تحضيرات غربية:

مواجهة بين إيران والسعودية

ناصر عنقاوي

هي النتيجة التي يريد الغرب أن يوصل إليها الطرفين في نهاية المطاف، حرب طائفية يكون قطباها إيران والسعودية.

كل ما نسمع ونقرأ منذ خمس سنوات على الأقل هو التحضير لتلك المواجهة: الملف النووي الإيراني، الإنسحاب الأميركي من العراق وملء إيران الفراغ، حرب المحاور في لبنان وفلسطين والمنطقة عموماً، وصولاً الى المؤامرة المزعومة باغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير.

وثائق ويكيليكس كشفت عن جانب من حملة التحضير والتحريض على تلك المواجهة، ونقلت عن الملك عبد الله مطالبته الإدارة الأميركية بقطع رأس الأفعى، في إشارة إلى إيران.

السعودية تنظر الى الحرب على إيران بأنها خيار مر، ولكن لابد منه، لأن بعد تفجّر ربيع العرب وتساقط الحلفاء، يشعر آل سعود بأنهم في محيط مضطرب، ولابد من تغيير الواقع. لاشك أن الإدارة الأميركية تلعب في تصريحاتها على المخاوف السعودية، خصوصاً حين تقول بأن الخطر المحدق بالعالم يأتي من إيران وليس القاعدة، إنما هي تحاول التناغم مع الغرائزية السعودية..

يدرك آل سعود بأنهم ليسوا بالقوة الكافية التي تمكّنهم من الصمود في وجه القوة العسكرية الإيرانية، حتى مع امتلاكهم لأسلحة متطوّرة جوية وبحرية وبريّة، فالحرب لا تحسم بالعتاد وحده، فغياب عقيدة عسكرية راسخة لدى القوات المسلّحة والجيش تجعل من الصعب على آل سعود الوثوق بقدرتهم على الدخول في حرب لا يملكون الحد الأدنى من شروط إنتصارهم، وقد جرّبوا في اليمن مع الحوثيين، وخرجوا من الحرب بنتائج صادمة ومحبطة.

العراق.. سرّ المواجهة مع ايران

بعد شهر من وصول الملك عبد الله العرش في أغسطس 2005، أطلق وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل من واشنطن تصريحاً لافتاً (لقد خرجت إيران رابحة من العملية الأميركية في العراق؛ لأنّ الولايات المتحدة لم تكن تعرف ما هو اليوم التالي لعمليتها العسكرية هناك). كانت تلك بداية كسر الدبلوماسية السعودية الجمود الذي طال ثلاث سنوات، حتى أن نائب الرئيس السوري فاروق الشرع اعتبر أن الدبلوماسية السعودية مصابة بالشلل. لم يكن الربح الإيراني في العراق هديّة أميركية بحال، فقد كانت الدعوات تنطلق من كل أرجاء العراق، ومن القادة السياسيين على وجه الخصوص بضرورة عودة الدول العربية الى العراق الجديد.

كانت السعودية من بين دول أخرى عديدة ترفض كل مقترح بتطبيع العلاقات مع العراق، بحجة أنه محكوم بالشيعة، رغم أنهم يمثلون الأغلبية السكانية فيه. وكان الملك عبد الله يبوح بتصريحات صادمة لكل الوفود العراقية التي كانت تزور المملكة، من قبيل أنه سيدفع ضعف ما أنفقته دولته في حرب العراق وايران من أجل إسقاط حكومة المالكي، وأنه لن يسمح ببقاء حكم شيعي في العراق، وتصريحات أخرى مماثلة حول دخول ملايين الجنود الايرانيين الى الأراضي العراقية، وأن بعضها صار على الحدود مع المملكة من أجل شن الحرب عليها.

الآن، ومع بدء تنفيذ مراحل إنسحاب القوات الأميركية من العراق، وتسليم القواعد العسكرية الكبرى (بما فيها قاعدة بلد ثاني أكبر قاعدة عسكرية أميركية في العالم) الى الدولة العراقية، تصاعدت المخاوف السعودية، وتبعاً لها الخليجية، بتحريض أميركي ـ إسرائيلي من وقوع العراق في مجال النفوذ الإيراني.

في المشهد العام للمنطقة، كان مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي سقط في حرب صيف 2006 على لبنان، نذير شؤم بالنسبة لمعكسر الإعتدال، الذي تأسّس في الأصل لمواجهة إيران وحلفائها، ولكن هزيمة إسرائيل في الحرب أطاحت المشروع برمته. وكان الإعتقاد بأن العراق سيكون منطلقاً لتغيير خارطة الشرق الأوسط، ولكن لم يحصل أيضاً بفعل الخسائر التي تكّبّدتها القوات الأميركية ليس من تنظيم القاعدة وفلول النظام القديم التي انشغلت بعمليات التفجير في الشوارع العامة، والمدارس، والأسواق، ورياض الأطفال، إلى اغتيال رجال الأمن والشرطة والقادة السياسيين العراقيين، ولكن من جماعات أخرى مثل التيار الصدري، وعصائب الحق، وكتائب حزب الله وغيرها، وكذلك فشل الناتو والقوات الأميركية على وجه الخصوص في السيطرة التامة على أفغانستان، حيث اضطرت في نهاية المطاف للإعتراف بقوّة حركة طالبان وضرورة التفاوض معها..

كان واضحاً، أن العراق سيكون ساحة حرب أميركية ـ إيرانية، بغطاء عربي واسرائيلي، ولكن يدرك الأميركيون تماماً بأن حرباً في العراق لن تكون سهلة بالنسبة لهم، لوجود أعداد كبيرة من قواتهم على الأراضي العراقية وستكون في مرمى النيران الإيرانية.

كانت السعودية ودول خليجية أخرى تضغط من أجل تمديد بقاء القوات الأميركية في العراق، ولكن تعهّد الرئيس الأميركي باراك أوباما بسحب القوات جعل من الصعب تأخير القرار، خصوصاً وأن أوباما يأمل في كسب جولة ثانية في الإنتخابات الرئاسية الأميركية، التي ستجري العام القادم.

لم تفلح الضغوط السعودية والخليجية في إقناع إدارة أوباما بإبقاء القوات الأميركية في العراق، وكان البديل هو التالي:

ـ نشر قوات أميركية في عدد من دول الخليج في إطار تفعيل اتفاقيات الدفاع المشترك.

ـ زيادة وتيرة سباق التسلح في المنطقة، تحت عنوان مواجهة الأخطار الإيرانية.

في السياق نفسه، جاء التصعيد السياسي والإعلامي الأميركي، وتبعاً له السعودي والخليجي بالتلويح بخيار الحرب على إيران، على خلفية برنامحها النووي من جهة، وتكثيف الضغوط عليها في الملف السوري، وتأهيل مناخ عام سياسي ونفسي لتغييرات كبرى في المنطقة (إحياء مشاريع تقسيم العراق، وسورية، واليمن، والسودان..). هل كان الترحيب الأميركي بوصول الإسلاميين الى سدّة الحكم في مصر وتونس وليبيا بريئاً؟ وهل كان الانفتاح السعودي على الأزهر بريئاً هو الآخر؟ هل لكل ذلك علاقة باستعدادات الحرب؟ وهل للحرب علاقة بفك العزلة التي تعيشها الدولة العبرية، وحل الأزمة المالية الأميركية والغربية؟

لا شك كل المعطيات تفيد بأن التعاون السعودي الأميركي قد بلغ ذروته في ربيع العرب، وإن محاولات إحتواء الثورة في اليمن والبحرين ومضاعفة التحريض على الإحتجاجات في سورية يدخل في سياق تلك الإستعدادات.

تخشى الولايات المتحدة وحلفاؤها الصغار بمن فيهم آل سعود بأن كل التغييرات التي جرت في المنطقة تصب في صالح إيران، وأن الحل هو الدخول في حرب معها، من أجل إعادة بناء “المركزية السعودية” في الشرق الأوسط التي انفردت بها منذ رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، وجاءت الثورة الإيرانية لتحدث زعزعة عنيفة لموقع السعودية ونموذجها الديني، الذي أطلق عليه سيد قطب (الإسلام الأميركي).

كل المحاولات السعودية والأميركية للحد من وقف المد الإيراني في عموم المنطقة باءت بالفشل، بفعل عوامل عديدة من بينها غياب الرؤية الإستراتيجية والمشروع لدى آل سعود، فهم كمن يريد هدم البناء فحسب، وكان اصطفافهم الى جانب الكيان الاسرائيلي منذ مبادرة الملك عبد الله في مارس 2002 (ولي العهد حينذاك)، ثم في حرب صيف 2006 على لبنان، وحرب خريف 2008 على قطاع غزة، أفقدهم قاعدة شعبية عريضة، ومنحت إيران صدقية أكبر لوقوفها الى جانب حركات المقاومة في لبنان وفلسطين.

حاولت السعودية أن تعوّض عن سقوط حليف لها في ثورة شعبية عارمة في 25 يناير من هذا العام (2011)، ودخلت في ترتيبات عاجلة مع واشنطن وأنقرة على إدارة ملفات الثورات العربية، ففي اليمن قدّمت مبادرة لضمان عدم خروج السلطة من حلفائها الى القوى الشعبية الثائرة، والممثلة للأغلبية الساحقة من الشعب اليمني، وفي البحرين قامت بإرسال قواتها لحفظ نظام آل خليفة، وفي ليبيا قدّمت الدعم المالي والمعنوي والسياسي لقوات الناتو، وفي سوريا أوكلت مهمة تسليح وتقديم المعونات المادية والعسكرية للمشايخ وبعض السماسرة من إعلاميين وتجّار.

في سياق موازٍ، دخل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى الحلبة لاستثمار رصيده المعنوي والسياسي الذي حصل عليه بفعل موقفه من الحرب على غزة، فسمح للولايات المتحدة بنصب درعها الصاروخي على الأراضي التركية، بعد أن رفضت دول عديدة في العالم المشروع، كما بدأ أردوغان بالتواصل مع جماعات الإخوان المسلمين في مصر، وغزة، وتونس، وليبيا، وحتى اليمن، من أجل استعارة نموذج (حزب العدالة والتنمية) المتصالح مع الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص. وأيضاً، الإنقلاب المفاجىء في الموقف التركي من الإحتجاجات في سورية، إلى الحد الذي جعل من تركيا منطلقاً لمشروع التدخل الأجنبي في سورية، عن طريق تنضيح مبرّرات التدخل بإقامة معسكر للاجئين السوريين داخل الحدود التركية، وتشجيع الأهالي في بعض المناطق الحدودية السورية على النزوح، من أجل بلوغ العدد الكافي الذي يسمح بإقامة منطقة عازلة وحظر جوي ثم تدخّل عسكري خارجي بحجة حماية المدنيين.

هل لكل ذلك صلة بالإستعدادات للمواجهة المنتظرة مع إيران؟ بكل تأكيد، فهناك تحوّلات يراد حصولها من أجل تأهيل المشهد الإقليمي كيما يكون مستعداً لحرب طاحنة، تمنع مناطق محدّدة من الإنتفاض على قادة الحروب. ركوب الولايات المتحدة الربيع العربي وتشجيع الإصلاحات الديمقراطية في عموم المنطقة العربية (وآخرها البحرين والسعودية)، ودفع الحركات السياسية والاجتماعية ذات الأحجام الشعبية الوازنة لاستلام السلطة (بما فيها الأحزاب الإسلامية العريقة) يعني أن هناك تحوّلات داخلية كبرى تجري وتغيّر وجه المنطقة، ولكن لا ريب أنها تحوّلات غير بريئة.

بناء الأدلة الأميركية والسعودية ضد إيران في موضوعات عديدة (عسكرة النشاط النووي، التدخل في شؤون المنطقة، اغتيال رفيق الحريري، التخطيط لاغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير، شبكات التجسس في الكويت وربما في أماكن أخرى)، لن تتوقف، وستتواصل الإتهامات لإيران في سياق تأهيل بيئة الحرب عليها، أو على الأقل التلويح والتهويل بها.

رواية التخطيط لاغتيال الجبير خرجت باهتة ومتهافتة، ويعكس ذلك شيخوخة المخطّطين الأميركيين في معرفة طريقة التفكير الإيرانية التي تتناسب مع فكرة التخطيط لاغتيال الجبير داخل الأراضي الإيرانية، فضلاً عن كون فكرة الإغتيال هي واردة في العقل الإيراني. وجهة نظر تقول بأن الرواية الأميركية لها غرض محدد، وهي محاولة أميركية إستباقية، ليس فقط لحسم تردد سعودي كبير في الإنضمام إلى الجهد التركي في إدارة الملف السوري، بعيداً عن مبادرة الجامعة العربية التي أيدتها السعودية، ولا تنظر إليها واشنطن وأنقرة بارتياح، بل لتثبيت كتفين إيرانيين، مع حشر في الزاوية الضيقة.

كل ذلك من أجل منع طهران من أية فاعلية، قبيل وأثناء إجراء تركي مرتقب ما حيال سوريا، من خلال رؤية أميركية تفيد بأنّ حسم الموضوع السوري سريعاً (أو من خلال وضعه على سكة ما مرضية لواشنطن وأنقرة) هو الذي يؤدي إلى إنتاج توازنات تجعل إتمام الانسحاب الأميركي من العراق، في اليوم الأخير من العام، آمناً أميركياً، من خلال تغيّرات سورية سيكون لها انعكاسات كبرى في طهران، وبالتالي في بغداد؛ إذ يبدو أنّ العراق لا يزال هو (موضوع المواضيع)، كما صرح الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في 2006.

وإذا كانت اسرائيل سعيدة بخبر التخطيط لمحاولة اغتيال الجبير، كونه يوفّر سبباً وجيهاً لشن الحرب على إيران، بحسب الرؤية الاسرائيلية، فإن واشنطن وحدها تملك الإجابة عن ذلك. وكما يقول العارفون: الأرجح أن الإدارة الاميركية لن تتصرّف وكأن (المؤامرة) شيء حقيقي، فإنها أول من يعرف أنها هي التي كتبت هذا السيناريو بخطوطه العريضة وتفصيلاته الدقيقة.

الشيء نفسه يقال عن تقرير الوكالة الدولية للطاقة النووية الذي جاء هو الآخر متهافتاً، وكشف عن عقل أميركي مأزوم، بات عاجزاً عن تحقيق اختراقات خلاّقة للرأي العام الأميركي والعالمي. كان الهدف واضحاً بأن ما تقوم به الإدارة الأميركية والسعودية يهدف إلى حشد الأدلة المشرعنة للحرب، ولكن السؤال يبقى: الكل يريد الحرب في المعسكر الأميركي، ولكن هل تستطيع السعودية على وجه التحديد تحمّل نتائجها؟

الصفحة السابقة