الدولة العرفـيّة

لم تكن في أي لحظة دولة طبيعية، وإن بدت كذلك، أو أوحت لمشايعيها بأنها مستقرة ومتماسكة وقادرة على مجابهة التحدّيات ما ظهر منها وما بطن، وما صغر منها وما كبر. والحال، أن الدول الطبيعية تمثّل تمثيلاً حقيقياً وعملياً إرادة الشعوب، وتتطوّر وفقاً لحاجاتها وتوقّعاتها، فإذا ما قررت أية دولة الإنفصال عن شعبها، لا تعود طبيعية بل تتحوّل تدريجاً إلى كيان لذاته، أي لمن يحكمه ويديره، مهما أسبغ عليه من مدّعيات دينية وعرقية وثقافية وإنسانية..

لا ريب، أن الدولة السعودية لم تكن في أي وقت تمثّل الشعب، ولا هي قامت على أساس توافق شعبي، ويصدق عليها مسمى الدولة القهرية، التي تشبه (إمارة الاستيلاء) أو (إمارة الغلبة)، رغم أن هذه الأشكال لم تعد مشروعة، ولا يجوز الإحتجاج بسوابق من هذا القبيل لناحية إضفاء مشروعية على الكيان السعودي، فحتى تلك الصيغ في الحكم كانت الاستثناء، وليست القاعدة، في أوضاع غير مستقرة، أما أن يحتّج بها ليقول لنا قائل بأن الدولة السعودية لأنها تطبق الحدود تصبح شرعية، نكون قد جنينا على الناس، لأننا حينئذ ننظر اليهم باعتبارهم عصاة، جناة، آثمين في الأصل، فيما يغفل من يحتّج بهذا الرأي الجوانب الأخرى للدول وهي رعاية مصالح العموم، ودرء العدوان، وضمان تطبيق العدل الذي هو مقصد الشرع، حتى بحسب الرؤية الحنبلية الكلاسيكية.

درج كثيرون منذ أكثر من عقدين على استعمال عبارة (ماشية بالبركة)، في توصيف الحال التي عليها دولة آل سعود، بما يشي بالاستثنائية التي على وفقها تسير شؤون الحكم، ولذلك كلما طالب أحد بحق كان الجواب الجاهز (ياعمي خليها على ربك الدولة ماشية بالبركة)، حتى أدمن بعض الناس هذه الاستثنائية، ففرّطوا في مجرد إبداء رد فعل حيال (الطّامّات) التي وقعت في بعض مناطق المملكة بفعل إما التقصير والإهمال، أو الفساد المالي والإداري، كما حدث في سيول جدة والرياض والدمام، والضحايا الذين فقدوا أرواحهم، والخراب الكبير الذي لحق بالممتلكات، وتشرّد العوائل التي بقيت دون مأوى..

ماسبق كله (كوم) كما في العاميّة، وما جرى بعد خطاب الملك في 18 آذار (مارس) الماضي (كوم ثاني)، فقد ذكر أحد المثقّفين بأن الخطاب إيذان بـ (إعادة إنتشار أمني وديني)، فيما وصف آخر الخطاب بأنه بمثابة إعلان (الأحكام العرفية)، أو (حالة طوارىء) غير معلنة، لأن من غير المقبول والمعقول أن يكون النكوص الى الوراء بهذا القدر من العنجية والاستعلاء والحدّة، كونه يتجاهل إرادة الغالبية العظمى من السكّان الذين عبّروا في أكثر من (عريضة) مكتوبة عن الرغبة في الإنتقال الى الملكية الدستورية، وإدخال إصلاحات جوهرية وفاعلة، فيما كان الرد الرسمي إقصائياً وإستخفافياً وعقابياً، حيث تجاهل المطالب الشعبية وعاد على الفور الى أوضاع الدولة السعودية الأولى، حيث ثبّت منطق السيف المشفوع بالعقيدة السلفية، إي إعادة ترسيخ أسس التحالف التاريخي بين آل سعود وآل الشيخ، بعبارة أخرى إن ما ورد في خطاب الملك وكل القرارات اللاحقة تندرج في سياق إحياء مبادىء (الإمارة الإسلامية) التي بدأت في الدرعية، وعمّمت نفسها عبر الاجتياحات المتنقّلة في أرجاء الجزيرة العربية.

الأحكام العرفية غير المعلنة ستتواصل، ولا يبدو أن العائلة المالكة عازمة على التراجع عن هذا النهج في رد فعل على الثورات العربية. ال سعود الذين يعيشون هذه الأيام بارانويا حادّة بفعل عاملين رئيسيين: السياسة الأميركية الناعمة حيال الثورات العربية، والتخلي السريع عن الرئيس المصري السابق حسني مبارك، والذي نظر إليه آل سعود على أنه ليس فقط إهانة لحليف أميركي مخلص، ولكن إشارة خطيرة إلى أن الأميركيين مستعدّون للتخلي بسهولة عن حلفائهم في حال شعروا بأن الكفّة تميل لصالح خصومهم، أي الشعوب، العامل الآخر: هو الخطر الإيراني المتخيّل، فآل سعود خسروا مواقع نفوذ أساسية سواء في العراق ولبنان ـ بعد سقوط حكومة سعد الحريري ـ وفلسطين واليمن، وجاءت الثورات العربية لتشعل كل هواجس آل سعود في الماضي والمستقبل، حيث ينظرون إلى ما يجري أنه يصب في صالح الخصم الإيراني، الأمر الذي دفع بهم للتصرّف بشكل جنوني باجتياح البحرين بهدف قمع حركة شعبية سلمية، وإفراغ كل أحقادهم في هذه الجزيرة الوادعة، التي لم تعد صالحة لأن تكون مكان استرخاء مواطنيها في عطل نهاية الإسبوع، بل ما قامت به القوات السعودية في البحرين كان في جوهره إلغاء لمفهوم الدولة، وإحياء منطق القبيلة أو حتى العصابة.

لم يكن إعلان حالة الطوارىء مقتصراً على البحرين، فقد انتقلت الحالة الى المملكة، بل توسّعت لتشمل كل دول مجلس التعاون الخليجي تقريباً، كما يظهر من محاكمة المتظاهرين في عمان والبحرين والمملكة أو اعتقال الناشطين الحقوقيين والإصلاحيين في الإمارات.

وكان أخطر تطوّر ما جاء في المرسوم الملكي الخاص بتعديل قانون المطبوعات، والذي (يحظر أن يُنشر بأي وسيلة كانت...ما يخالف أحكام الشريعة الاسلامية أو الانظمة النافذة...ما يدعو الى الإخلال بأمن البلاد أو نظامها العام أو ما يخدم مصالح أجنبية تتعارض مع المصلحة الوطنية). إن نصّاً بهذا السعة والمرونة لكفيل بأن يضع الأغلبية الساحقة من السكّان تحت طائلة العقوبات الإدارية والأمنية والمالية. باختصار: نحن نعيش في دولة عرفية والسلام.

الصفحة السابقة