مستقبل السعودية في اليمن

مظاهرات تنديد بأميركا والسعودية

هاشم عبد الستار

ربما تكون الثورة اليمنية من أنضج الثورات العربية؛ ورغم أنها لم تحقق انتصارها النهائي بعد ـ وكان ينبغي أن يتم هذا منذ ثلاثة أشهر تقريباً ـ إلاّ أنها لا تزال تقضّ مضجع الحكم السعودي. لقد كانت السعودية منذ تأسيسها على خلاف مع اليمن، حيث قضمت مساحات واسعة من أراضيه، بل واستباحته ووصلت قواتها الى الحديدة في الثلاثينات الميلادية. لكن آل سعود، انسحبوا بناءً على توصية من جون فيلبي، العميل البريطاني المعروف، ووالد كيم فيلبي العميل المزدوج، والحجة كانت: اليمن لا يمكن ابتلاعه بسهولة، وقد سمّاه عبدالعزيز ـ مؤسس ملك آل سعود ـ بأنه عشّ الزنابير. اليمن كان أكثر خيراً من الناحية الزراعية، يوم لم تكن في السعودية موارد نفطية أو مائية؛ وكان من حيث السكان أكبر من السعودية؛ ومن حيث العراقة فاليمن أصل العرب؛ لا يستطيع السعوديون المزايدة عليه. ولكن اليمن نفسه، وحتى عام 1962، كان محكوماً بنظام ديني (الإمامة الزيدية) فترة تزيد على 11 قرناً من الزمان؛ فالحكم الزيدي ضارب بجذوره في اليمن، وهو أكثر اعتدالاً من نموذج الحكم الوهابي المتطرّف. ومن هنا، لم يكن السعوديون يكنون أيّ ودّ لحكم الإمامة.

انقلب الوضع حين سقطت الإمامة بانقلاب عسكري عام 1962، فتحالفت مع بقايا حكم الإمامة من الأمراء والأئمة، وبقي بعضهم من علماء الدين الزيدية معادين للحكم السعودي. السعودية خشيت من تسلل النفوذ المصري الثوري الى اراضيها، فشاغلت الثورة، وعبدالناصر فترة تزيد على سبع سنوات، ولم تهدأ وتقبل بالحكم الجمهوري، إلا بعد ان تنسحب القوات المصرية، وإلاّ بعد أن تسيطر على مفاصل الحكم ورجاله من الجمهوريين المتقلبين.

ولهذا كان الحكم في اليمن متقلقلاً حتى علي عبدالله صالح. وقبله: فإن السعودية قتلت ـ كما هو معروف ـ الرئيسين اليمنيين الحمدي والغشمي؛ وهي التي قررت من يكون الرئيس بعد اغتيال الغشمي: إنه علي عبدالله صالح. هذا ما يؤكده عبدالله الأحمر، زعيم قبائل حاشد السابق، ورجل السعودية في اليمن، في مذكراته.

في فترة حكم علي عبدالله صالح، استطاعت السعودية ليس فقط تمديد نفوذها السياسي في اليمن؛ بل اشترت معظم رجال السلطة فيه، ومعظم رجال القبائل ورجال الدين؛ والأهم أنها أسست بنيان الوهابية هناك، وحاولت القضاء على المذهبين السائدين: الزيدي والشافعي، وهما مذهبان متسامحان. بقي علي عبدالله صالح في الحكم، لأن ميزانيته تأتي من الرياض. وحين قرر الوحدة، خشيت السعودية على نفوذها، ومن أن يتمرد عليها بعد أن يجد نفسه حاكماً على دولتين. لكن الولايات المتحدة وقفت الى جانب الوحدة. وحين قرر قادة الجنوب الإنفصال مجدداً وقامت حرب 1994، فإنما كانت بتمويل من السعودية بشكل كامل، ولولا التدخل الأميركي لأقدمت على استخدام طيرانها في ضرب اليمن.

ليست هذه المرة الوحيدة التي خشيت السعودية اليمن. فقبلها بعد غزو الكويت، طردت أكثر من مليون يمني من اراضيها، وسلبتهم ممتلكاتهم بشكل يعجز القلم عن وصفه. ولكن حين بدا أن علي صالح يواجه خطراً، صارت السعودية مع الوحدة مؤقتاً، مع الإحتفاظ بورقة الإنفصال، حيث عديد من قادته لازالوا حتى اليوم يقيمون في الرياض.

بظهور القوة الحوثية، خشيت السعودية من الإنبعاث الديني الزيدي. السعودية لا تقبل بنفوذ سياسي فحسب، بل يكون الى جنبه نفوذها الديني/ الوهابي. فال سعود يؤمنون بأن نشر الوهابية يمثل دعامة أساسية للنفوذ، وللحرب أيضاً. من هنا تحولت السعودية ضد الحوثيين، ورأت أن قوتهم يمكن أن تتمدد فتمنع انتشار الوهابية بين القبائل الزيدية، ومن ثم تضعف النفوذ السياسي السعودي. لهذا حرضت علي عبدالله صالح على قتالهم المرة تلو الأخرى، وفي كل مرّة يخسر تحثه مجدداً، وحسب قول الرئيس اليمني نفسه، فإنه كان كثيراً ما يتندر بقولهم: (يالله يا عبدالله)!

في حرب علي صالح السادسة على الحوثيين، دخلت السعودية بشكل مباشر الحرب الى جانبه، ولكنها خسرتها مع المقاتلين الحوثيين الأشداء، مثلما خسرها الرئيس اليمني. يومها توقع الكثيرون أن نظام علي صالح سوف ينتهي، إما بانقلاب، أو بثورة ما. فهذا النظام قاد البلاد من حرب الى أخرى، وبدت البلاد أقرب الى التفكك والحرب الأهلية على يديه.

ولكن الأمر تأخر، بسبب الولايات المتحدة وأوروبا والسعودية. حيث تمّ إخراج الهزيمة بطريقة متدرجة! وبدون حلول للمسألة الحوثية. ولكن.. إذا بربيع الثورة العربية يكتسح الدول، وكانت اليمن الثالثة في الطريق. هنا وقف الغرب والسعودية الى جانب علي صالح، بحجة الخشية من القاعدة!! وسمحوا له بقتل معارضيه بشكل يومي، وتسليط الضوء على غير اليمن من الثورات.

الشيء المؤكد هو أن الغرب والسعودية لا يريدون بديلاً عن علي صالح. لا يريدون ثورة. بل في اقصى الحدود إصلاحاً تدريجياً، يبقي النفوذ السعودي قائماً. إن قيام حكم ثوري، الى جانب أنه جمهوري وديمقراطي، يعني خسارة السعودية لحديقتها الخلفية، حيث سيصل رجال حكم لم تشترهم السعودية بعد بالمال، وهم في كثير منهم أعداء للسعودية. لذا، طرحت الأخيرة مبادرتها عبر مجلس التعاون الخليجي، فإسم السعودية يعني قتل المبادرة، بالنظر الى خلفيات المتظاهرين في شوارع اليمن الكارهين لكل شيء يمت الى السعودية بصلة.

المبادرة السعودية التي تم تعديلها مراراً حسب ذوق علي صالح فشلت ووصلت الى طريق مسدود. وعمد الرئيس اليمني الى قتل معارضيه، والخليجيون اصطفوا الى جانبه، سياسياً ومالياً، ما منع من سقوطه حتى الآن. وإزاء مصادماته مع قبيلة حاشد، أو بسبب ذلك، تمت محاولة اغتيال فاشلة للرئيس اليمني، أخذ على إثرها الى السعودية للعلاج على مضض من الرئيس الذي كان خائفاً بأنه لن يستطيع العودة، أو لن يسمح له بها.

في فترة بقاء علي صالح في السعودية للتداوي، تواصلت المظاهرات وبشكل صريح ضد السعودية وأميركا، وبأنهما يعملان ضد الثورة اليمنية وأنهما من يعوق انتصارها. كان حلم السعوديين والأميركيين والغربيين تهيئة بديل يخدع الجمهور اليمني، ولا يعيد علي صالح الى الحكم، هكذا كانت التصريحات الغربية عامة. لكن، وخلال الأسابيع الماضية، لم تنجح أميركا والسعودية في إعداد البديل، ولهذا فإن علي صالح باق في السعودية حتى إعداد البديل الممكن، الذي يرضيها ويديم سيطرتها على اليمن. في حالة واحدة سيعود صالح: إن لم يتهيأ البديل، وإن أخذت الأمور طريقها لنجاح الثورة وتدمير بقية قواه في العاصمة. في هذه الحالة سيسمح له بالعودة، ولكن لإشعال الحرب الأهلية وإبقاء اليمن مشغولاً بنفسه فترة طويلة، ريثما تجد السعودية وأميركا طريقة للإلتفاف على الثورة.

أياً كان الحال، فالثورة في اليمن ستنتصر على الأرجح. وستكون خسارة السعودية كبيرة، على الأرجح أيضاً. لن يموت جنين الثورة في رحم اليمن، بل سيخرج مولوداً كاملاً معافى، إن شاء الله.

الصفحة السابقة