دولة اللادولة

عبثاً يحاول بعض المتزلّفين للنظام السعودي إقناعنا بأننا نعيش في دولة مكتملة التكوين، وتقوم على حكم المؤسسات والقانون، وترعى شرعة ما سواء كانت دينية أم وضعية، وعبثاً أيضاً يحاول علماء البلاط إقناع جمهورهم بأن دولة آل سعود تمتثل لأوامر السماء ونواهيها، وعبثاً كذلك يحاول بعض المتحذلقين من الذين أدمنوا النفاق المجاني إقناع أنفسهم بأن ثمة قيادة عظيمة تسعى لإرساء أسس (المدينة الفاضلة)، ولكن من سوء طالعها أن الظروف الخارجية وأحياناً كثيرة الداخلية تحول دون وضع حجر الأساس لتلك المدينة.

ولكن ما هو أكثر عبثية، أن دولاً كبرى وديمقراطية قد أماطت لثاماً عن وجه استعماري دميم وشديد القبح حين أوهمت شعوبها بأنها تتعامل مع دولة حقيقية إسمها السعودية، وأن هذه الدولة تسير في طريق الإصلاح، على حد وزير الدفاع الأميركي روبرت جيتس.

لا ريب لدى كثير منا، أن التاريخ لو عاد بأولئك الذين رسموا حدود الدولة السعودية، ونخصّ بالذكر السير برسي كوكس، وكل المعتمدين الإنجليز الذين ساعدوه في توزيع أراضي الخليج على العوائل الحليفة لبريطانيا من عمان وحتى الكويت مروراً ببقية الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي لما فعلوا ما فعلوا وهم يتلقّون الآن ملايين اللعنات لما أصاب الناس من ويلات جرّاء تلك الأخطاء التاريخية القاتلة.

لم تقم في السعودية دولة، وعبثاً نعتقد كذلك، فشروط تكوين الدول لا تنطبق على هذا الكيان القائم على أغلب مساحة شبه الجزيرة العربية. وإذا ما تتبّعنا سيرة نشأة هذا الكيان منذ احتلال الرياض سنة 1902 وصولاً الى الإعلان الرسمي عن مملكة آل سعود في العام 1932، لا نجد أن عبد العزيز، مؤسس هذا الكيان كان يرمي الى تأسيس دولة حديثة، بل لم يكن يستوعب ماذا يعني ذلك. أراد إبن سعود، على وجه الدقّة، أن يؤسس ملكاً في إطار جيوبوليتيكي يتقاسمه أبناؤه من بعده، بل حتى الإسم الذي اختاره يدلّ على أن الرجل لم يفكّر بتاتاً في دولة، فضلاً عن أن تكون هذه الدولة قادرة على إنتاج وطن وأمة، حتى وفق قلب المعادلة..فالصحيح دائماً أن الأمة مسؤولة عن إنتاج الدولة وليس العكس، ولكن حتى مع قبول فرضية أن الدولة قد تنجح في لحظات تاريخية في تأهيل المكوّنات السكانية للإنخراط في عملية اندماجية وطنية تفضي الى ولادة أمة..مع التذكير دائماً بأن ذلك نادر الحدوث!

مهما يكن، فإن التحديات التي شهدها الكيان السعودي والأزمات التي مرّ بها على امتداد ما يقرب من قرن، كشفت عن طبيعته، إذ في كل مرة يعترض الكيان تحديٌ من أي نوع تتوارى الدولة وتحضر العائلة/القبيلة، ولا يعود للناس كلمة في ما يدور حولهم، فهم ليسوا معنيين على الإطلاق بالشأن العام، الذي أصبح امتيازاً خاصاً بآل سعود.

ما هو أخطر من ذلك، أن الكيان السعودي هو النقيض الموضوعي للدولة، لأنه كيانٌ يقوم على رفض أسس الدولة وهي: نظام/قانون/دستور، وشعب، وإقليم، وكل هذه الأسس غير ذات معنى بالنسبة للعائلة المالكة، فالكيان ليس محكوماً بقانون بل بإرادة الملك وكبار الأمراء، والشعب ليس ركناً في الكيان، بل إن وجوده لزوم السلطة فحسب، وحتى الإقليم ليس ثابتاً فقد يتمدد في أي اتجاه، ولا غرابة أن يكون الكيان السعودي متورّطاً في خلافات حدودية مع كل جيرانه تقريباً..

هذا على مستوى المبادىء العامة للدولة، وتبقى سياسات الدولة وسلوك الأمراء أبلغ دليلاً، فلا تعنيهم قوانين الدولة ولا حتى الإتفاقيات والمواثيق الدولية، فهم يتصرفون على أساس قاعدة أن بالمال يشترى أكبر رأس في هذا العالم، ولذلك نجحوا في تسميم أعرق الديمقراطيات من خلال الرشاوى التي دفعوها لمسؤولين كبار في الولايات المتحدة وأوروبا من أجل مراعاة مصالح متبادلة. ولا بد من الإقرار أن لعبة القيم والمصالح التي جرت بين آل سعود والقوى الكبرى إنتهت الى خسارة الأخيرة، ببساطة لأن نظام المراقبة والمحاسبة في الولايات المتحدة وأوروبا تراجع كثيراً، وأن الفساد الذي يعاني منه بعض السياسيين الأميركيين والأوروبيين بفعل الأموال السعودية لا يقل عن فساد الأمراء أنفسهم..في السرّ يهمس الأمراء في آذان أقرانهم بأنهم قادرون بأموال النفط شراء أكبر ضمير في الغرب.

في الطريقة التي تدار بها السلطة والثروة ثمة رؤية لدى العائلة المالكة للكيان الذي يحكمونه..ليس من باب المزاح الثقيل أن يكرر الأمراء الكبار (سلطان ونايف وسلمان) مقولة (أخذناها بالسيف)، فهي تختصر رؤية آل سعود للدولة، أي اللادولة، فهم يرونها عقاراً خاصاً، يتصرّفون بها كيفما يشاؤون، كما يتصرّف المالك في ملكه.

في الثورات الشعبية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، كشفت العائلة المالكة عن وجه آخر، يعكس إلى حد كبير رؤية نرجسية فارطة، فقد تخلّت وبصورة فاضحة عن كل ما له صلة بالدول، وتعاملت مع ما يجري من منطلق شخصي وعائلي، كما بدا واضحاً في رفض إهانة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك من قبل الأميركيين، ثم في اجتياح البحرين لإجهاض الثورة الشعبية السلمية ودعم النظام الخليفي، وأخيراً في مواجهة التحرّكات الشعبية المحلية..لجأ بعض الأمراء الى خطاب ما قبل الدولة من خلال التهديد بتفجير حرب طائفية، وثارات قديمة، ومصادرات واسعة لممتلكات، والفصل من الوظائف، وقتل عبثي للأشخاص في مناطق متفرّقة من البلاد..كل ذلك قيل حرفياً من قبل أمراء في أكثر من منطقة، ما يعبّر بوضوح عن نزعة لادولتية لدى الأمراء، فهم على استعداد لأن يعودوا الى أوضاع ما قبل 1932 في حال انطلقت حركة شعبية تطالب بالديمقراطية، أي اشعال حروب في المناطق، وارتكاب مجازر، وإحراق الممتلكات، وهدم البيوت، وتشريد الأهالي..إنها اللادولة ياسادة وستبقى كذلك!

الصفحة السابقة