الدولة: تحدي الهوية والمشروعية

الهوية والمشروعية هما جزئيتان متصاهرتان تسهمان بشكل كثيف في إرساء أسس العلاقة بين الدولة والمجتمع، بل قد يكون إحداهما مرآة عاكسة للأخرى، وإن الاخلال بأحديهما يؤدي بصورة تلقائية الى الإخلال بالأخرى.

فهوية الدولة بمكوّناتها دالة على درجة المشروعية الحائزة عليها، فمكونات الهوية تحدد المساحة التي تتمسرح عليها مشروعية الدولة، فإذا كانت هوية الدولة ذات مكوّنات مشتركة بين إجمالي السكان الاصليين، تكون مشروعية الدولة مكتملة والعكس صحيح أيضاً، بمعنى إذا كانت هوية الدولة مستخلصة من مكونات خاصة (الاقليم، القبيلة، المذهب) فإن مشروعية الدولة تقع داخل الفضاء الخاص بهذه المكوّنات.

فالشعور بالانتماء الى وطنٍ يتحقق من خلال مشتركات عامة ثقافية وتاريخية ومجتمعية منصهرة في هوية الدولة، فهذه المشتركات تعكس نفسها بصورة طبيعية في الجهاز الاداري للدولة، وفي برامجها التنموية، وسياساتها العامة، وعليه تحقق في ذاتها شروط مشروعيتها، أي في آهليتها للحكم.

في تجربة الدولة السعودية، تم القضاء على الهويات الفرعية عبر تفكيك البنى الاجتماعية التقليدية، ولكن ليس لجهة تشكيل هوية وطنية عامة، بل لفرض هوية ذات مكوّنات خاصة (العائلة المالكة، الاقليم، المذهب)، وبالتالي فصلت هذه الهوية الخاصة الغالبية العظمى من السكان عن الدولة، وبالتالي فالشعور بالانتماء للدولة لم يضمحل فحسب، بل بعث الانتماءات الخاصة.

إن بزوغ الهويات الفرعية على حساب الهوية الكلية تمثل إحدى تعبيرات الرفض لهوية الدولة. فحين تفشل الدولة في بلورة هوية وطنية جامعة تقوم على الادماج الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، تجد الهويات الخاصة محفّزات قوية على الانبعاث.

وحين تؤسس الدولة مشروعيتها على مكوّنات شديدة الخصوصية، تفقد هذه المشروعية قدرتها على الصمود حين تضعف الدولة وتخضع مكوّناتها للفحص العام، إذ لو كانت مشروعية الدولة مستمدة ونابعة من مكوّنات وطنية لأصبح مصير الدولة ملتحماً بمصير الامة الممثل لها.

حديث ولي العهد عن ضعف الحس الوطني لكثير من أفراد الجيل الجديد يفصح عن أزمة الهوية وتالياً أزمة مشروعية الدولة، ولكن الانشغال بتشخيص جذور هذه الازمة وأسبابها مازال مستبعداً في التفكير الاستراتيجي للدولة. فأزمة الهوية تمتد بعمر الدولة السعودية وكذا الحال بالنسبة لمشروعيتها، لأن الدولة لم تقم على أسس وطنية، ولم تبشّر بثقافة مشتركة بين عموم السكان، بل كان هناك تأكيد مسرف على خصوصية الدولة، وأنها نشأت على دعوى الحق التاريخي للعائلة المالكة في ملك العباد والبلاد، وعلى الاعتبار الديني الذي جرى تفسيره بإسهاب على أنه إمتثال حرفي لأحكام الشريعة المستمدة من مذهب الامام أحمد بن حنبل، وعلى المكوّن الاقليمي/النجدي مركز نشأة السلطة والمذهب. هذه المكوّنات الخاصة مثّلت عوائق كبرى أمام الاندماج الشامل للجماعات غير الحاملة لتلك المكوّنات، وبالتالي لم تجد هذه الجماعات بدّاً من الالتصاق بالذات الخاصة، لأن في الهوية المفروضة عليها دحراً لمشاعرها وثقافتها وموروثها، ولأن الهوية الجديدة كاسحة وذات نزعة إستئصالية، ولذلك كانت ردود أفعال الجماعات الأخرى شديدة، فالإذعان لهوية مفروضة لم ولن تكون خيار هذه الجماعات وخصوصاً حين يراد تحقيقها عن طريق القوة والاذلال.

في ظل ضعف الدولة أصبحت الهويات الخاصة قادرة على التعبير عن نفسها بشكل صارخ أحياناً، إذ أن هوية الدولة إرتبطت بفترة إزدهار إقتصادي وسطوة أمنية، ولكن مع تآكل أسس الدولة الريعية وسقوط أسطورة القبضة الأمنية، أفقر هوية الدولة، وتالياً مشروعيتها. وللأسف الشديد، أن المعالجات الساذجة لأزمة الهوية في السعودية عن طريق منهج (الثقافة الوطنية) الذي أقرته الحكومة كمادة تعليمية في المدارس كانت أشبه ما تكون بصياغة ثانية للهوية الخاصة.

لا ندري على وجه التحديد ما إذا كانت هناك فرصة متبقية أمام الدولة ام لا، وذلك لإنتاج هوية وطنية جامعة تقوم على إستراتيجية دمج حقيقي للجماعات في الجهاز الاداري للدولة، تكون انقاذاً للهوية والمشروعية.

الصفحة السابقة