الدولة الضبابيّة

دخلت مملكة آل سعود، بحق، مرحلة الريبة والحيرة أو ما يعرف بـ (uncertainty)، فلها في كل قضية موقفان متناقضان، ولها من كل تيار نظرتان، يحتمل أحدهما التأييد والآخر المعارضة. ولأن الربيع العربي فرض معادلة جديدة تقوم على أساس أن المتغيّر هو القانون والثابت هو الإستثناء، فإن أداء مملكة آل سعود مرتبط الى حد كبير بـ (ريتم) المعادلة هذه، خصوصاً مع الحديث عن دور جرى منحه لها إلى جانب تركيا لقيادة الثورة المضادة لعام 2012، مع توقّعات باستمرار الخضّات الشعبية في الشرق الأوسط..

رفع آل سعود أيديهم من فلسطين ولبنان والعراق إضطراراً، وبصورة استثنائية، بانتظار وضوح الرؤية من الغرب (مصر على وجه التحديد)، ومن الجنوب (اليمن) التي لم تقدر المبادرة الخليجية على إخماد ثورتها رغم افتعال معارك جانبية بما فيها قضية (دمّاج) في محافظة صعدة، ومن الشرق، حيث مياه الخليج تزداد سخونة بفعل تصاعد درجة التوتر الأميركي الإيراني..

يدرك الأشقّاء في الخليج أن دعوة الملك عبد الله دول مجلس التعاون الخليجي للإنتقال من التعاون إلى الإتحاد هي بمثابة (فرقاعة إعلامية) أو (بضاعة ما قبل إغلاق السوق)، فلم يحمل أحد من قادة المجلس الدعوة على محمل الجد، ومع ذلك عكست الدعوة جانباً من الضبابية، تماماً كدعوة الأردن والمغرب للإنضمام للمجلس، دعوة يراد الآن مسحها من الذاكرة، والاكتفاء بالعلاقة التفضيلية مع الأردن، على غرار علاقة الأخيرة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

ليس لدى آل سعود رؤية واضحة في السياسة الخارجية، ذاك أمر بات واضحاً، ولكن الأمر لم يعد مقتصراً على جانب في مملكة آل سعود، فأينما يمّمت وجهك ستجد تخبطاً غير مسبوق. ففي مقال نادر بعنوان (السلفية..هل هذا وقتها؟) للكاتب زياد الدريس نشر في جريدة (الحياة) التابعة لآل سعود بتاريخ 4 يناير الجاري، عرض فيه لصورتين متقابلتين للمملكة السعودية: فمن جهة تطلق دعوة الى “إتحاد خليجي” يجمع على حد قوله (النفوذ السياسي المرتكز على القوة الإقتصادية في منظومة واحدة..)، ومن جهة أخرى هذه الدولة الكبيرة “تتصاغر حين تستجيب وتنغمس في تشظيات «الحزبية”. ثم يستدرك “الحزبية تجعل الصغار كباراً، لكنها في المقابل تجعل الكبار صغاراً!”. ويسهب في شرح ذلك بمرارة أن الدعوة الى الارتقاء بمنظومة التعاون الخليجي نحو (إتحاد خليجي) يقابلها (الهبوط من دورها المركزي في رعاية الإسلام والدعوة إليه إلى رعاية «السلفية» والدعوة إلى «تبنّي إستراتيجية لنشر المنهج السلفي»). وعلّق على عنوان ندوة نايف في الرياض بعنوان (السلفية..منهج شرعي ومطلب وطني) بالقول (والصحيح أنها «مطبّ وطني» جعل الوطن أصغر بكثير مما هو في حقيقته). وفي الواقع أن الكاتب سخر بطريق غير مباشر من تغني الأمير نايف بسلفية الدولة السعودية، وقال: عليها أن (تكون في منأى عن أي تصنيف سوى تصنيف واحد فقط: الدولة الإسلامية الأم).

من نافلة القول أن هناك من يعتقد اليوم بأن النزوع السلفي لدى آل سعود ليس بسبب زيادة درجة الالتزام الديني، ولكن لأنهم يخشون من صعود التيارات السلفية في الخارج، والتي تتجه للإنخراط في السياسة كما في مصر، وتونس، وليبيا، والمغرب ما يضع التيار السلفي داخل المملكة في حرج بالغ، خصوصاً وأن هناك من مشايخ الصحوة مثل الشيخ سلمان العودة والشيخ الصحوي العائد بخجل بسبب وضعه الصحي الشيخ سفر الحوالي قد قدّم مراجعة عاجلة لبعض أفكاره في مفاهيم ديمقراطية مثل الإنتخابات، والاحزاب السياسية والبرلمان، وهو ما يجعل العائلة المالكة أمام تحديات متجدّدة كانت تعتقد بأنها تجاوزتها أو استوعبتها..

في الظاهر هناك منهجان متناقضان، منهج يقوده الملك عبد الله وهو من أصدر قرار مشاركة المرأة في مجالس البلدية والشورى في الدورة القادمة، وقرار تأنيث محلات (المستلزمات النسائية)، في مقابل منهج يقوده الأمير نايف يرفض حتى مجرد السماح للمرأة بقيادة السيارة..والحقيقة أن التيار الوهابي التقليدي لا يأتمر برأي أحد، بل هناك من يعتقد بأن تقويض السلفية التقليدية ستتم على يد نايف نفسه، الداعم الأكبر لها، بسبب وعد قطعه للأميركيين قبل المصادقة على ترشيحه لولاية العهد بأنهم غير راضين عن تضخم دور التيار الديني، ولابد من إتخاذ إجراءات لتقليص نفوذه من أجل تفادي إنقسامات مستقبلية خطيرة في الساحة المحلية، خصوصاً مع تزايد المطالب الشعبية بالإصلاحات الجوهرية.

عدم الإتساق في مواقف مملكة آل سعود، أي بمعنى آخر ضبابية الدولة، لا يعود لغياب الإنسجام في منهجي الملك وولي عهده، بل هذا يتفشى في كل شيء، ولا أحد يعلم كيف تسير الأمور، وكأن انفعالات اللحظة تلعب دوراً رئيساً في توجيه المواقف، الى درجة يخيل لمن يتابع الإضطراب في أداء الطبقة الحاكمة أن الحكمة آخر عنصر يمكن أن يتدخل في قراراتها.

أمثلة لا حصر لها يمكن أن ترد في هذا الصدد: الحملة الاعلامية الشرسة ضد بيان الاصلاحيين حول العقوبات المفروضة على أفراد ما يسمى (خلية الاستراحة)، وحوادث القطيف، ثم بيان الداخلية حول 23 مطلوباً على خلفية التظاهرات في القطيف، وتالياً منع سفر الإصلاحيين ومن بينهم الرمز الإصلاحي محمد سعيد طيب، وحملات مداهمة البيوت في مناطق متفرقة من البلاد، والإيغال في الإجراءات التعسفية والاستفزازية بهدف كسر إرادة التيار الإصلاحي الذي بات يستوعب شباب المملكة.. باختصار: قد تنتقل الدولة من الضبابية الى العمى!

الصفحة السابقة