الإحياء السلفي في السعودية

مشروعية أقلويّة و(مطب) وطني

عبدالحميد قدس

إلتزاماً بحقوق النشر والتأليف، نذكّر القارىء الكريم بان استعمال وصف (مطب وطني) للندوة التي رعاها وزير الداخلية وولي العهد الأمير نايف في الندوة التي أقيمت في الرياض حول السلفية في نهاية العام الماضي، هي من ابداعات زياد ادريس، في مقاله بعنوان (السلفية..هل هذا وقتها؟) الذي نشرته صحيفة (الحياة) في 4 يناير الجاري.

مالذي يرمي إليه وزير الداخلية الأمير نايف من إعادة إنتاج وترسيخ الأسس السلفية للدولة، في ظل الإنقسامات العميقة الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية، وبالنظر الى حقيقة كون السلفيّة تمثّل أقلية عدّدية في هذا البلد، ما يجعل الدولة نفسها ذات طابع أقلوي.. هل ثمة خشية من أن الأسس الدينية التي قامت عليها الدولة السعودية قد تآكلت ما يتطلب مشروع انبعاث سلفي يعيد للدولة مشروعيتها وقاعدتها الإجتماعية النجدية التي تتعرض اليوم لانشطارات بنيوية إجتماعية وعقدية، وبالتالي قد تكون محاولة لإعادة بناء المشروعية الدينية التي تهدّمت منذ عقد، وصار الوسط الديني منقسماً حيال الأسس الدينية للدولة السعودية؟ أم هل يعني ذلك، على سبيل المثال، أن آل سعود باتوا على قناعة بأنّهم لم يعودوا يثقون بالأغلبية السكّانيّة ولا يعوّلون عليها، بل يرتابون في ما تنوي القيام به في ظل الظروف المتغيّرة؟ أم هناك أسباب أخرى، من قبيل أن الدولة تواجه أخطاراً خارجية من بينها التحدي القطري بانتزاع المبادرة السلفية وتطلّعها لأن تكون الدولة الراعية للسلفية الوهابية، أم أن الشحن السلفي يستهدف تأهيل شروط حرب طائفية قادمة كما تحذّر أطراف عدّة إقليمية ودولية؟.

في الشكل، جرى كلام طويل حول سر التركيز على السلفية دون باقي الموضوعات التي لا تقل أهميتها إن لم يكن يعلوها أهمية، وقد تساءل أحدهم مستنكراً: هل نظّمت جامعة الامام ندوة ولو لخمس دقائق عن حقوق الرعية على الراعي؟ وهل هنالك حلقة عقدت في شروط الإمامة؟ وعزل الإمام؟ وعقوبات الحاكم؟ “لماذا لم نسمع عن فقه “حقوق الرعية؟ “ أم أنه من فقه الخوارج؟ أليس في التراث الإسلامي السلفي كلام حول “الإمام الجائ”؟ لماذا لا يتطرق له لا من بعيد ولا من قريب؟ أم أنه تراث النصارى واليهود وليس الاسلامي السلفي الوطني؟ وهل الأمراء ملاّك؟ أم أجراء للأمة؟.. لماذا لا يتحدث عن ابواب إصلاح الراعي في النهج السلفي الوطني؟

وفي المضمون يبدو التساؤل أكثر إلحاحاً..

صورة من المؤتمر

في كلمة الأمير نايف الافتتاحية ندوة (السلفية منهج شرعي ومطلب وطني) التي أقيمت بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في 27 كانون الأول (ديسمبر) الماضي تأكيد بأن المملكة السعودية ستبقى (متبعة للمنهج السلفي القويم ولن تحيدَ أو تتنازل عنه). وبرر ذلك بأن (المنهج السلفي مصدر عز وتوفيق ورفعة للمملكة، كما أنه مصدر لرقيها وتقدمها..). وبصرف النظر عما إذا كانت السلفية مصدراً لرقي وتقدّم المملكة، وهو غير ثابت على الأقل في جوانبه السياسية والاجتماعية، إلا أن قوله بأن السلفية مصدر عز وتوفيق ورفعة المملكة يكشف عن رؤية داخلية للسلفية، أي كونها مصدر قوة السلطة السعودية وتماسكها.

ولأنه يستحضر ما يعنيه التأكيد على سلفية الدولة من عزل وإقصاء الأغلبية السكانية التي لا تنتمي الى هذا التوجّه، فإنه شدّد على أن المنهج السلفي يدعو (إلى التعايش السلمي مع الآخرين واحترام حقوقهم). ولكن في الوقت نفسه يدرك بأن هذا النهج موضوع خلافي، وأنه يريد استعماله أيضاً لأغراض خلافية بقوله (إن من يقدح في نهجها أو يثير الشبهات والتهم حوله..فهو جاهل يستوجب بيان الحقيقة له). وبصرف النظر عن صحة وسقم المنهج السلفي، فهو بالتأكيد ليس نهجاً توافقياً، ولا يمكن بحال أن يصبح مطلباً وطنياً، لأننا بذلك نفترض أن ثمة إجماعاً شعبياً عليه أو يحظى بدعم الأغلبية السكانية.

يتساءل أحدهم مستنكراً حول مفهوم السلفية الوطنية، بقوله لقد عرفنا أشكالاً عدّة للسلفية مثل السلفية الجامية، والسلفية الجهادية، والسلفية العلمية، ولكن لأول مرة نسمع أن هناك شكلاً للسلفية لم نطّلع عليه وهو السلفية الوطنية. ويعلّق السائل: طبعاً هذه طلعات جامعة الإمام التي يقال عنها: (too good to be true). ويستطرد في بيان الأشكال السلفية المتوقّعة مثل “السلفيّة السعوديّة” ويستدرك (لكأني بسلفيات إقليمية: سلفية قطرية، وسلفية مصرية، وسلفية ألمانية، وسلفية صينية).

واذا كانت السلفية دين وعقيدة فما ربطها بالوطن والوطنية، وهما مفهومان حديثان؟

المقاربات التي قدّمت على مدى يومين في 9 جلسات وحضور أكثر من سبعمائة باحث من داخل المملكة وخارجها وتقدّمت خلالها مايربو عن مائة بحث وورقة عمل تصدر عن نزوع دفاعي بالدرجة الأساسية كما تلفت ابتداءً عناوين المحاور. ولكن ما هو مثير أن محوّراً رئيساً جرى التركيز عليه هو الدفاع عن منهج الدراسة الدينية.

في سياق المقاربة الدفاعية أو بالأحرى التبريرية، الموقف السلفي من المرأة، حيث بدا العنوان كما لو أنه رد على من يقول أن المنهج السلفي ظلم المرأة. وراح الدكتور ابراهيم السيف في ورقته (دعوى ظلم المنهج السلفي للمرأة) يسهب في قراءة تطوّر الموقف من المرأة عبر التاريخ العربي والإسلامي، ليصل من تلك القراءة الى أن موقف الدولة السعودية من المرأة هو ثمرة التطوّر الطبيعي للموقف من المرأة في الشؤون الاجتماعية على وجه الخصوص، ولذلك اكتفى بتسليط الضوء على شؤون المرأة الاجتماعية والتعليمية، وأعاد إنتاج النظرة النمطية السائدة حول المرأة في الغرب، باعتبارها جسداً وشهوة بلا كرامة وحقوق، ليصل في نهاية المطاف الى أن المرأة في ظل المنهج السلفي في حال أفضل، دون أن يتطرّق مطلقاً لحقوق المرأة السياسية والاقتصادية والفكرية..

على المستوى السياسي، يلفت التعريف الذي جرى تعميمه خلال الندوة أنه يخرج جماعات سلفيّة عديدة إكتسبت طابعاً حزبياً مثل أنصار السنة، والجمعية الشرعية، جماعة التبليغ، وأخيراً حزب النور السلفي في مصر، والسبب (إنَّ السلفية ترى عدم جواز الانتماء إلى هذه الجماعات التي تنتسب إلى الدعوة الإسلامية لمخالفة تلك الجماعات في نشأتها ومبادئها وسيرها طريق السلف وتفريق جماعة المسلمين).

وفي ورقة الدكتور عبد العزيز بن محمد السعيد بعنوان (إبطال تقسيم السلفية إلى تيارات) نفى أن تكون السلفية تياراً أو حزباً سياسياً غطاؤه الدين بل (إنها دين ومعتقد)، والسؤال الأولي والمباشر الذ يثار هنا، فإذا كانت ديناً ومعتقداً لماذا يردد الأمير نايف بأن الدولة السعودية سلفية، وعلى المنهج السلفي، فهل السلفية في الدولة غير السلفية في الحزب، غير السلفية في التيار السياسي؟!ّ

مايلفت في ورقة السعيد أنه أعاد إحضار التعريفات الشمولية والإقصائية التي توصل الى التكفير، كقول أن السلفية (هي الاسلام كله)، وأن (المنتمين للسلفية هم أهل السنّة والجماعة)، ما يعني أن من هم على غير السلفية ليسوا من أهل السنة والجماعة! وهو ما أشار إليه أكثر من باحث في المحور نفسه، ومن بينهم الدكتور يوسف بن أحمد البدوي في بحثه (مصطلح السلفية حقيقته وصلته بالإسلام الصحيح)، حيث اعتبر (الدعوة السلفية هي الدعوة الربانية التي تهدف الى اصلاح العباد وتعريفهم بالخالق..).

وقد جاء في التقرير الصحافي الذي غطّى المؤتمر مغالطات وعبارات إقصائية كهذه الفقرة (المملكة منذ تاريخها المتجذر في الجزيرة العربية وهي تقوم وتسير على منهج السلف الصالح وهو المنهج السديد الصحيح الذي يمثل الإسلام الذي جاء به نبي الرحمة والهدى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم)، فمنذ متى كان تاريخ المملكة متجذّراً في الجزيرة العربية ولم يمض على قيامها سوى قرنين ونصف متقطعين، ثم كيف يثبت أن المنهج الذي تسير عليه مملكة آل سعود (يمثل الإسلام)، ومن شهد لهم بذلك سوى مشايخ الوهابية؟

الغريب أن مدير جامعة الإمام محمد بن سعود، سليمان أبا الخيل، وهو بالمناسبة شخصية خلافية داخل التيار السلفي السعودي، قدّم مقاربة مغالية بقوله أن المنهج السلفي (يمثل الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم،) والسؤال هو ما تعريف الإسلام الصحيح؟ وماهو الإسلام الخطأ؟ وعلى أي أساس يكون معيار الصحة من الخطأ ؟ وهل السلفية الوطنية هي الإسلام الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام؟

سؤال آخر: هل حقاً أن نايف يخشى الوهابية القطرّية؟

ذكرت بعض وسائل الإعلام الالكتروني بأن الأمير نايف قال أن السعودية قامت على السلفية وستبقى. وقد فسّر بعض المواقع هذا الكلام على أنه ردّ على الوهابية القطرية المنافسة، في ظل مسعى قطري للعب دور بديل عن الدور السعودي الذي أصابه الوهن بعدما هرمت مملكة آل سعود. تصريحات الأمير نايف جاءت متزامنة مع إطلاق قطر إسم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مؤسس الدعوة النجدية، على أكبر مساجدها في خطوة وصفها مراقبون بأنها (محاولة قطريّة لمزاحمة السعودية كمركز للسلفية)، بحسب موقع (ميدل إيست أون لاين) في 29 كانون الأول (ديسمبر) الماضي. وقال الأمير نايف بأن الدولة السعودية (قامت على المنهج السلفي السوّي منذ تأسيسها على يد محمد بن سعود وتعاهده مع الإمام محمد بن عبدالوهاب...ولا تزال إلى يومنا هذا)، في إشارة الى أن مركز السلفية هو في وسط المملكة. ودافع عن تبني السعودية للمنهج السلفي في مقابل الآخرين الذي أراد إخراجهم من الدائرة السلفية، ومن خلال تعريفه للسلفية محدد يكون قد أخرج (كل ما ألصق بها من تهم..أو تبناه بعض أدعياء اتّباع المنهج السلفي).

وفهم مراقبون، حسب الموقع سالف الذكر، تصريحات الأمير نايف بأنها بمثابة رسائل قاطعة إلى الجارة قطر بأنها لن تستطيع مزاحمتها على مكانتها الدينية في العالم العربي والإسلامي، خصوصاً بعد تصاعد الأصوات الليبرالية الداعية إلى الإنفتاح في البلاد، فيما رأى هؤلاء المراقبون في افتتاح (مسجد الإمام محمد بن عبدالوهاب) في الدوحة إعلاناً من قطر باعتناقها (السلفية) والتزامها باتباع الدعوة الوهابية التي بقيت لسنوات على هامش الإهتمام في بلد فضل احتضان تيارات أخرى كالإخوان المسلمين وجماعة الدعوة والتبليغ وغيرهما. ويرى سعوديون في الخطوة القطرية رغبة في خوض سباق شرس مع بلدهم لاستقطاب السلفيين، وان واشنطن تستخدم قطر للتأثير على السلفيين بعد أن نجحت في احتواء الإخوان تحت مظلتها. يضاف الى تلك الدعاوى ما قاله الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في افتتاح المسجد (جدنا المؤسس الشيخ جاسم وهو العالم بالدين والحاكم في الوقت نفسه كان ممن تلقفوا دعوة الشيخ ابن عبدالوهاب وتبنوها ونشروها في بلادنا وخارجها في أنحاء العالم الإسلامي، وحمل على عاتقه مسؤولية نشر كتب الدعوة الوهابية وغيرها من الكتب وطباعتها في الهند من أجل التفقيه بدين الله).

وعرضت (وكالة الأنباء القطرية) لنسب الشيخ محمد بن عبد الوهاب مشيرة إلى انتمائه إلى قبيلة بني تميم التي تنتمي إليها الأسرة الحاكمة في قطر، وهو أمر يعتقد بأنه محاولة لإضفاء المزيد من الشرعية على تسمية الجامع بإسم الشيخ الذي تعرّض لانتقاد شرس من قبل شخصيات إخوانية مقيمة في الدوحة في وسائل إعلام محلية وعالمية.

ويذهب آل سعود الى تصوير الخطوات القطرية بأنها تعبير عن نوايا مبيّتة مع الأميركيين خصوصاً بعد تسريب مكالمة الشيح حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني بتقسيم السعودية ودخول قطر الى المنطقة الشرقية، وتنفيذ خطة التقسيم التي أشار إليها حمد بن جاسم. ولذلك جرى استثمار آل ثاني للزخم العشائري لبني تميم في الجزيرة العربية والترويج لقطر على أنها حاضنة القبيلة وعزوتها.

قد تكون هذه المعطيات صحيحة، ولا خلاف في دورها في تأجيج المخاوف الظاهرة والمستترة لدى أمراء آل سعود المسكونين بالخوف من أي شيء وكل شيء، ولكن لابد من الإشارة هنا الى أن ندوة (السلفية منهج شرعي ومطلب وطني) قد جرى الإعلان عنها قبل نصف عام على الأقل. لا يلغي ذلك على الإطلاق أن ثمة تحدّيات تواجه السلفية السعودية وتجعلها أمام اختبار حقيقي، رغم محاولات الدولة السعودية لأن تكون مظلة لكل التيارات السلفية في الخارج، في مصر وتونس، وليبيا واليمن وسورية والعراق والخليج، بهدف توظيفها في الصراعات السياسية الراهنة والمقبلة، ولكن ما تخشى منه العائلة المالكة هو أن تتحوّل هذه التيارات السلفية الى مصدر إلهام للتيار السلفي داخل المملكة فيتطلع للعب دور محوري في العملية السياسية المرشحة لأن تبدأ في المملكة في أي وقت.

الصفحة السابقة