الأمير نايف وحقيقة الهوس السلفي

يحي مفتي

الهوس الطائفي لدى وزير الداخلية الأمير نايف ليس بريئاً، فالرجل على مستوى السلوك الشخصي، كما يخبره العارفون والقريبون ومن حضر مجالسه الخاصة، ليس متديناً ومازال يعاقر الخمر وإن متحفظاً رعاية لنوعية الحضور، بعكس أمراء آخرين الذين يتبادلون الكؤوس في مجالس يحضرها (لفيف) من الصحافيين والإعلاميين وصغار رجال الأعمال. أدرك الأمير نايف، وعلى طريقة شقيقه الأكبر الملك فهد، بأن العلاقة مع المشايخ يمكن توظيفها في الصراع على السلطة في الداخل، والصراع مع الخارج. الملك فهد كان يمقت المشايخ، ويتذكّر بعض الكبار منهم طبيعة الإهانات التي يوجّهها لهم، والكلمات النابية التي كانت تصدر منه حتى بحق أعضاء هيئة كبار العلماء. وحين خذلوه في مواجهة احتجاجات التيار السلفي بقيادة مشايخ الصحوة في العام 1992، أصدر قراراً بإقالة كل من امتنع منهم عن التوقيع على بيان يدين فيه مذكرة النصيحة..

وحين طلبت الإدارة الأميركية في بداية عهد كلينتون من الملك فهد بضرورة إدخال إصلاحات الى نظام الحكم، أجاب بطريقة تكشف عن موقفه من الدين: سأرسل على الناس رجال الهيئة حتى يكرهوا هذا الدين (أي الإسلام) وكل الأديان السماوية.

فالدفاع المستميت الذي يبديه الأمير نايف عن المشايخ ورجال الهيئة ليس من أجل سواد عيونهم، ولكن حقيقة الأمر تكمن في طبيعة الأدوار المنوطة بهم في خدمة آل سعود. فالرجل الذي يتظاهر بحب المشايخ والعلماء بدا منافساً لكل من سبقه من الملوك والأمراء في تسليم أمور البلاد والعباد الى الأميركيين، كما فضحت ذلك وثائق وكيليكس، حول حماية المنشآت النفطية والاتفاقيات الأمنية التي بدا فيها الأمير نايف وإبنه محمد وكأنهما إبنان مطيعان لكل الأوامر الصادرة عن المستشارين الأمنيين في الإدارة الاميركية..

من بين آل سعود ملوكاً وأمراء، يبدو الأمير نايف فريداً في التأكيد على الهوية الوهابية للدولة السعودية، رغم أن تصريحات سابقة صدرت عنهم جميعاً بأن هذه دولة تطبيق الشريعة، وأنها الدولة الوحيدة في العالم التي تطبّق الإسلام، ولكن الكلام عن هوية الدولة يحمل دلالات خطيرة، لا ندرك على وجه الدقة ما إذا كان الأمير نايف نفسه يستوعبها، فضلاً عن أن يعنيها حين يصدر عنه تصريح عن سلفية الدولة.

في 23 نيسان (إبريل) 2003، عقد الأمير نايف مؤتمراً صحافياً قال فيه (إن المملكة دولة سلفية، وإننا لا نتردد أو نتحفظ بالتأكيد على أننا دولة ذات منهج سلفي).

وفي لقاء الأمير نايف في الجامعة الإسلامية في 27 ذي القعدة عام 1429هـ الموافق 25 نوفمبر 2008، أكّد على (أن المملكة دولة سلفية ونعتز بها وبسلفيتها)، وجاء ذلك في سياق الرد على الإنتقادات ضدّ دور الأفكار الوهابية في تشجيع العنف والتطرّف. وكان الأمير يرفض فكرة المعالجة الفكرية للتطرف الديني لما ينطوي ذلك من إدانة غير مباشرة للمذهب الوهابي، الأيديولوجية المشرعنة للدولة السعودية، ولكنّ من عمل في لجان المناصحة بهدف إعادة تأهيل عناصر تنظيم القاعدة في السجون السعودية أقنعوا الأمير نايف بعد لأي وعنت منه بأن لا سبيل لمعالجة التطرف بالنهج الأمني مستقلاً عن المعالجة الفكرية، فالذين انخرطوا في دوّامة العنف إنما تشرّبوا أفكاراً في الداخل وعلى أيدي المشايخ، وفي حلقات الدرس الديني، وخطب المساجد، ثم ترجموها في هيئة أعمال عنفية، ولابد من إخضاع هؤلاء العناصر لمعالجة فكرية من أجل تعطيل مفعول الدوافع الأيديولوجية على العنف.

ولكن الأمير نايف الذي بقي مرتاباً من المقاربة الفكرية والعقدية لظاهرة التطرف الديني في دولته عارض أي مساس بالوهابية التي يرى بأنها البقرة المقدّسة التي أمّنت لدولة عائلته مشروعية دينية وحفظتها في زمن الخضّات المحلية والدولية. ولذلك كان يردد دائماً ما كان يقوله إخوته بأنهم لن يقبلوا بالمساس بالعقيدة!

لقد كرر الأمير نايف في اللقاء عبارة (نحن دولة سلفية ونعتز بهذا)، بل أورد جملة لحظنا كيف أصبحت ثابتة الاستعمال لدى الأمير نايف وكأنها جزء من خطاب طائفي يستعمله كلما ارتفعت حمى التجاذب السياسي بين معسكري الإعتدال والممانعة. فقد قال في هذا اللقاء (لا نستبعد أن هناك جهات معادية للإسلام بشكل عام ومعادية لدولتنا دولة السنة والدولة التي تنهج نهج السلف الصالح). ثم عاد وقال (ودولتنا دولة السلف الصالح) وجاء ذلك في سياق الرد على حسب قوله (من يقدح في دولتنا ويحمّل نهجنا السلفي سلبيات ليست موجودة ويبحث عن سلبيات تافهة ويضخمها وهذا نقرأه حتى في صحفنا وفي بعض القنوات ويجب أن تواجه هذه الأمور..). وفي مكان آخر عاد وكرر عبارة (وأن هذه الأمة قيادة وشعباً دولة إسلامية تعمل بكتاب الله وسنة نبيه ودولة تتبع السلف الصالح ويشرفنا أن يقال بأننا سلفيون..).

يبدو أن الخطاب السلفي لدى الأمير نايف يكرر نفسه بين حين وآخر، لأن تطابقاً مذهلاً في الكلمات والعبارات وحتى الأفكار، بما يثير علامات استفهام كبرى حول مغزى هذا الخطاب نفسه. أكثر من ذلك، أن العبارات المشهورة عن الأمير نايف تتكرر أيضاً في لقاءات أو مؤتمرات صحافية، ولربما يتذكر السكّان المحليون العبارة المثيرة للسخرية بأن (المواطن رجل الأمن الأول)، حتى أن البعض كان يعلّق عليها بأن الأمير نايف يسعى إلى تحويل أفراد المجتمع الى مجتمع مباحث ومخابرات بحيث يتجسس كل مواطن على الآخر..

نايف والمفتي: تحالف منفعي

في 29 أغسطس الماضي، نشرت صحيفة (المدينة) كلمة الأمير نايف خاطب فيها أعيان مكة ومسؤولين ورجال مال وأعمال وإعلام، كرر فيها أقوالاً سابقة حول سلفية الدولة السعودية، ولكن هذه المرة بجرعة زائدة من الإثارة والإستهداف. ففي الوقت الذي يؤكّد فيه على أن المملكة دولة سنيّة سلفية، يلحق ذلك بقول آخر (إن المملكة محيطة “بشرور” في كل مكان وأن علينا تكثيف الجهود لحماية أمننا واستقرارنا من “مشكلات إيران واستهدافها للمملكة). بل اعتبر الثورات العربية التي أسبغ عليها وصف (الإضطرابات) هي الأخرى تشكل مصدر تهديد (ان الإضطرابات في عدد من الدول العربية وفي أجزاء من العالم ـ لم يسمّها ـ تهدد أمن واستقرار المملكة). وأكّد في هذا السياق على أن (المواطن هو رجل الأمن الأول) ولابد من تكثيف الجهود (والتعاون لحماية الأمن والإستقرار).

من الشرور التي تحيط بدولة آل سعود حسب الأمير نايف (مشكلات العراق من الشمال، واليمن من الجنوب، ومشكلات أفريقيا من الغرب)، ولم يتطرّق في هذا المجال لانتفاضة الشعب البحريني، بينما لفت إلى (ان كل نظام يسن يجب أن لايكون معارضاً للإسلام، معتبراً أن المملكة وحدها دون سواها (دولة سنية سلفية نحافظ على ذلك بحكم قناعتنا الكاملة).

وفي ردّه على السؤال القديم حول تعارض السلفية مع التقدّم، عاد الأمير نايف وهاجم كل من يحاول أن (يبعد عنها بدعوى مايسمونه التقدم) مستدركاً (أن المملكة تهتم بالتقدم بدليل الإهتمام بالجامعات والإبتعاث، ومختلف الأمور ذات العلاقة).

يحاول الأمير نايف أن يوصل رسائل عدّة الى من يعنيه الأمر، ولكن لا ريب أن تأكيده المستمر على سلفية الدولة السعودية يستهدف شريحة في الداخل، وهم القاعدة الشعبية في نجد التي يستند عليها في دعم موقعه القادم حين يصبح ملكاً، في ظل تنافس شديد بين أمراء من داخل العائلة المالكة، فمن يكسب المشايخ يمسك بورقة رابحة في مضمار السابق نحو العرش.

في تداعيات تصريح الأمير نايف حول سلفية الدولة ودعوى التهديد الإيراني، كان واضحاً أن جزءً من التحشيد الشعبي في الوسط الوهابي يتطلب نمطاً من المخاطبة الغرائزية، فقد بات راسخاً في العقل السلفي الوهابي أن التحريض الطائفي يشكّل عامل استدراج فعّال. وسواء أدركت إيران أم لم تدرك، فإن كلام الأمير نايف حول التهديد الإيراني من شأنه شدّ العصب الوهابي وتحقيق أكبر حشد حول موقع نايف في معركة السلطة، أما في الخارج فإن تصاعد الخطاب الطائفي، مع تواصل الإحتجاجات الشعبية في سورية وفي البحرين والإختناق السياسي في اليمن، يعني أن النظام السعودي يلهو بالعاطفة الشعبية لجهة الإنشغال بعيداً عن استحقاقات داخلية ملحّة. إن توهّم (التهديد) يغدو عنصراً فعّالاً في بعض لحظات التاريخ، وإن تحوّل في لحظات أخرى إلى عامل تحريض إضافي على النظام.

رد الفعل الإيراني على تصريحات الأمير نايف حول تهديد إيران لأمن السعودية كان في ظاهره ذا طابع دفاعي وكلاسيكياً إلى حد ما، حيث نقلت وكالة اليونايتد برس في الأول من سبتمر الجاري عن مسؤول في وزارة الخارجية الإيرانية قوله بأن (أمن السعودية من أمن إيران) وأنها (تنشد دائما الإستقرار والهدوء والإزدهار للمملكة وأنه لا يوجد شيء إسمه مشاكل تستهدف السعودية). ولكن ثمة كلام موجّه قاله المصدر الإيراني يحمل رسالة إلى الأمير نايف حيث إعتبر تصريحاته بأنها تأتي في سياق (الضجة الإعلامية ضد إيران وإثارة الغموض بين دول المنطقة).

لنبقى في إطار الهوس السلفي لدى الأمير نايف، فهو مطلبنا هنا لما يومىء إليه من استهدافات قصيرة وبعيدة المدى. ونتوقف هنا عند إعلان نشر قبل نحو شهرين حول ندوة بعنوان (السلفية منهج شرعي ومطلب وطني) والتي من المقرر عقدها في 25 محرم الحرام من العام 1433هـ تنظّمها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وبرعاية الأمير نايف.

مدير الجامعة سليمان أبا الخيل وصف رعاية الأمير نايف للندوة بأنها تعبير عن (حجم الدعاية والعناية التي تجدها مناشط الجامعة من قبل ولاة الأمر)، مع أن الجامعة نفسها واجهت انتقادات واسعة كونها خرّجت عناصر متطرّفة إلتحقت بالجماعات الإرهابية، بل إن الجامعة نفسها ساهمت في الترويج لأفكار في التشدّد الديني، ومن صفوفها تخرّج دعاة انتشروا في العالم ومن حلقات دروسهم تشكّلت مجموعات متطرّفة.

الندوة بحسب أبا الخيل (تأتي رداً على مَن يحاول النيل من المنهج السديد الذي تسير عليه المملكة العربية السعودية، وكذلك على مَن يتسمى بالسلفية من غير فقه ومعرفة بمعناها ومبناها ومدلولها وضوابطها). لم يكتف بذلك بل اعتبر أبا الخيل أن من بين أهداف الندوة (توضيح حقيقة المنهج السلفي، وأنه يمثل الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ وكذلك تخليص مفهوم السلفية الصحيح من المفاهيم الخاطئة والادعاءات الباطلة للسلفية المزعومة من بعض الجماعات المنحرفة فكرياً، وبيان منهج الحكم في المملكة، وأنه مستمد من الإسلام الصحيح عقيدة وعملاً بوسطية لا غلو فيها ولا تفريط). إذن هي عملية إعادة تظهير للفكرة المركزية التي قامت عليها الوهابية وهي أنها وحدها الخط الديني الصحيح وأن سواها باطل محض، حتى وإن إمتنعت عن البوح بذلك صراحة، فماذا تغيّر إذن في النهج الوهابي بعد الحادي عشر من سبتمبر ومن الولايات التي حلّت على رؤوس المسلمين في العالم بسب الإرهاب المنبعث من الأفكار الوهابية.

بيد أن أهم هدف للندوة هو تأكيد التماهي بين الأمراء والعلماء هذا أولاً، وثانياً هو تأكيد المنهج السلفي في نسخته الأصلية، أي رفض أي عملية تصحيح وتنقيح للمناهج الدينية السلفية المسؤولية عن انبثاث الأفكار المتطرّفة والمحرّضة على العنف بين الشباب واليافعين. يظهر ذلك من عناوين المحاور المقرر مقاربتها خلال الندوة ومن بينها: مفاهيم خاطئة حيال المنهج السلفي، الدولة السعودية والمنهج السلفي نشأة وتطبيقاً، صلة المنهج السلفي بالمقررات والخطط الدراسية في المملكة، شبهات حول تطبيق المنهج السلفي في المملكة والرد عليها.

أول ما يتبدى من عنوان الندوة أنه ينطوي على مصادرة، فحين تصبح السلفية (مطلباً وطنياً)، نستحضرعلى الفور عبارة الأمير نايف (المملكة دولة سلفية)، بما يلغي إرادة الأغلبية السكانية التي لا تنتمي إلى السلفية الوهابية. أما القول بأن السلفية مطلب وطني، فحينئذ نضع معايير شديدة الصرامة وخاصة جداً للوطنية، والتي تكون السلفية مكوّناً رئيساً فيها، وعليه يصبح كل من ليس سلفياً ليس في نهاية المطاف وطنياً!

لا ريب أن مفاهيم كهذه من شأنها تقسيم السكّان على أساس ديني/مذهبي، وبالتالي إخراج الغالبية العظمى من كونهم على صلة بالهوية الأيديولوجية للدولة، وما يستتبع ذلك من تداعيات على مشاعر الإنتماء، والرابطة المعنوية والوجدانية بالكيان، والثقافة التي يمثّلها..بكلمة أخرى، أن القول بسلفية الدولة مكافىء للقول بنجديتها، وأن هذه المملكة لأهل نجد دون سواهم، وتكون القاعدة حينئذ (من ليس سلفياً ليس معنا)، وليس بطبيعة الحال وفي المؤدى النهائي شريكاً في هذا الكيان، وتصبح الأسئلة المشروعة وقتئذ: لماذا يطالب الأمراء وأبواقهم الناس بالولاء وتأكيد الإنتماء وقد تقرّر سلفاً من هو المنتمي الحقيقي للدولة؟، ولماذا يطالب الأمراء ودعاتهم الناس بالدفاع والتضحية من أجل المملكة والغالبية منهم ليس معترفاً بانتمائها لها؟ وإذا ما عدنا الى الأدبيات السلفية الوهابية وما تعنيه تصريحات نايف عقدياً، يصبح الكلام حينئذ عن مؤمنين وغير مؤمنين، فكيف يطلب من الكفّار وهم غالبية السكان وفق المنطق الوهابي الدفاع عن ديار المسلمين؟!

الصفحة السابقة