاحتجاجات الشيعية مخاوف مباشرة لدى النظام، كونها سعت لتقويض أي إنتفاضة محتملة بدعوى التدخل الإيراني. في المكان الذي يوجد فيه مشاعر معادية للشيعة لا تزال متفشية، فإن التأطير الطائفي يزيد في إخماد أي تعبئة محتملة).

خارج المملكة، فإن المطالبة بالتدخل الخارجي والسياسة الطائفية كانت أيضاً في قلب تصاعد العنف في البحرين والقرار السعودي بالتدخل عسكرياً هناك. ليس هناك دليل دامغ على دعاوى بأن إيران متورّطة في الشؤون الداخلية البحرينية أو أن الحركة المؤيّدة للديمقراطية تنظر إلى طهران في أوامر تسييرها. (التعليقات الصادرة عن حسن المشيمع، وهو شخصية معارضة بحرينية رئيسية تمّ اعتقاله في حملات المداهمة الأخيرة، أن التدخل السعودي سيبرّر للمعارضة البحرينية التوجّه لإيران هو في الغالب تهديد، على الرغم من أن كلماته قدّمت المبرر للحكّام في المنامة والرياض). إن مطالب التدخل الأجنبي بمثابة الخيال المريح للسعوديين والبحرينيين الذين يأملون حد اليأس لتجنّب انهيار العائلة المالكة البحرينية أو حتى زيادة تمكين الشيعة في دولة البحرين بعد إصلاحها.

وسيكون من الصعب المجادلة بأن حكّام السعودية يعتقدون أكثر من أي وقت مضى وبشكل خلاّق في التعامل مع الأزمات السياسية. إن كيس الحيل السعودية كان دائماً صغيراً للغاية. ولكن ما تفتقر إليه المملكة في الخيال، أنها تجعله في تناسق. في محاولة لسحق واستمالة التذمر المحتمل، أبدت النخب في المملكة أن الإصلاح السياسي الحقيقي هو احتمال بعيد. ويبقى أن نرى ما إذا كان هذا سوف يرضي رعاياهم.

على النحو ذاته من الارتياب هي العواقب المحتملة من المناورة الطائفية التي تقودها المملكة. فقد ناضل الشيعة في دول الخليج العربية، بما في ذلك السعودية والبحرين، من أجل مساحة في الأنظمة السياسية في بلدانهم والتعافي من أشكال مختلفة من التمييز. وبالرغم من جهودهم، فإن أغلب الأبواب بقيت مغلقة. ومع التصعيد الخطير في البحرين وقيام السلطات في الرياض والمنامة بتصنيع مؤامرات طائفية، ومزاعم بنفوذ إيراني في المجتمعات الشيعية العربية قد يصبح في نهاية المطاف تحقيقاً ذاتياً.

وهناك بالفعل دلائل على أن العداء الإقليمي آخذ في الإرتفاع تقوده الأحداث في البحرين. وقد تصاعدت التوتّرات بين إيران وجيرانها العرب، حيث أن طهران والمنامة سحبا دبلوماسيين كبار. وفي 15 مارس، حذّر وزير الخارجية الايراني علي اكبر صالحي من أن التدخل العسكري السعودي في البحرين قد يقود (المنطقة إلى أزمة ستتبعها عواقب وخيمة). وفي حين أن العلاقات بين العربية السعودية والبحرين وايران كانت قاسية منذ فترة طويلة، فإن التصعيد الحالي هو نتيجة مباشرة للوضع المنكشف في المنامة والجهد السعودي البحريني يضعه في إطار مؤامرة طائفية في المنطقة. في التسمية المضلّلة ايران باعتبارها شريكة في النضال الداخلي في البحرين، وأن الرياض والمنامة تساعدان على تهيئة الظروف التي قد تفضي في مؤدّاها إلى أن تكون النتيجة صحيحة.

لسنوات عديدة ، دفع النشطاء البحرينيون قضيتهم إلى أروقة السلطة في الولايات المتحدة وأوروبا. وفيما تواصل الولايات المتحدة دعم نظامي آل خليفة وآل سعود، فإن المعارضة البحرينية ليس أمامها سوى خيار التطلّع عبر الخليج للحصول على المساعدة.

الصفحة السابقة