السعودية والبحرين والصراع الإقليمي

عمر المالكي

لاتزال القوات السعودية مرابطة في البحرين تحت مسمّى قوات درع الجزيرة، رغم ما قيل وأعلن عن عودتها الى ديارها، أو انسحابها الجزئي. وأيضاً رغم ما قيل عن أن بعض دول الخليج قد سحبت قواتها أيضاً كقطر.

كان الإنسحاب الظاهري لفلول من القوات السعودية مجرد محاولة تنفيس للضغوط التي كان حلفاء النظامين السعودي والخليفي يتعرضون لها إزاء الثورة الشعبية القائمة هناك. ولكن الواقع يفيد بأن السعودية باقية في البحرين: عسكراً وسياسة واقتصاداً ورجالاً وحلفاء، وأيديولوجيا دينية أيضاً. فالأبواب قد فتّحت للوهابية للإستخدام كسلاح طائفي ضد الخصوم، وصار للصوت الوهابي المدعوم سعودياً الرتبة الأعلى على الأصوات السنيّة المعتدلة من المذاهب الأسلامية المعروفة.

وكما جرى بشأن التواجد السعودي العسكري القامع للثورة في البحرين من محاولات تنفيس عبر تنفيذ انسحابات مفتعلة، كان الأمر أيضاً فيما يتعلق بمسألة (الحوار) بين النظام الخليفي والمعارضة، فتنفيساً لضغوط الغرب خاصة الإتحاد الأوروبي على الحكومة البحرينية من أجل أن تبدأ حواراً بعد مرحلة قمع بالغة للمعارضة، إذ لا يتخيل أن تبقى الأوضاع هادئة بدون ذلك، حسب العواصم الغربية، التي شنّت حملة انتقادات على المنامة وعلى السعودية الداعمة لقمع مطالب المحتجين.

الإحتجاجات في البحرين تقلق السعودية القمعية

تنفيساً لتلك الضغوط على النظامين السعودي والخليفي، جرى طرح موضوع الحوار الوطني كمخرج للأزمة البحرينية.

وهنا التفّت السعودية على الحوار مرّة أخرى، وعبر رجلها المتشدد في البحرين ـ رئيس الوزراء خليفة بن سلمان آل خليفة ـ الذي لم يكن يؤمن بحوار، ولا بإصلاح، شأنه شأن أسياده في الرياض. وكان من المتوقع أن يفشل مشروع الحوار في البحرين، لأنه لم يكن جادّاً في الأساس، ولأنّه كان مجرد ديكور لتخفيف أصوات النقد في الخارج. لكن في المحصلة النهائية فإن الحوار فشل، وانسحبت المعارضة منه، ولم يتبق هنالك من حلول سياسية للوضع المتأزم.

هناك تظاهرات يومية واعتصامات واجتماعات جماهيرية يشارك فيها عشرات الآلاف من المحتجين. وهناك في المقابل النظام الذي لم يترك خرقاً وانتهاكاً لحقوق الإنسان إلا وارتكبه، وشملت قائمة الضحايا كل الشرائح العمرية والإجتماعية تقريباً: الطلبة، العمال، المعارضة، الرياضيين، الصحافيين، اساتذة الجامعات، الأطباء، الحقوقيين، المرأة، الأطفال، الخ.

هناك قمع مستدام: فصل متعسف من العمل لآلاف المواطنين؛ إيقاف بعثات الدراسة عن الطلبة؛ فصل أساتذة جامعات وطلبة من الجامعات المحلية؛ فصل موظفين؛ اعتقال اطفال ونساء ومعارضين وبرلمانيين؛ طرد صحافيين والتشهير بهم وهم نخبة الصحافيين في البحرين.. وهكذا.

إزاء الإنسداد القائم، ظهرت قناة الجزيرة، التي كانت متواطئة في قمع الإحتجاجات في البحرين، وبدأت بالحديث عمّا يجري هناك، ما جعل العلاقات بين الدوحة والمنامة تتدهور، حيث التراشق الإعلامي، وحيث يقوم تلفزيون البحرين بالتشهير بعائلة آل ثاني. السعودية من جانبها اعتبرت ما قامت به قطر موجهاً لها، كونها الداعم السياسي والعسكري والإقتصادي الأبرز للبحرين، ولمحت الى أن الدوحة ـ ومن خلال قناة الجزيرة ـ إنّما تنفذ أجندة غربية بالضغط على حكومة البحرين، من أجل أن تدفعها للتنازل السياسي، وهو أمرٌ تعتقد السعودية أنه غير ممكن.

البحرين تمثل مجرد معركة من حرب كبيرة تجري على مساحة من الأرض واسعة في منطقة الشرق الأوسط؛ والأرجح أن النفوذ السعودي في البحرين سوف يمضي في سياسة القمع وعدم التنازل وعدم القبول بالإصلاحات السياسية، مثلما هو الحال في السعودية نفسها. سوف تستمر هذه السياسة الى أن تتغير الموازين السياسية أو تنقلب في الجوار الإقليمي.

هناك انتظار لما تسفره عن أوضاع الثورات العربية، التي قد تقلب تلك الموازين، وبالتالي يتحدد موقع السعودية الإقليمي من جهة، كما دور إيران من جهة أخرى.

هناك الإحتجاجات في سوريا والمدى الذي تصل اليه. لا شك ان سقوط الأسد سوف يؤدي الى تغيير دراماتيكي في موازين الشرق الأوسط. ولكن يرجح أن تصل سوريا الى حرب أهلية قبل أن يسقط النظام نفسه.

وهناك نتيجة الثورة في اليمن، فإذا ما حققت انتصارها، فإن السعودية ستخسر حديقتها الخلفية الأساس، وستصبح أكثر ضعفاً في المعادلة الإقليمية.

وهناك ليبيا ونظام القذافي، الذي يمثل بقاؤه حتى الآن عامل مثبط للثورات، ولحركات الشعوب، بعد أن رأت التدخلات الفجّة والعنيفة لحلف الناتو وتحالفه مع القاعدة هناك (ليبيا).

التدخل العسكري السعودي لقمع الثورة في البحرين

الى أن تنجلي الأوضاع، ستراوح اوضاع البحرين مكانها: قمع من جهة النظام؛ واستمرار في الإحتجاجات وتصاعدها، كما هو واضح هذه الأيام.

هناك من يقول بأن تغيير الأوضاع في البحرين لا بدّ أن يمرّ عبر تغيير الأوضاع في السعودية نفسها.

السعودية توفر المظلة السياسية والأمنية والعسكرية والإقتصادية والنفسية وحتى الأيديولوجية الطائفية لنظام آل خليفة. ولا يمكن توقع إصلاح سياسي في هذه المرحلة أو تراجع من النظام في المنامة عن سياساته القمعية طالما أن القرار الأساس لازالت تمسك به السعودية ورجالها.

ستكون السعودية ورئيس وزراء البحرين الخاسرين الأكبرين من نجاح التهدئة السياسية، وإصلاح النظام السياسي الخليفي. ولهذا، فإن السعودية والجناح الأكثر تشدداً في العائلة الخليفية لا يريدان ولا يهمهما في الأساس إنجاح مشروع المصالحة الوطنية الذي يعني تخفيض حجم تمثيل آل خليفة في السلطة كمقدمة للإستقرار السياسي.

وربما يريد الغرب شيئاً من هذا. أي أنصاف حلول، فالأكثرية المهمشة من المواطنين لا يمكن أن تبقى على حالها، ولا يمكن أن تُقمع الى ما لا نهاية، ولا يمكن تجنّب ثورتها، كما لا يمكن للقمع أن يكون له المفعول الدائم في إخماد الأصوات. وفضلاً عن هذا، فإن البحرين قد جرّبت شيئاً من الحريات العامة، قبل أن تأتي الإنتكاسة الكبيرة الأخيرة، وعليه لا يمكن للمواطنين أن يقبلوا تراجعاً حتى عن الهامش القليل الذي كان متاحاً قبل الثورة.

لكن الغرب وهو إذ يدرك هذه الحقيقة، فإنه ابتداءً مشغول بقضايا الثورات الأكبر التي لها تأثير أشدّ على المعادلات الإقليمية، كما هو الحال في الموضوع السوري. والغرب لا يريد خسارة نظام آل خليفة أو آل سعود، وإن خالفاه السياسة وأحرجا مزاعمه الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان. ففي نهاية الأمر، فإن سقوط آل خليفة يمثل خسارة لأميركا وللغرب. وكل ما كان مؤملاً هو الخروج بأنصاف حلول، تبقي النفوذ الغربي، وتحفظ نظام الحكم الحليف. لكن انصاف الحلول مرفوض اليوم من السعودية ومن الجناح المتطرف أو الأكثر تطرفاً في النظام الخليفي. وعليه فإن الضغط الغربي سيكون محدوداً حتى لا يساهم في إسقاط النظام الحاكم في المنامة، بانتظار ما تسفر عن التحولات المتوقعة في الشرق الأوسط.

على صعيد آخر، قيل ايضاً بأن التغيير في البحرين قد يؤدي الى تغيير في السعودية. وهذا صحيح أيضاً. وإلاّ فما معنى أن تكون السعودية بؤرة النشاط المعادي للثورات العربية؟ ماذا يعني ارسالها مقاتليها الى البحرين؟ ماذا يعني تمويلها للحرب في ليبيا؟ ماذا يعني دعمها لعلي صالح ومنع سقوط نظامه حتى الآن حيث التظاهرات الشعبية تندد بأميركا والسعودية على حدّ سواء؟ ماذا يعني تمويل السعودية الإحتجاجات في سوريا، وإعلانها تمويل حملة عسكرية للناتو شبيهة بتلك الحملة القائمة في ليبيا، من أجل التخلص من نظام بشار الأسد؟

السعودية تخشى عدوى الثورات من أن تصيبها أو تصيب شعبها، وتخشى أن تكون محاطة بأنظمة ثورية تنافسها المكانة أو تتجاوزها سياسياً ولا تعترف لها بأهلية الزعامة؛ وهي وتخشى من الأنظمة الجمهورية وتقلص النظم الملكية، ولهذا ضمّت الأردن الى مجلس التعاون الخليجي وحولته الى نادي الممالك العربية. زد على ذلك فإن السعودية تخشى الديمقراطية والحرية وكل مفاهيم الدولة المتحضرة. باختصار هي تخشى أن تتحول الى النموذج الأسوأ في العالم العربي في ميدان الحريات وفي ميدان المشاركة السياسية الشعبية.

ومن هنا هي تقوم بالثورة المضادة في أكثر من بلد عربي. وسوف تبقى كذلك، الى أن تتغيّر. ووسيلتها للحفاظ على عرش آل سعود لا يعتمد في أكثره إلا على المال، وشيء من الغطاء السياسي. وإلا فإن السعودية المكروهة عربياً وعالمياً لا يمكنها تجنّب آثار ما يجري على حدودها في البحرين أو اليمن أو غيرها.

والبحرين بالذات أقلقت السعودية: لأن فيها نظام شبيه لها؛ ولأن الأكثرية شيعية هناك؛ ولأن لهذا آثاره الواضحة على المنطقة الشرقية السعودية التي كانت يوماً ما جزءً من البحرين التاريخية، وهناك حلم بأن تعود هذه الدولة وتنفصل عن حكم آل سعود.

يحق لآل سعود أن يقلقوا، والثورة المضادة ليست هي الحل النهائي، وإنما الإصلاح السياسي. ودون ذلك، هناك المغامرة بتقسيم السعودية نفسها. فهي الأقل تحصيناً بين كل الدول العربية في هذا الأمر.

الصفحة السابقة