علاقات تنتظر مفاجآت

السعودية وقطر.. المبارزة المؤجّلة

يحي مفتي

ما يفرّق بين النظامين السعودي والقطري أكثر مما يجمعهما رغم المشتركات الظاهرية التي قد تخفي الكثير من الخلافات العميقة التي تحتدم تحت سقف النفاق السياسي الذي يحكم علاقات النظامين، على الأقل خلال العقدين الأخيرين حيث شهدت العلاقات بين الرياض والدوحة تحوّلات حادة وصلت الى نقطة القطيعة في لحظة ما.

من الناحية التاريخية، يمكن تعريف العلاقة السعودية القطرية بأنها قائمة على عدم الثقة المتبادلة، وإن شهدت بعض الهدوء بسبب وجود مصالح مشتركة في الاستقرار والاستمرار. قبل استقلال دولة قطر عام 1971، مهّدت الاتصالات بين العائلة المالكة ورجال الأعمال القطريين وأعضاء الأسرة الحاكمة في قطر، وقبائل البدو القطريين لنفوذ سعودي قوي في شؤون جارتها الخليجية الصغيرة.

بعيداً عن العوامل التاريخية التي ساهمت في تشكيل دولة قطر، فإن النظام السياسي الحالي يعود الى العام 1977 حين أصبح امير قطر الحالي ولياً للعهد ووزير للدفاع وكان يحمل أفكاراً مختلفة عن والده، فقد تطلع الى أن تضطلع قطر بدور قيادي على المستويين الإقليمي والدولي..

كان النفوذ السعودي وارثاً للنفوذ البريطاني بعد نهاية حقبة الاستعمار، واستمر هذا النفوذ الى بداية التسعينيات، قبل أن تندلع أزمة الخليج الثانية بعد غزو العراق في عهد الرئيس الأسبق صدام حسين للكويت في آب (أغسطس) 1990، حيث شهدت شبكة العلاقات داخل مجلس التعاون التعاون الخليجي تحوّلا دراماتيكياً ترك تأثيره المباشر على علاقات الرياض بأغلب عواصم دول مجلس التعاون، انعكس في البداية على الاتفاقيات الدفاعية التي وقّعتها هذه الدول مع الولايات المتحدة، ثم ابرام اتفاقيات بخصوص التجارة الحرة التي وقعتها أكثر من دول خليجية معها، ما عنى أن انحساراً تدريجياً لنفوذ الشقيقة الكبرى قد بدأ، الأمر الذي جعل الأخير تتحسس من النزوع الاستقلالي للدول الاعضاء في مجلس التعاون، وكانت قطر الطرف الأكثر مشاغبة في التعبير عن نزوعه الاستقلالي والانقلابي..

بدا التوتر واضحاً بين الرياض والدوحة في مرحلة مبكرة، وشعرت القيادة القطرية بأن ثمة تحرّكات سعودية لجهة معاقبة الدوحة على ما تعتبره الشقيقة الكبرى تمرّداً على تقاليد العلاقة الاستتباعية بين ال سعود وبقية مشيخات دول ملجس التعاون..ولذلك، كان متوقعاً أن يفرز التوتر في العلاقات القطرية السعودية شكلاً من أشكال الصدام بين البلدين.

في يوليو 1992، قتل اثنان من حرس الحدود القطريين في اشتباك على الحدود السعودية القطرية، مما عجّل ببدء عشر سنوات من العلاقات السيئة. وبعد سنوات قليلة، إتّهم أعضاء في الحكومة القطرية الرياض بمحاولة انقلاب مضاد في عام 1996 بعدما أزاح أمير البلاد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني والده في انقلاب غير دموي في عام 1995. وقد لعبت وسائل الاعلام في كل من البلدين في تعزيز الخلاف بين البلدين وتشويه صورة كل منهما لدى الرأي العام، وأدت في نهاية المطاف الى تدهور العلاقات بين البلدين.

في بداية التسعينيات حقق الأمير الحالي حلمه باعتلاء العرش واستبعاد والده، وبدأ على الفور تدشين مرحلة جديدة في العلاقات الدولية حيث أقام علاقات مع ايران واسرائيل، بدأت تجارياً بمحادثات لضخ المياه من ايران الى قطر، وبتأسيس مكتب تجاري مع اسرائيل والذي افتتح بصورة رسمية العام 1996 خلال زيارة للرئيس الاسرائيلي الحالي شيمون بيريز، وكان الهدف هو بيع الغاز القطري للكيان الاسرائيلي..

صعود النخبة السياسية الجديدة في قطر والرغبة المتزايدة لديها بلعب دور في ساحة العلاقات الدولية ساهمت في تدهور العلاقات مع النظام السعودي، الذي شعر لأول مرة منذ رحيل البريطانيين عن الخليج العام 1971 بأن شقيقاتها الصغيرات بدأت بالتمرد عليها والخروج من البيت بدون إذنها.

في حقيقة الأمر، أن أزمة الخليج الثانية غيّرت كثيراً من المعادلات الجيوسياسية في الخليج، فقد دخلت قطر، شأن دول خليجية أخرى مثل الكويت والامارات، في معاهدات دفاع مشترك مع الولايات المتحدة الأمر الذي ترك تأثيراً مباشراً على معاهدات الدفاع المشترك بين دول مجلس التعاون الخليجي، حتى أن قطر أثارت حينذاك سؤالاً حول جدوى بقاء قوات درع الجزيرة التي نالت نصيباً وافراً من النقد والتهكم من قبل رئيس وزراء ووزير خارجية قطر حمد بن جاسم..وفي عام 1992، سمحت الاتفاقية الدفاعية بين قطر والولايات المتحدة بتأسيس قواعد عسكرية أميركية في الخليج ومنها قاعدة السيلية الجوية.

وبدا، من تداعيات ونتائج حرب الخليج الثانية، كما لو أن قطر تحررت من عقدة (الشقيقة الكبرى) التي كانت عاجزة عن حماية نفسها إزاء التهديد العراقي، فكيف يمكن أن تحمي الشقيقات الصغيرات؟

حين قررت قطر كسر الطوق السعودي المفروض عليها سياسياً واقتصادياً وأمنياً، واجهت تحديات حقيقيقة، فلم تقبل العائلة المالكة أن تجد النخبة الحاكمة في قطر طريقاً سهلاً تسلكه نحو الاستقلال السياسي والاقتصادي عن السعودية..فقد واجهت الدوحة استبسالاً سعودياً لجهة منع قطر من تنفيذ مشروع نقل الغاز الى دول مجلس التعاون الخليجي، ما دفع بقطر الى نقل طموحها الى خارج الاقليم وتطوير مشاريع تصنيع الغاز (الغاز الطبيعي المسيّل). وكانت المواجهة الحدودية على معبر الخفوس في تموز (يوليو) 1992 قد أدّت الى فصل جديد ومتطور في تدهور العلاقات بين البلدين وصولاً الى انهيار العلاقة في العام 1995 بعد انقلاب الابن على أبيه في قطر واستلام الأمير الحالي الحاكم بصورة كاملة، الأمر الذي أغضب النخبة السياسية الحاكمة في الرياض، التي كانت تستقبل الأمير السابق بمراسيم وطنية كاملة في إشارة الى عدم اعترافها بالحكم الجديد، وقد حاولت الرياض إعادة الأب الى العرش في انقلاب العام 1996، ولكن لم ينجح وبقيت العلاقات في حال توتر طويل دام أكثر من عقد من الزمن.

وبقيت العلاقات بين الدوحة والرياض طيلة الفترة الممتدة من عام 1992 وحتى اندلاع الربيع العربي متوترة، وكانت قطر تدعم المعارضين للنظام السعودي فيما يقدّم الأخير الدعم اللامحدود لخصوم النظام القطري. وكانت قناة (الجزيرة) أحد الأسلحة الفاعلة التي كان يصول بها النظام القطري في حربه الناعمة مع النظام السعودي، عبر استضافة الشخصيات الاصلاحية والمعارضة في القناة، وكانت تدفع أموالاً لقنوات فضائية محسوبة على المعارضة أو تبث برامج سياسية ناقدة للنظام السعودي. علاوة على ذلك، عمد النظام القطري الى بناء شبكة حلفاء وأصدقاء في الشرق الأوسط جميعهم تقريباً على خلاف مع النظام السعودي مثل ايران وسورية وليبيا وحماس وحزب الله وغيرها..

كان الخلاف القطري السعودي يأخذ أشكالاً متعددة، وكان موضوع الطاقة حاضراً بضراوة في هذا الخلاف. ففي 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، أعلنت شركة دولفين الاماراتية أن الغاز القطري سيصل الامارات في منتصف 2007، وقال أحمد الصايغ الرئيس التنفيذي لشركة دولفين الاماراتية للطاقة اليوم انه تم استكمال العمل في خط أنابيب سينقل الغاز القطري الى دولة الامارات وان من المتوقع بدء تشغيله في منتصف عام 2007، وتبلغ كلفة المشروع 3.5 مليار جولار حسبما أعلن في تموز (يوليو) 2007. وقد ثارت شكوك حول المشروع عندما قالت السعودية لشركتي توتال الفرنسية وأوكسيدنتال بتروليوم الامريكية اللتين تمتلكان حصتي أقلية في المشروع ان لديها تحفظات ازاء مسار خط الانابيب. وقالت دولفين وقتها انها لم تتلق أي اعتراض من السعودية، وان العمل في خط الانابيب الذي يسلك طريقا بحريا يوشك على الانتهاء. قال محللون حينذاك بأن المشروع سوف يمضي، وأن تعبير السعودية عن قلقها ما هو الا مناورة لدفع الامارات للالتزام باتفاق حدودي أبرم عام 1974، وتنازلت بمقتضاه عن شريط من الارض يصلها بقطر، وتقول الرياض بأن لها السيادة على المياه المجاورة للشريط البري في حين تقول الامارات إنها تتمتع بالحقوق البحرية. وفي الواقع، لم يكن هذا المشروع وحده الذي أثار تحفظات لدى السعودية، فهناك خطوط أنابيب أخرى يربط الكويت وقطر أثارت توترات مماثلة.

صحيح، أن تقارباً بدأ بين الدوحة والرياض بعد زيارة أمير قطر للرياض في أيلول (سبتمبر) وتلاها زيارة للملك عبد الله للدوحة في كانون الاول (ديسمبر) من نفس العام. وخلال عامي 2008 و2009 تبادل الطرفان الزيارات الدبلوماسية وتمت تسوية العديد من الملفات العالقة وأزيل قدر كبير من التوتر الحاصل في السنوات الخمس عشرة الماضية، رغم أن علاقات الدوحة وطهران بقيت شوكة في العلاقات بين الرياض والدوحة.

في الربيع العربي بدا كما لو أن الدوحة والرياض طويا صفحة الخلافات القديمة، وباتا على وفاق تام فيما يرتبط بمقاربة التحوّلات الكبرى التي تشهدها منطقة الشرق الاوسط منذ اندلاع الثورة في تونس وانتقالها الى مصر. فوراء كاميرا (الجزيرة) الحاضرة بكثافة في شوراع مصر بعد ثورة 25 يناير، ثمة قلق بدأ يتسلل الى حكومات الخليج قاطبة بعد تقارير تحدّثت عن احتمال انتقال الربيع الى السعودية وتالياً الى منطقة الخليج، الأمر الذي ساهم في شد العصب الخليجي وتفعيل المؤسسات الامنية والعسكرية المشتركة، وخصوصاً بعد التحوّل الاميركي في الموقف إزاء نظام حسني مبارك..

بدا المشهد معقداً بعض الشيء، لأن الحماسة القطرية للثورات العربية كانت موضع ريبة الثوار في كل أرجاء العالم العربي، ولم يكن النظام القطري مقبولاً كداعم للثورات، لأسباب عديدة أبرزها علاقاته المشبوهة مع الكيان الاسرائيلي، وكونه نظاماً شمولياً وعائلياً تسلطياً وفاسداً، ولم تكن سوى قناة (الجزيرة) الشافع الوحيد له في تظهير صورة أخرى عنه، قبل أن تصبح القناة نفسها جزء من معارك النظام القطري مع الآخرين..

عودة الى الخلاف السعودي القطري، وجدير القول بأنه لا يتصل بالشؤون الداخلية للبلدين خصوصاً بعد التسوية الثنائية التي جرت بين ولي العهد السعودي الأسبق الأمير سلطان بن عبد العزيز ونظيره القطري الشيخ حمد بن جبر بن جاسم آل خليفة في العام 2008، والتي أفضت الى توقّف الحملات الاعلامية بين البلدين، ولكن الخلاف يدور بدرجة أساسية حول موضوعات خارجية، والتي جاء الربيع العربي ليزيدها رسوخاً.. وبالتالي فإن المصالحة السعودية القطرية تتطلب تغييراً جوهرياً في منظومة علاقات اقليمية ودولية عملت قطر على بنائها لأكثر من عقد ونصف وأنفقت عليها عشرات المليارات من الدولارات.

منذاك، بدت قطر وكأنها تحاول ان تكون لاعباً فاعلاً في المسرح الدولي، عبر دور الوساطة والانخراط في أكثر الملفات تعقيداً، واقامة علاقات متميزة مع الدول والقوى المتناقضة مثل اسرائيل وايران واميركا وسوريا وحزب الله وحماس والسودان ولعبت دور الوساطة في اليمن ولبنان واثيوبيا والسودان وليبيا وفلسطين والصحراء الغربية ودارفور..

ولعب السخاء القطري على قادة ولاعبين وحكومات في بناء سمعة لقطر على مستوى العالم، وساهمت قناة (الجزيرة) في إحداث ثورة اعلامية في الشرق الأوسط بتجاوزها للإعلام النمطي العربي الذي ساد لعقود طويلة، حيث بدأت في تناول أشد الموضوعات حساسية وبقدر كبير من النقد.

ما كان يميّز قطر في سياستها الخارجية الى وقت قريب هو حيادها الظاهري، الأمر الذي سمح لها بأن تلعب دور الوسيط بين الدول والقوى المتخاصمة، باستثناء بعض الحالات النادرة التي كانت تصطف الى طرف ضد آخر، ولكن بصورة اجمالية كانت تحرص قطر على أن تكون الطرف النزيه الذي يحاول تسوية الخلافات وتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة.

ولنتوقف قليلاً عند المقاربة القطرية للملفات الخارجية، فهي وحدها القادرة على الكشف عن حقيقة الرؤية القطرية، إن وجدت، حيال قضايا ملحّة في الشرق الأوسط. بحسب ديفيد روبرتس في مقالته (فهم أهداف السياسة الخارجية القطرية) المنشورة في تموز (يوليو) الماضي في (Mediterranean Politics) فإن قطر تفتقر الى خطة استراتيحية واسعة النطاق (تحدد وتوجه السياسة الخارجية القطرية قبل وخلال أو بعد الربيع العربي)، ويضيء على بعض الأمثلة بقوله: (ليس هناك من خطط ميكيافيلية جارية على قدم وساق لدعم الإخوان المسلمين عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) أو تحمل الدعم ضد الجماعات السلفية بقيادة السعودية). بل وعلى الضد من الرأي الشائع يعتقد بأن قناة (الجزيرة) (ليست أداة بيد وزير الخارجية)، وأن رغبة قطر بترويج الديمقراطية (لا تجعل منها بلداً منافقاً أكثر من أية دولة أخرى)، واستطراداً يقول بأن (الأمير القطري ليس شخصاً متزلفاً لأميركا أو طهران..)..

ما يدفع روبرتس لتبني هذا الرأي الصارم هو ما يعتقده بأن ثمة تهاوناً في فهم عميق لقطر نفسها وهو ما يجعل الكم الهائل من المعلومات الخاطئة والمضللة والكليشيهات والبروباغندا حول السياسة الخارجية القطرية تطغى على الحقائق، ويرى بأن الوصول الى استنتاجات ثابتة أمر أكثر تعقيداً بسبب الطبيعة الخاصة المتحفظة للقطريين أنفسهم (والافتقار لأي نوع من أنواع الوثائق السياسية ذات المعنى، الأوراق البيضاء، التفسيرات الرسمية، والشفافية الكاملة في كل الحكومة).

يرى روبرتس بأن مفتاح فهم سياسات قطر الخارجية هو وضعها في سياق دولة قطر نفسها. أي فهم العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ساهمت في تنشئة بيئة صنعت فيها السياسات تلك وهي وحدها المدخل لفهمها.

وعلى الرغم من عودة الدفء للعلاقات بين الدوحة والرياض، أعاد الربيع العربي تفجير التوترات الكامنة، رغم الانسجام الظاهري بينهما في ملف الثورات العربية. فقد وصفت السعودية في كثير من الأحيان بأنها “الدولة المعادية للثورة” لدورها في قمع الحركات الديمقراطية في جميع أنحاء المنطقة، كرد فعل على مخاوفها من موجة الانتفاضات الشعبية التي تهدد مكانتها باعتبارها مرتكزا لنظام المحافظة التي حددت توازن القوى في المنطقة لأجيال. على النقيض من ذلك، إلا في البحرين المجاورة، انحازت قطر مع القوى الثورية.

حين اندلع الربيع العربي من تونس ثم مصر، كانت قطر عبر قناتها (الجزيرة) حاضرة ومحرّضة، فيما كانت السعودية تترقب ما يجري بحذر شديد، وكادت قطر تتميز عن بقية دول مجلس التعاون الخليجي باعتناقها لشعار الثورات العربية (الشعب يريد إسقاط النظام)..ولكن حدثاً مفاجئاً غير المشهد بصورة دراماتيكية، حين تبنّت ادارة الرئيس أوباما موقفاً إيجابياً من الثورة المصرية، وبذلك رفعت الغطاء عن نظام مبارك الذي تهاوى سريعاً. أغضب هذا الموقف المفاجىء القيادة السعودية التي عبّرت بصراحة عن أسفها لتخلي واشنطن عن حلفائها، ولحظنا كيف تنادت قيادات دول مجلس التعاون الى لقاء قمة عاجل في الرياض للتشاور حيال ما يجب فعله إزاء التطوّرات الجديدة.

سلسلة ثورات اندلعت بعد الثورة المصرية: اليمن في 11 شباط (فبراير)، والبحرين في 14 فبراير، وليبيا في 17 فبراير، وسوريا في 16 مارس 2011، وكان للقطريين مقاربة خاصة حيالها رغم ما قد يبدو توافقاً مع المقاربة السعودية حيال الثورة السورية على الأقل.

بالنسبة للثورة اليمنية، كانت السعودية صانعة المبادرة الخليجية وكانت تستهدف احتواء الثورة الشعبية وتفويت الفرصة على الثوار اليمنيين من إسقاط النظام، ومحاولة ضبط عملية نقل السلطة بما لا يسمح بخروجها من سيطرة السعودية..في الظاهر، كانت قطر شريكاً رئيسياً في المبادرة الخليجية، ولكن في حقيقة الأمر كانت تعمل على الضد من بنود المبادرة، بل أعلنت في 12 مايو 2011 عن انسحاب قطر من المبادرة الخليجية لحل الأزمة في اليمن. وجاء في تصريح لمصدر مسؤول بوزارة الخارجية لوكالة الانباء القطرية إن الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية قد أجرى اتصالاً هاتفياً مع عبد اللطيف الزياني الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية وأبلغه بهذا القرار، موضحاً له بأن (دولة قطر قد اتخذت هذا القرار مضطرة بسبب المماطلة والتأخير بالتوقيع على الاتفاق المقترح في المبادرة مع استمرار حالة التصعيد وحدة المواجهات وفقدان الحكمة مما يتنافى مع روح المبادرة الهادفة إلى حل الأزمة في اليمن في أسرع وقت بما يحقق طموحات الشعب اليمنى ويحفظ الأمن والاستقرار فيه).

في حقيقة الأمر، أن الأسباب المعلنة وراء انسحاب قطر من المبادرة الخليجية أبعد من مجرد مماطلة، بل إن السبب الجوهري هو شعور القطريين بأنهم باتوا جزءً من لعبة سعودية في اليمن، وإن النظام السعودي يريد تحويلهم الى مجرد (ختم) أو باصمين على مشروع خاص بهم. ولذلك، بدأ القطريون بتحرك منفرد في الملف اليمني، حيث فتحوا قنوات خاصة وسريّة مع جمعية الاصلاح وآل الاحمر المنشقين عن نظام علي عبد الله صالح، كما أجروا اتصالات مع الحوثيين وطلبوا منهم التنسيق مع جمعية الإصلاح للحيلولة دون السماح لتنفيذ السعوديين لمشروعهم..

بالنسبة للثورة البحرينية، لم يكن ثمة موقف قطري بارز ومتميز، ربما لأسباب تتعلق بعلاقة قطر بالغرب والولايات المتحدة وعدم وجود سبب وجيه يدفعها لتبني خيار مستقل، ولذلك جاءت تغطية (الجزيرة) للثورة البحرينية باهتة، باستثناء اخبار متقطعة يتم بثها للحفاظ على الحد الادنى من الحياد.

في الثورة الليبية، كان الموقفان السعودي والقطري متطابقين في العلن، فقد كان التمويل منهما متدفقاً لتغطية نفقات حملات الناتو الجوية على قواعد، ومخازن أسلحة، ومنشآت النظام الليبي السابق الى جانب تمويل الجماعات المسلّحة في المدن. وكانت قطر تتولى بيع النفط الليبي لحساب الثوار الليبيين، وتزويدهم بالأسلحة والمعدات والتدريب. بكلمة، كانت قطر المنسق العام للثورة الليبية، وكانت السعودية ملتزمة بتوفير الدعم السياسي والمعنوي واالمالي لحرب الناتو، حتى سقوط القذافي..

مالجديد في الأمر إذاً؟

ما يجري إغفاله عن عمد، هو أن الصراع المحتدم حالياً بين الجماعات المسلّحة والنظام الليبي، وفي الغالب فإن تلك الجماعات تنتمي الى المدرسة السلفية التي تحظى بدعم القطريين، فهناك خلاف عميق حيال السماح لهذه الجماعات بمواصلة عملها كقوى مستقلة عن الدولة ما يجعل الصراع على ليبيا مفتوحاً. يعتقد القطريون بأن دورهم في إسقاط نظام القذافي يمنحهم أفضلية في ترتيبات النظام الليبي. وكما يبدو، فإن السياسيين الليبيين في النظام الحالي يميلون الى التعامل مع النظام السعودي بوصفه اللاعب الأقوى في المنطقة. ولكن المشكلة تزداد تعقيداً حين يصبح الأمر على صلة بالبعد الإيديولوجي.

اليوم، حيث ترتفع نبرة التحذير من سيطرة الاخوان المسلمين في الخليج، تبدو قطر معنية أكثر من أي دولة خليجية أخرى بالإجابة عن علاقاتها بالإسلاميين في الخليج. فقدا بدا واضحاً، أن لدى قطر علاقات وطيدة واستراتيجية مع جماعات إسلامية عديدة في مصر وليبيا واليمن والأردن وفلسطين وسوريا ولبنان، وتحاول أن تشكل إئتلافاً من الاسلاميين خاصاً بها في مقابل السعودية التي تحتفظ بعلاقات تقليدية مع الإسلاميين السلفيين على وجه التحديد. وبخلاف ما يذهب اليه روبرتس من أن قطر تلهث وراء الرابحين، وأن الاسلاميين اليوم هم من يملكون الورقة الرابحة في عدد من البلدان، فإن حقيقة الأمر تفيد أحياناً عكس ذلك، فالدعم الذي تقدّمه قطر للإخوان المسلمين كان قديماً ونتيجة لانتقال قيادات من الجماعة الى قطر في السبعينيات من القرن الماضي، مثل الشيخ يوسف القرضاوي (مصر) وعلي الصليبي (ليبيا)، وقد مثّل الأخير حلقة الوصل مع الثوار الليبيين. في حقيقة الأمر، أن قطر سعت لأن تقلّد أو بالاحرى ترث الدور السعودي في استيعاب المعارضين القادة والرموز المنفيين من كل أرجاء العالم، حتى لم يعد بالإمكان التفكير خارج نطاق ما تعتبره القيادة القطرية تفوّقاً في مقابل نظرائها في دول مجلس التعاون الخليجي..

على أية حال، فإن وجود عدد كبير من المعارضين القادة عرب وأجانب لا يعني أن القطريين يملكون استراتيجية استيعاب أو حتى استثمار، بقدر ما هي تلبية لطموح مبالغ فيه يفوق قدرة وحجم القطريين على الاستيعاب. ليس اليوم في دول مجلس التعاون الخليجي من لديه رغبة أو نزعة المناكفة والمنافسة للسعوديين كما هي لدى قطر. وللإنصاف، فإن الاخيرة فرضت نفسها على السعوديين كلاعب رئيسي في الشؤون الإقليمية والدولية ولابد من التنسيق معها. ربما كانت التسجيلات المسرّبة لرئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري حمد بن جاسم حول خطة تغيير النظام السعودي، وتقسيم البلاد لم تكن مزحة عابرة وإنما هي تعبير حقيقي عن رغبة قطر، وربما دول أخرى في مجلس التعاون الخليجي، بتقليص القوة السعودية الى أدنى حدودها، حتى تكون على حد سواء مع بقية الدول الاعضاء.

اليوم، تبدو العلاقات القطرية السعودية في وضع مشكوك، فبالرغم من وضع النظام السوري قطر والسعودية الى جانب تركيا في جبهة واحدة ضده في دعم الجماعات المسلّحة في سوريا، الا أن السؤال الكبير سوف يبقى ماذا سوف تجني قطر من دعمها لتلك الجماعات في سوريا.

سعت قيادة قطر الى أن تخفّف من تداعيات انخراطها في الأزمة السورية، فقد أصرّ أمير قطر على المشاركة في قمّة دول عدم الانحياز في طهران في نهاية آب (أغسطس) الماضي.

في المقابل، فإن الايثار الذي تميّز به القطريون منذ حرب يوليو على لبنان عام 2006، ومروراً بالحرب على غزة في نهاية 2008 ـ يناير 2009، والمساهمة السخيّة في إعادة اعمار لبنان التي دفعت اللبنانيين الشيعة رفع شعار (شكراً قطر)، ما لبث أن تحوّل في نظرهم الى ما يشبه (الطعم) الذي بلعوه كيما يدفعوا ثمنه في سوريا حين انقلبت القيادة القطرية لصالح الشعب السوري في ثورته بطريقة لافتة وصادمة للنظام السوري الذي نظر الى الموقف القطري باستغراب ودهشة.

الربيع العربي حمل معه بشارة زوال الأنظمة الاستبداداية العلمانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لصالح نهضة الأحزاب الاسلامية، وأشعل ذلك تنافساً مفتوحاً وشديداً لكسب قلوب وعقول العالم السني بين السعودية وقطر. وسعت كل منهما التأثير في التحوّلات السياسية في شمال أفريقيا وبلاد الشام وفقاً لشروط كل منها الخاصة، ولتعزيز المصالح الجيوسياسية ودرء تداعيات الثورات العربية عنها..

تشترك قطر والسعودية في كونهما نموذجين عقيمين، وأن نجاح الديمقراطية فيهما يتطلب إطاحة البنى الحاكمة بصورة شبه كاملة. ولكن الفارق، أن قطر بدت متقبّلة أكثر من السعودية لفكرة حكم الاسلاميين ودعمها لهم لتحقيق هذا الهدف. ولاشك، أن هذا التباين يستبطن تهديداً للدور التاريخي للمملكة ونهاية درامية لقوتها كحصن للمحافظة الاسلامية في الشرق الاوسط.

تحمل العائلة المالكة في السعودية نظرة قاتمة إزاء الانتصارات الديمقراطية وخصوصاً من وصول الاخوان المسلمين الى السلطة ودورهم المتخيّل في مختلف أرجاء المنطقة. إن موقف الإخوان المسلمين من السياسات الديمقراطية يعتبر تهديداً للنظام السعودي، لأن ذلك يشجّع بقية الاسلاميين على الاقتداء وتقليد الجماعة. ديفيد أوتاوي، الباحث البارز في مركز وودرو ويلسون، يوضح: «في المملكة العربية السعودية، لا توجد أحزاب سياسية، ولا نقابات للعمال ومؤسسات المجتمع المدني قليلة جداً». كما يكتب «في مصر، إنها تقريبا عكس ذلك تماما. هناك الكثير من الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمجتمع المدني. يقبل الإخوان المسلمون واقع مصر - الواقع هو رفض السعودية لمجتمعهم» في المقابل، هناك تعارض حاد بين الاخوان المسلمين في مصر مع نظام الحكم في السعودية، وهو ما تعتبره دمية منحلة وفاسدة من القوى الغربية.

على النقيض من ذلك، فقد عززت قطر تحالف متجانس مع الإخوان المسلمين. تغطية الثورة المصرية من خلال قناة (الجزيرة)، ساهمت بلا شك في سقوط الدكتاتور حسني مبارك. «أصبحت الاتصالات ودرجة التنسيق عالية.. يمكن الجميع مشاهدة قناة الجزيرة ببساطة لمعرفة أين ومتى يحدث والاحتجاجات «. فقد كان وجود قناة (الجزيرة) في البيوت ضرورياً لمعرفة مسار ومصير الثورات وكانت القناة (نقطة محورية للجماهير في مكان المشاركة في الاحتجاجات الثورية) حسب مارك لينش، مدير معهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة جورج واشنطن.

مؤشرات النفوذ القطري في الثورة المصرية ظهرت بعد سقوط حسني مبارك. ففي مارس 2011، زار مرشّح الاخوان المسلمين خيرت الشاطر قطر لعدة أيام لمناقشة التنسيق بين الاخوان وحزب الحرية والعدالة من جهة وقطر من جهة اخرى في الفترة المقبلة. وكانت تأمل قطر في تحقيق مكاسب سياسية وشعبية في الانتخابات الديمقراطية في مصر.

الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي زار الرياض ولم يزر الدوحة، وكانت الاخيرة تطمح بأن تكون هي المحطة الثانية في جولته الأولى خارج مصر، ولكن لم يمنع ذلك أمير قطر من القيام بزيارة الى مصر لتهنئة محمد مرسي بفوزه بالرئاسة في مصر، وإعلانه عن تقديم ملياري دولار وديعة في الخزينة المصرية لدعم الاقتصاد المصري. ولكن قيادة مصر الجديدة لم تشأ أن يكون الدعم القطري عامل تخفيض لمكانة مصر، التي عبّرت على لسان قيادتها بالامتنان للدعم القطري ولكن ليس على حساب دور مصر التاريخي. وكان مرسي قد أنكر وجود دعم قطري لحملته الانتخابية، كما استبعد القطريين من اللجنة الخاصة بمعالجة الأزمة السورية التي ضمّت مصر وتركيا وايران والسعودية.

في تونس، بقيت العلاقة بين الدوحة وحزب النهضة الاسلامي راسخة، وكانت أول زيارة قام بها رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي بعد الانتخابات هي لقطر. وقد أصدر الشيخ الغنوشي تصريحات شديدة اللهجة ضد السعودية ونظامها وكذلك الجماعات السلفية المدعومة منه بسبب ما قامت به من محاولات لتخريب العملية الديمقراطية. في المقابل، تحرّكت جماعات سياسية تونسية في الشارع ضد التدخل القطري في الشؤون الداخلية لتونس. في المقابل، لم يقم الشيخ راشد الغنوشي بزيارة للمملكة منذ الثورة حتى اليوم. ويتذكر الغنوشي بمرارة كيف أعاده رجال الأمن السعوديون قبل ثلاثة أعوام على الطائرة العائدة الى لندن من جدة، حيث جاء مرتدياً لباس الحج وقد حصل على تأشيرة من القنصلية السعودية في لندن. يضاف الى ذلك، لايزال الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي يتمتع بحق اللجوء السياسي في السعودية فيما تتصاعد المطالب الشعبية بمحاكمته في تونس.

بدت واضحة المعادلة التالية: في مواجهة صعود الاسلاميين المعتدلين التابعين لجماعة الاخوان المسلمين، تتجه السعودية لدعم السلفيين المنافسين للإخوان، وقد تضطر في لحظة ما الى دفع القاعدة الانضواء في جسد السلفيين..الفارق بين الاخوان والسلفيين يرتبط بالقضايا الاجتماعية والدينية والسياسية، فبينما يخصّص السلفيون جهودهم لمعالجة القضايا الاجتماعية والدينية، فإن الاخوان يميلون بدرجة أكبر الى الانخراط في الشأن العام، والسياسي منه على وجه التحديد. وقد ظهر من تجربة الاخوان في البرلمانات السابقة بأن تركيزها ينصبّ بدرجة أساسية على السياسة وليس القضايا الدينية والثقافية والاجتماعية. وقد صرّح أحد قادة الاخوان في اعقاب انتخابات 2011 ـ2012 بأن أولويات حزبه كان (الإصلاح الاقتصادي والحد من الفقر..لا البيكينيات والخمر)، أما السلفيون، فعلى النقيض من ذلك، ووفقاً لكريستوفر ديفيدسون فيرى بأن أهدافهم هي (العودة إلى الحجاب في الجامعات والمكاتب العامة)، و(الفصل بين الجنسين والصلاة العامة في الجامعات)، و(إلغاء الأحزاب السياسية والانتخابات والتعدّيات على سيادة الله).

لاشك أن صعود الجماعات السلفية في الانتخابات البرلمانية سواء في مصر أو تونس أو ليبيا يعود الى الدعم المالي الخليجي، وإن ثبات التمويل يجعل من الجماعات السلفية منافساً جدياً للاخوان المسلمين. في مصر، على سبيل المثال، كان الدعم السعودي للسلفيين المصريين روحياً ومادياً، فقد زار مشايخ سلفيون سعوديون مصر قبل وقت قصير من الانتخابات البرلمانية وشجّعوا الناس على المحافظة والاستفادة من الانتخابات لجهة (إقامة دولة اسلامية) وليس الى (الخروج من الانتخابات خالي الوفاض) أو (ترك الأمر لأولئك الذين لا يعيشون الحياة الدينية).

بالنسبة للرياض، ليس الربيع العربي أول حركة في منطقة الشرق الاوسط التي توتّر النظام السعودي، فقد سبقها حركات أخرى مثل صعود القومية العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وكذلك الثورة الايرانية عام 1979، وجميعها كانت تسدد بصورة مباشرة أو غير مباشرة ضربات موجعة وعنيفة لدور الرياض كمرساة للنظام الإقليمي.

وعلى طريقة وضع الرهانات على الخيول المتنافسة، فقد أصبحت السعودية وقطر أبرز المراهنين في العالم العربي. وإن صعود نموذج الاسلاميين في العالم العربي يعني أن قطر تكسب الرهان، الأمر الذي يزيد في استياء السعودية. ومع ذلك، يمكن أن يكون هناك تأثير لأطراف أخرى مثل مصر والعراق، وإن امكانية اندلاع ربيع عربي في منطقة الخليج (البحرين والامارات) فإن الدوحة، كما الرياض، بحاجة لأن تكبح جماح طموحاتها الدولية ومعالجة عجزها الديمقراطي في الداخل.

في الواقع، عندما يتعلق الأمر بالديمقراطية في الخليج، فإن قطر والسعودية هما ممالك لا متنافسين لأن كليهما مازالا في عداد الانظمة الشمولية التسلّطية.

الصفحة السابقة