(3)

العامل الخارجي في الربيع العربي والخريف السعودي

عمر المالكي

بين ثورة تونس ومصر من جهة، وثورة ليبيا من جهة ثانية، مسافة غير قليلة، فاصلة زمنية توضحت فيها ملامح العامل الدولي في الثورات العربية. ومع أننا لا نجحف أبناء أمتنا العربية من أنهم كانوا عماد الثورات ضد أنظمة الإستبداد، إلاّ أن هناك تدخلات خارجية بدت محدودة في البداية، ثم تطورت وتوسّعت، حتى رأينا الصورة الواضحة في ليبيا حيث مساهمة حلف الأطلسي المباشرة في إسقاط نظام القذافي الدموي.

ثورة مصر: التفريغ من الداخل

يمكن القول أن هناك ثلاث مراحل للعامل الخارجي في الثورات العربية.

المرحلة الأولى، وهي مرحلة المفاجأة غيرالسارّة لإسرائيل والغرب، بسرعة اشتعال الثورة في تونس وسقوط بن علي، وما تبع ذلك لاحقاً وبشكل مباشر في مصر. هنا تخبّط الغرب في سياساته، ولم يكن قادراً على احتواء الثورتين قبل أن تحقق هدف اسقاط رموز الحكم، أو بعضهم على الأقل. لقد تدرج الموقف الغربي من المعارضة للثورة الى الدعم بالتصريحات والضغوط السياسية، من أجل إزاحة الرمز وإبقاء محتوى النظامين ورجالهما، وقد بات ذلك واضحاً خاصة في مصر، حيث تم تشجيع الجيش على احتواء الموقف وعزل مبارك، لتفادي حدوث انقلاب ثوري أكبر غير قابل للإدراك أو السيطرة. ما جرى بعد ذلك، هو عملية احتواء الثورتين، من خلال إبقاء الرموز السابقة للنظامين في تونس والقاهرة، وإبقاء سياسة النظامين في إطارهما السابق، ومحاولة كبح الجمهور من الدفع باتجاه سياسات اقتصادية أو سياسية في غير صالح اسرائيل والغرب. ولاتزال المحاولات قائمة حتى الآن، حيث لم تتكلل بالنجاح، نظراً لحضور الشارعين المصري والتونسي في ساحة الحدث، وما يفرضه ذلك من توجهات على القائمين على السلطة، ما دفع بواشنطن الى إبداء انزعاجها، من تحول الرأي العام المحلي ضدّها خاصة في مصر، حيث اتهمت المجلس العسكري بأنه مساهم في إشاعة الكراهية تجاهها.

المرحلة الثانية، ويمكن تسميتها بالمرحلة الوقائية. ففي هذه المرحلة قررت واشنطن والغرب بشكل عام عدم مصادمة الثورات، بل ركوب موجها ولو بشكل محدود، ومحاولة استباق وقوع ثورات أخرى في الدول الحليفة الأخرى. من ذلك نصائح وزيرة الخارجية الأميركية العلنية التي أطلقتها من ابو ظبي، لحكام الخليج بأن يجروا بعض التغييرات والإصلاحات السياسية، لاستبقاء وقوع أحداث مشابهة لما حدث في مصر وتونس. ذات النصائح تمّ تكرارها لعلي عبدالله صالح في اليمن.

الثورة اليمنية: الإحتواء

في هذه الفترة كان خطاب واشنطن مضطرباً أيضاً. فهي من جهة، أعلنت انها مع مطالب شعوب الخليج والجزيرة العربية في الحرية والديمقراطية، وفي نفس الوقت حاولت أن تكون التغييرات غير ثورية وغير جذرية بل تكون إصلاحية تدرجية مع إبقاء النظم السياسية. في اليمن طالبت برحيل علي عبدالله صالح كشخص وبقاء النظام ورموزه الآخرين، ودعمت المبادرة السعودية، التي تعطيها والغرب يداً في التغيير، وتعيين الوجوه التي ستحكم صنعاء مستقبلا، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، ما أبقى علي عبدالله صالح شبه أسير في الرياض الى حين احتواء الثورة.

وفي البحرين، ظهرت تصريحات مؤيدة للحراك الشعبي من عواصم غربية عديدة، وفي ذات النسق اليمني: (تحويل الثورة الى إصلاحات تدرجية) ما أزعج الرياض التي خشيت ان تعمد واشنطن الى التضحية بآل خليفة في البحرين على غرار ما حدث لحسني مبارك وبن علي. وهذا ما دفع الرياض الى التدخل العسكري المباشر الذي انتقدته واشنطن في البداية، وانتهت الى تأييده، وعمدت الى الضغط على المعارضة البحرينية (الوفاق) وعلى الحكم الخليفي، عبر رحلات فيلتمان المكوكية، للوصول الى حل وسطي بشأن حجم التغييرات المطلوب تنفيذها. لكن الشارع البحريني، كما السعودية، لم يقبلا بعروض واشنطن، التي وجهت اهتماماتها باتجاه آخر، بعد أن تم احتواء الثورة عبر العنف، وإن لم تنته حتى الآن على أرض الواقع.

وفي السعودية نفسها، وقبل يومين من 11 مارس الماضي وهو يوم الدعوة الشعبية للتظاهر، طلبت واشنطن من الرياض السماح بقيام التظاهرات، وعدم التعرّض لها بالرصاص. التظاهرات وقعت في المنطقة الشرقية فحسب، وأجهضت في مدن أخرى. في الشرقية، استمرت التظاهرات، وقمعت بوسائل مختلفة عنفية وغير عنفية ولكن الرصاص لم يستخدم إلا بشكل محدود، خشية من تكرار سيناريو 1979 حيث قمعت التظاهرات آنئذ بالرصاص من الأرض والجو، وسقط عشرات الشهداء، الأمر الذي فاقم الأزمة.

الثورة الليبية: الإحتضان

لكن واشنطن تنفست الصعداء، بعد أن بدا لها أن حليفتها في الرياض قد تجاوزت ما رأته المرحلة الأصعب من التحدّي، دون أن تقدم على أية تنازلات، ودون أن تتلطخ سمعة واشنطن كثيراً من أنها الدولة الوحيدة في العالم التي تدعم أكبر عدد من المستبدين، سواء في عالمنا العربي أو غيره.

المرحلة الثالثة، وهي مرحلة السيطرة والتوجيه للثورات العربية، أو حتى صناعتها. وفي هذا المقام هناك نموذجان واضحان من ليبيا وسوريا. في هذه المرحلة الأخيرة هناك فصل واضح بين الثورات الحلال والثورات الحرام (بتعريف واشنطن وحلفائها خاصة في السعودية). الثورات الحلال التي يجب دعمها أو حتى صناعتها والعمل على إنجاحها، هي تلك التي تقع في بلدان معادية للغرب، أو لا تتماشى مع رغباته بصورة أو بأخرى. أما الثورات الحرام، فهي تلك التي تقع في بلدان حليفة، حيث يجري العمل على ترويضها وتحويلها الى مشاريع إصلاح سياسي شكلي وتدرجي، ومنعها من تحقيق أهدافها الشاملة، كما هو واضح الآن في اليمن والبحرين. ولذا نلاحظ تجاهلاً متزايداً لهذه الثورات في وسائل الإعلام ولا يجري تغطيتها أو الإهتمام بها، بل نشهد تراجعاً في هذا الشأن بشكل كبير. في حين يجري التركيز الإعلامي والشحن السياسي وحتى اتخاذ المبادرات العسكرية في الثورات الأخرى.

لهذا لم يلتفت الإعلام العربي ولا العالمي الى التظاهرات التي استمرت لثلاثة أشهر في المنطقة الشرقية السعودية. بل لم يلتفت العالم الى تظاهرات متواصلة في مسقط وصحار وصلالة بسلطنة عُمان، والتي استمرت حتى شهر أغسطس الماضي. ولا يعير الإعلام العربي اهتماماً يذكر للثورة المحرمة على آل خليفة في البحرين، وهكذا.

بإمكاننا اليوم القول، وبصورة شبه قاطعة، بأن الثورة أو حتى الإحتجاج في السعودية أمرٌ محرم، ليس من قبل مشايخ الوهابية الذين أفتوا بذلك، وليس التحريم سياسياً وقانونياً من قبل آل سعود فقط؛ بل أن التحريم الأهم هو ما يأتي من دول الغرب الحليفة للسعودية، والتي تدفع لها هذه الأخيرة رشاوى بمليارات الدولارات. الغرب يوفّر اليوم مظلّة حماية للنظام السعودي، ويمنع التغيير، ولو وجّه شيئاً من إعلامه وضغوطه السياسية التي رأيناها في بلدان اخرى، لتزلزل النظام السعودي. الموقف الأميركي والغربي في حياده أو دعمه، بقدر ما يشجّع على الحراك السياسي، فإنه يكون محبطاً بنحو ما في بلدان لا تريد واشنطن حدوث التغيير فيها.

الإحتجاجات في السعودية: التجاهل والقمع

لا شك أن مظلّة الحماية التي يوفّرها الغرب لحلفائه في الخليج بالذات، وبنحو أخص في السعودية، تلعب دوراً محبطاً للحراك السياسي الشعبي، ولربما وجد بين الناشطين وجزء كبير من المواطنين من يعتقد بأن المشكلة ليست في القدرة الشعبية على مواجهة النظام السعودي، بل في القدرة على مواجهة الغرب الداعم والحامي له.

وما يدهش هنا، أن السعودية التي وقفت ضد الثورات في مصر وتونس واليمن والبحرين، امتطت صهوة حصانها ـ مثلما واشنطن والعواصم الغربية ـ لتصبح مدافعة عن حقوق الإنسان، وعن خيارات الشعوب وحريتها، وتنتقد القمع في سوريا وليبيا، وكأن المتابع يعتقد بأن مثل هذه الحماسة المفرطة، قد جاءت من نظام عريق في ديمقراطيته، تفيض فيه الحريات بنحو غير معهود، لا نظاماً وراثياً طاغياً ومستبداً ودموياً.

وفي الوقت الحاضر يمكننا ملاحظة تطابق بين واشنطن والرياض في الموقف من الثورات، وان اختلفتا في التكتيك ابتداءً. ما تسعى اليه واشنطن في تونس ومصر من احتواء للثورة وحرف مسارها، هو ذاته ما تريده الرياض. وما تسوّقه السعودية في اليمن، هو عين ما تضغط واشنطن لتطبيقه هناك. وما تريد نشره واشنطن من ثورات في مواقع الخصم، هو ذات ما تريده الرياض. بمعنى آخر، فإن السعودية تساهم بدور كبير في الثورة المضادة من جهة، وفي نقل المعركة الى بيت الخصم لواشنطن.

ومن هنا قال أحدهم، بأن هناك علامات استفهام كبيرة بشأن الثورات الديمقراطية التي تدعمها أنظمة غير ديمقراطية؛ وأن ما تقوم به السعودية تجاه هذه الثورات، إنما هو ثمن حمايتها منها، تسدده لواشنطن.

الصفحة السابقة