دولة الاحتجاجات

الكلام عن أنها دولة مستقرة وجزيرة آمنة في محيط مضطرب غير دقيق، فقد ولدت والإحتجاج عليها في لحظة واحدة، لأنها قامت في الأصل على قمع الحريات العامة، والتنكيل بالأفراد والجماعات، ومصادرة الحقوق، ولا يمكن والحال هذه أن تنجب هذه الأوضاع كياناً مستقراً، ما لم تكن هذه الدولة تحكم كائنات غير بشرية أو مجتمع آلي (روبوتي)، ليس لديه مشاعر ولا وعي وإن غاية همه ومبلغ علمه هو الإذعان والخضوع والقبول بما قسم له حكّام الجور.

والحال، أن هذه الدولة شهدت إحتجاجات منذ نشأتها وتواصلت حتى اليوم، ولم تهدأ فما إن تخمد إنتفاضة في هذه المنطقة الا وقد شهدت أخرى وكل له طريقته في الاحتجاج.

في السنوات الأولى من قيام الدولة السعودية، شهدت مناطق الحجاز حركة احتجاج قام بها الضباط الحجازيون وكانوا على وشك القيام بتمرد ضد النظام السعودي من أجل استرداد الحجاز من الاحتلال السعودي.

وفي نهاية الاربعينيات من القرن الماضي برز إسم عبد الرحمن الشمراني، من الحجاز، وشارك في حرب فلسطين عام 1948، ثم عاد يحمل بداخله روحاً ثورية غضبت بسبب خيانة آل سعود للقضية الفلسطينية، وترقّى في صفوف الجيش حتى وصل الى الحرس الوطني ورافق الملك عبد العزيز وعمل مدرساً في في مدرسة الحرس، وكتب في مجلة اليمامة عن فساد النظام الملكي السعودي، وانضم للثورة وهو برتبة ملازم وجاءته الترقية إلى رتبة نقيب، وكان حينذاك وراء القضبان بتهمة العمل في تنظيم محظور، وبفعل ضابط مدسوس في المجموعة التي كان فيها المناضل الشمراني تم استدراجه للوقيعة به فاعتقل، وحكم عليه بالاعدام ونفّذ الحكم لينضم الى قافلة المناضلين الشرفاء في هذا الوطن.

وفي العام 1951، قام الطيار عبدالله المنديلي وبالتعاون مع ضباط آخرين بمحاولة قصف مخيم الملك عبدالعزيز، وقيل أن عناصر قبلية كانت ضمن التخطيط لتحرير الحجاز من النظام الملكي السعودي، ولكن المحاولة فشلت وأعدم بعضهم، وفرّ المنديلي إلى العراق، تاركاً عائلته وأصدقاءه في الحجاز حتى مات.

في تلك الأثناء، ظهرت أنشودة وطنية حجازية ، وكان الكبار والصغار يرددونها وهي تعكس الحالة النفسية لدى الجمهور الحجازي الذي تألم لفشل المحاولة:

منديلـي لا تبكـي

قـبـلـك بـكـيـنــا

حتى حمام البيت

يـشـهـد عـلـيـنـا

أما على مستوى الاحتجاجات الشعبية، فقد واجه الحكم السعودية حركات احتجاج في مناطق متفرقة في الشرق والجنوب والحجاز، في رد فعل على الضرائب الباهظة، وبعد خضّات الحرب العالمية الثانية، خرج عمال شركة إرامكو العام 1947 للمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية وتعرّضوا لقمع شديد من قبل قوات عبد العزيز. وبعد انهيار الاستعمار القديم بقيادة بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية وصعود الولايات المتحدة كقوة استعمارية وارثة، بدأت موجة الثورات العربية من مصر في يوليو 1952، حيث تركت تأثيراتها على مساحة واسعة من الشرق الأوسط، بما فيها منطقة الخليج. ولأول مرة تخضع المرجعية الأيديولوجية الرسمية لاختبار حاسم، بفعل موجة الأفكار الثورية التحررية، والتي مهّدت لتشكيل تنظيمات يسارية وقومية وبدأت سلسلة الإضرابات العمّالية، والانقلابات العسكرية، والتظاهرات الشعبية المؤيّدة للزعيم جمال عبد العناصر في السنوات من 1953 ـ 1956.

ومن بين المناضلين في حركة الاحتجاجات ضد النظام الملكي السعودي حمد الشميمري الشمري، الذي التحق بالمدرسة الحربية العسكرية بمكة المكرمة منذ فتح أبوابها سنة 1354هـ/1934، وأصبح قائد اللواء الحادي عشر وقاد القوة السعودية المرابطة في الأردن عام 1375هـ - 1956م أثناء العدوان الثلاثي على مصر. وتدرّج في المناصب العسكرية العليا الى أن أصبح رئيساً لهيئة الأركان العامة في العام 1971، وقبل مقتل الملك فيصل بشهور قليلة قام الفريق أول حمد الشميمري بمحاولة انقلاب عسكري للإطاحة بالنظام الملكي كرد فعل على الدور المشبوه للملك فيصل خلال المفاوضات التي كانت تقوم بها الولايات المتحدة في المنطقة للصلح مع الكيان الاسرائيلي.

وينضم الى تلك القافلة المناضل عبدالكريم أحمد القحطاني (1946 ـ2002) ويعتبر من أوائل من انضم وشارك في حركة الضباط الأحرار السعودية، ومن مؤسسي تنظيم اتحاد شعب الجزيرة، وعضو مؤسس في التنظيم وشارك مع المناضل البطل ناصر السعيد.

ولا ننسى في هذا السياق الضابط سعود المعمر (1935 ـ 1971)، وقد توفي تحت التعذيب بعد اعتقاله في الأردن في إيلول (سبتمبر) 1970، بتهمة كونه مسؤولاً في حزب معارض. وحسن العمران (1931 ـ 1970)، وقتل في حديقة سجن جدة بعد اعتقاله في 4 حزيران (يونيو) 1970 مع عبد الواحد عبد الجبار، وجرى اغتيالهما في ليلة 15 حزيران (يونيو) من نفس العام، ودفنا في حفرة واحدة بحديقة السجن بجدة، وكانت التهمة الموجّهة إليه هي الضلوع في عملية الإنقلاب العسكري الفاشل.

ومن وحي تلك النضالات المتواصلة في عقدي الخمسينيات والسيتينيات برزت تيّارات سياسيّة إحتجاجية في مناطق متفرقة دينية وليبرالية، وحفظت أمانة من قضوا نحبهم في سجون آل سعود. وإذا كان زمن الانقلابات العسكرية قد توقّف حتى الآن، وعمد آل سعود الى تنصيب أبنائهم في المواقع العسكرية القيادية والحساسة، فإن الشعب إبتكر وسائل في الاحتجاج متعددة، فخلال العقود الثلاثة الأخيرة، أي من بعد موت الملك فيصل، الذي كان رمزاً لقمع المناضلين الوطنيين، شهدت البلاد حركات احتجاجية في مكة المكرمة ممثلة في حركة جهيمان العتيبي العام 1979، ثم انتفاضة المنطقة الشرقية بعدها بشهر، وتواصلت الاحتجاجات في التسعينيات بعد غزو العراق للكويت، وولادة ما أطلق عليه تيار الصحوة، ثم بروز تيار وطني إصلاحي في بداية الألفية الثالثة، وبروز تنظيم القاعدة المسلحة والتفجيرات المتنقلة في البلاد..

وها نحن نشهد أكبر عملية احتجاجات في تاريخ البلاد منذ اندلاع الربيع العربي والتي سوف تكتب تاريخاً جديداً لهذا البلد، وقد يكون فيه عمر النظام السعودي قصيراً، لأنه تاريخ يشارك في كتابته الجميع، وهم من يصنعون شكل الدولة في المرحلة المقبلة.

الصفحة السابقة