المخاطر المحدقة بالبيت السعودي

فريد أيهم

رحيل ولي العهد السابق الأمير سلطان، أضاء، علاوة على أمور كثيرة، الطبيعة الواهنة والديناصورية للقيادة السعودية. فالأمير سلطان البالغ من العمر 85 عاماً قد تولّى أول منصب رسمي في العام 1947، وشغل منصب وزير الدفاع للمملكة لما يربو عن نصف قرن.

وريث الأمير سلطان في ولاية العهد، الأمير نايف بن عبد العزيز، البالغ من العمر 78 عاماً، شغل منصب وزير الداخلية منذ العام 1970، وهذايدفع قضية الوراثة ـ والاستقرار طويل الأمد في المملكة ـ إلى انفراج حاد حيث الملك عبد الله نفسه يبلغ من العمر 87 عاماً وهو الآن في حال صحيّة سيئة، وتنقل تقارير عن إصابته بمرض الزهايمر، والذي ينقل السلطة تدريجاً الى البيت السديري حيث سينفرد بالسلطة ما تبقّى من الأمراء الأقوياء في هذا البيت، وعلى وجه الخصوص الأميرين نايف وسلمان.

وصول الامير نايف الى ولاية العهد والأمير سلمان بن عبد العزيز الى وزارة الدفاع أصاب كثيراً من الأمراء بالإحباط، خصوصاً أولئك الذين اعتقدوا بأن (هيئة البيعة) ستكون خشبة الخلاص الأخيرة بالنسبة لهم لضمان ما زعم أبناء وأحفاد عبد العزيز بأنه حق لهم دون سواهم في العرش. بالنسبة لغالبية الشعب ولجميع الإصلاحيين، فإن المتغيّرات الجديدة عنت امراً واحداً، أن الإصلاح السياسي لم يعد حتى في الشكل مطروحاً على الطاولة، بل إن مسيرة أخرى من التشدّد قد بدأت مع وصول نايف وسلمان.

مركز الديمقراطية وحقوق الإنسان في السعودية في واشنطن قدّم في 7 كانون الأول (ديسمبر) الجاري تحليلاً حول مستقبل السعودية تحت حكم سلمان ونايف، وقال بأن تعيين الأخيرين (دليل واضح على أن الجناح السديري المتشدد الذي يقوده الأميران قد تمكّن من حكم البلاد مرة أخرى). ولفت مدير المركز الدكتور علي اليامي الى تاريخ الأميرين وتوجهاتهما، وخلص إلى أن من المتوقع أن يكون مستقبل السعودية تحت سيطرتهما لا يبشر بخير ولا يوحي ببارقة أمل في الإصلاح. وقال (لا نبالغ إن توقعنا أن الشعب السعودي سيعاني القمع وسيذوق الويلات تحت حكم الأميرين لأنهما من أشد المعارضين للتغيير وأكثر من يدعمون التيار الديني المتشدد داخل وخارج السعودية).

وبحسب اليامي، فإن الأميرين يشتركان في الرفض القاطع لأي إصلاح من شأنه إشراك الشعب في تقرير مصيره وسن القوانين وتنفيذها ونقل البلاد إلى الإزدهار والتقدم، وسيادة القانون، وإرساء الحقوق والحريات وحمايتها، ومحاسبة الفاسدين، والمساواة بين جميع فئات المجتمع. وأيضاً، وبحسب اليامي، فإن الأميرين هما من أشدّ المتمسكين ببقاء الوضع على ما هو عليه باستخدام الدين كأداة للبقاء في الحكم وبدعم رجال الدين ومنحهم الصلاحيات الكاملة والحصانة اللازمة لقمع الشعب. بالإضافة إلى ذلك فقد اشتهر الأميران نايف وسلمان بانتهاج سياسة القبضة الأمنية لإسكات جميع الأصوات المطالبة بالإصلاح والتغيير سواء بتهديدهم وأخذ التعهدات عليهم أو بإيداعهم السجون دون اعتبار لما يجري في العالم العربي من ثورات ضد الأنظمة الدكتاتورية والسياسات والقوانين التعسفية وتفشّي الفساد في جميع القطاعات وخاصة في مؤسسات الدولة.

ويسوق اليامي مثالاً على النزعة التسلّطية والاستبدادية لدى الأميرين نايف وسلمان، ومن بينها إستعداد الأمير نايف لقمع الشعب والوقوف في وجه المطالب الحقوقية مهما كلّف الأمر كما ظهر في تصريحه لمجموعة من الإصلاحيين المطالبين بملكية دستورية عند لقائه بهم في عام 2003 الذي قال فيه “إن ما أخذناه بالسيف نحميه بالسيف”. وهذا يعني، بحسب اليامي، أنه يعتبر الدولة ملكاً خاصاً بالعائلة الحاكمة تتصرّف فيه كما تشاء. ولا يخفى على أحد طريقة توظيف نايف لرجال الدين ورجال الأمن - الذين من المفترض أن يكونوا في خدمة المواطنين وتأمين سلامتهم - في ترويع الشعب والقضاء على آماله.

ومن التصريحات المشهورة للأمير نايف في دعم التيار الديني الذي يمقته الشعب قوله “إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن سادس من أركان الإسلام”.

ولا تقتصر سياسة نايف الأمنية على قمع المواطنين السعوديين فحسب بل تمتد إلى كل من يطالب بالعدالة الاجتماعية والحقوق الشرعية خارج السعودية كما حدث في البحرين بإرسال قوات درع الجزيرة التي يقف الأمير نايف خلف إنشائها من أجل التأكيد على منع أي حكم ديمقراطي في الجزيرة العربية، وكما يظهر من دفاعه واستضافته للحكام المطرودين كحسني مبارك وزين العابدين، وعلي عبد الله صالح.

وبخلاف ما يقال عن نزعة الاعتدال والمرونة لدى الأمير سلمان، فإن مركز الديمقراطية وحقوق الإنسان في السعودية يقدّم رؤية مختلفة، وبحسب مدير المركز فإن الأمير سلمان لا يختلف كثيراً عن نايف في تأييده للتيار الديني وتبنيه النهج الأمني لقمع المطالبين بالإصلاح مهما كلف الأمر فقد اشتهر بدفاعه المستميت عن الوهابية التي يعتبرها الإسلام الحقيقي. كما يؤكّد تصريحه أثناء زيارته للقوات الجوية مؤخراً بأن “استقرار المجتمع يعتمد على قوة القوات المسلحة” إصراره على الإبقاء على سياسة القمع وعدم الالتفات إلى المطالب الشرعية للشعب.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي يمنع الأسرة الحاكمة في السعودية من الاستفادة من دروس التاريخ والحاضر التي تؤكد أن إرادة الشعوب لا يمكن قهرها وأن النظم الدكتاتورية مصيرها إلى زوال وأن الاستجابة لمطالب الشعب هي ما يحقق الأمن والاستقرار؟

سياسة الشيخوخة السلالية في مملكة آل سعود قد لا تكون ذات أهمية بالقياس الى ظاهرة الربيع العربي التي أطلقت الديناميات السياسية والاجتماعية الكامنة التي تعيد اليوم تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة.

الموت الدراماتيكي والمثير لحاكم ليبيا السابق، العقيد معمر القذافي على يد دهماء موتورين يضيء على، في الحدود القصوى، الشراسة خلف البحث عن التغيير والتجديد في أرجاء المنطقة.

حتى الآن، يعتقد على نطاق واسع بأن السعودية ـ بناء على ثروتها النفطية الهائلة ونزعتها المحافظة العميقة والمعقّدة ـ ستنجو من معمعة الربيع العربي. وبالنسبة لكثير من المراقبين فإن مفتاح السؤال ليس ما اذا كانت السعودية تستطيع مقاومة الربيع العربي، ولكن إلى أي حد يمكن المملكة أن تتغير من خلاله.

هذه الملاحظة تبدو صحيحة الى حد أن آل سعود سوف لن ينجون من التداعيات بعيدة المدى للربيع العربي، حيث أن المواطنين السعوديين معنيون بالإحتجاج من أجل حقوق سياسية وإجتماعية في الفترة القادمة.

ولكن في ضوء التغييرات الجارية التي شهدتها المنطقة منذ كانون الأول (ديسمبر) 2010 ـ وهي تغييرات جاءت كما هو واضح بمحض المفاجئة ـ فإن لا شيء يمكن استبعاده في المملكة. ضعف وموت الحكام السعوديين لا بد أن تكون حزمة مخيفة في الوقت الحاضر حيث أنهم يدركون أفضل من غيرهم بأن نظامهم يفتقر للمرونة، والخيال، ومصادر السلطة الناعمة للتعامل بصورة مؤثّرة وفاعلة مع حركة الاحتجاج المفاجئة، والواسعة، والشعبية.

وبصورة عامة، فإن هناك ثلاثة عوامل تعمل ضد ظهور حركة احتجاج واسعة على النمط المصري في السعودية، في الوقت الراهن على الأقل. أولها، غياب معارضة وطنية وازنة وذات شعبية واسعة في السعودية. وحيث أن هناك كثيراً من الأفراد والاتجاهات الذين يجهرون بانتقادات ناعمة وشديدة، ولكن ليس هناك مجموعة منظّمة كبيرة يمكن أن تعطي شكلاً وتوجّهاً لتلك الأصوات المعارضة.

ثانياً، وحتى وفق معايير شرق أوسطية، فإن الثقافة السياسية في المملكة لازالت غير ناضجة، كما يدلّل على ذلك الغياب التام للأحزاب السياسية والإتّحادات النقابيّة، أو أي شكل من أشكال التنظم السياسي والاجتماعي مستقلاً عن آل سعود والدولة الريعية تحت سلطتهم القوية.

بالإضافة الى ذلك، هناك غياب التجربة الكافية في تنظيم الحركات الاحتجاجية والتظاهرات. الاستثناء الوحيد قد يكون المنطقة الشرقية التي يقطنها الشيعة، حيث أن المظالم الممتدة لعقود انعكست في هيئة تظاهرات ومناوشات مع قوات الأمن السعودية.

العامل الثالث هو الخوف المتأصل في أفراد الطبقة الوسطى ـ وخصوصاً في المدن الكبرى: الرياَض، جدّة، مكّة، المدينة ـ وأن الهيجان السياسي والثورة ضد البيت السعودي قد يطلق قوى الطرد المركزية الخفيّة التي قد تحيل المملكة مزقاً على قاعدة مناطقية، مذهبية، وقبلية.

وبصورة خاصة، فإن هناك خوفاً عميقاً من الإستقواء السياسي للشيعة، وهذا بالنسبة للطبقة الوسطى السلفية مساوياً لحصول ايران على موطىء قدم في الجزيرة العربية.

ولكن حتى لو أن الجماهير في مملكة آل سعود لم يخرجوا على الفور للشوارع للمطالبة بحقوق سياسية واجتماعية بشكل متعادل مع الغالبية العظمى من الشرق أوسطيين، فإن الاتجاهات طويلة المدى لا تبشّر بخير للبيت السعودي.

تحوّل الخارطة السياسية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وخصوصاً تطوّر أنظمة سياسية أكثر شفافيّة وخاضعة للمحاسبة لا يضعف الموقع الاستراتيجي للسعودية فحسب في المنطقة، ولكن يهدّد بتعريض المواطنين في المملكة الى كل طرق الأفكار (الهدّامة) والطموحات.

في السنوات القادمة، سوف يتضاعف عدد المعارضين السعوديين وأن المعارضة بكل أشكالها ستنمو بطريقة غير قابلة للسيطرة الى النقطة التي ستؤدي الى إغراق الخطاب الإصلاحي الذي يناصره الملك، والذي لم يعد يحظى بتأييد شعبي، فضلاً عن أن الملك نفسه قد تخلى عنه من الناحية العملية، فيما بدأ خطاب التشدّد يقوى ويسود بعد تولي الأمير نايف ولاية العهد، والذي بات الملك الفعلي للبلاد.

وفي سبيل تفادي أو تحييد التحدّيات الكامنة والمصيرية، فلابد أن يبدأ آل سعود برنامجاً إصلاحياً حقيقياً بآثار مباشرة وملموسة. الإصلاحات الحقيقية تعني إقرار مبدأ الإنتخاب المباشر بحسب المعايير الدولية، وبدء عملية فصل الدولة عن العائلة المالكة والمؤسسة الدينية الوهابية.

وإذا ما أراد آل سعود فرصة بقاء في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن عليهم أن يتحركوا بصورة عاجلة لمنح المواطنين نفس الحقوق التي يتمتّع بها المواطنون في كل بلد آخر من بلدان الشرق الأوسط. وحيث لا أحد يتوقّع أن تقوم السعودية بالتطوّر الى ديمقراطية ناضجة خلال عشيّة أو ضحاها، فإن العملية التي ترتقي الى حكومة شفّافة وخاضعة للمحاسبة نسبياً، إضافة إلى حقوق إجتماعية وثقافية واسعة، يجب أن تبدأ الآن.

ولكن الآفاق لا تبدو مشجّعة وإيجابية من جانب آل سعود. وكما تنعكس بصورة واضحة عبر صورتها الفانية والهرمة، فإن النظام السعودي برمّته يتهاوى بفعل العطالة، والعجز القيادي، والفساد دع عنك ذكر مفعول الإستقطاب العميق والسام للمؤسسة الوهابية الرجعيّة، والتي تنتج في الوقت نفسه نزعتي المحافظة والتطرّف.

وفيما تعتنق مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الديمقراطية وتواكب تدريجياً العالم المتطوّر فيما يرتبط بالاستيعاب الاجتماعي والسياسي، وكذلك الحرية الثقافية والابداع، فإن المملكة السعودية تبدو أكثر فأكثر مثل زيغ خطير.

وكما هي القيادة الهرمة والراحلة فإن البيت السعودي بأسره في اندثار واضح.

الصفحة السابقة