دولة الوصاية

الوصاية في العرف السعودي القبلي والسياسي لا يبطن مجرد الشعور بالفوقية والتميّز، رغم أنه شعور عميق لدى أمراء آل سعود، ولكنها تعني أيضاً نزعة الاستحواذ المستفحلة لدى الأمراء، الى درجة تجعل من بسط اليد وفرض السيطرة على كل ما يمكن الوصل اليه من مال وأرض وعقار وبستان ثم تعلو ذلك الى حكومات ودول عادة جارية و متوارثة..

مثال بسيط لتوضيح ذلك: حين نتأمل عميقاَ في الخلافات الحدودية بين المملكة السعودية والدول المجاورة لها: اليمن، العراق، الكويت، الامارات، قطر، البحرين، عمان، الاردن، لا تجد هناك ما يستحق بقاء ملف الاتفاقات الحدودية عالقاً لعقود طويلة سوى إصرار آل سعود على حقوق مزعومة لهم داخل أراضي هذه الدول، ولذلك تبقى الاتفاقات بدون حسم، وقد تتعطل مشاريع استثمارية وربما تلغى بسبب رفض اعتراف آل سعود بحق هذه الدولة وتلك في العمل على هذه البقعة أو تلك..رغم أن الخلاف قد لا يتجاوز قطعة أرض صغيرة أو لا يستحق هذا القدر من التعطيل الطويل الأمد..

القضية لا تقتصر على مجرد خلاف حدودي، ولكنها النزعة الوصائية التي تعبّر عن نفسها في التعطيل، والخلاف، والإلغاء..فهناك عشرات الأمثلة على خلافات بين السعودية والامارات على واحة البريمي، أدّت الى تعطيل مشروع مد جسر حيوي بين الامارات وقطر بحجة أنه يتجاوز على السيادة السعودية، وقد تابع كثيرون خلاف مركز الخفوس الحدودي مع قطر في العام 1992، والذي أدى الى مقتل شخص من حرس الحدود القطرية وجرح إثنين آخرين، كما عطّلت السعودية مشاريع استثمار بترولية في اليمن بسبب الخلاف الحدودي، وكذلك الحال مع الكويت، وما نجم عنها من انقسامات ومصادرات للأراضي حتى أن بعض المواطنين الكويتيين وجدوا أنفسهم داخل الأراضي السعودية بعد أن كانوا في وقت سابق يعيشون داخل الحدود الكويتية، بسبب المصادرة السعودية..

حين ننتقل من الحدود الى السياسة، تتجلى نزعة الوصاية في أبشع صورها، فآل سعود يعتقدون بأن لهم حقوقاً إستثنائية تجعلهم أوصياء على هذه الأمة، ويتصرّفون كما لو أن شعوب الشرق الأوسط ودوله رهن إشارتهم، ولا يجوز لهم التصرّف دون كسب رضاهم..وهنا نستحضر السبب الجوهري في الخلاف المكتوم بين الرياض والدوحة، وهو خلاف لا يتعدى فكرة الوصاية، التي تمرّدت عليها القيادة القطرية وصارت تتصرف كما لو أنها ندُّ أو منافس لآل سعود في هذا الصدد..ومشكلة القطريين أنهم باتوا يلعبون نفس اللعبة السعودية في الوصاية، منذ تمرّدوا على (الشقيقة الكبرى) بعد حرب الخليج الثانية، وتوقيع اتفاقية الدفاع المشتركة مع الولايات المتحدة التي حرّرت الدوحة من (الوصاية) السعودية، ونقلت الوصاية الى واشنطن، مع هامش تحرّك أوسع..

في مصر، إبان عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، كانت السعودية قد فرضت وصاية متقنة عبر المساعدات التي تقدّمها، ونجح مبارك في ضبط التيارات السياسية الدينية والعلمانية لفترة طويلة، ولكّنه أصيب بعدوى الوصاية فقرر اعتماد مبدأ التوريث، فأودى بحياة نظامه السياسي، وحين رفض نظام ما بعد ثورة 25 يناير شروط الوصاية السعودية، بقيت مصر تعاني من أزمات اقتصادية، وصدامات طائفية وفلتان أمني، وتجييش مذهبي غير مسبوق، يقوده التيار السلفي المرتبط بالسعودية..تقول للمصريين لا مساعدات بدون وصاية، وسوف تبقى مصر هكذا أمام خطر الافلاس الاقتصادي طالما رفضت الخضوع لمبدأ الوصاية..

في اليمن، تبدو الوصاية السعودية أقبح مما نتوقع، فقد سلبت منها ليس مجرد السيادة، بل حتى الكرامة والعزّة، وصار المال السعودي ينطق على ألسنة الطبقة الحاكمة من مدنيين وعسكريين وأمنيين، وحتى زعماء القبائل، وقادة الاحزاب، والجمعيات، والمعاهد الدينية، والمراكز..يخبر اليمنيون بمرارة أنهم لا يشعرون بوجود دولة يمنية مستقلة، بل هي خاضعة بكامل مؤسساتها السياسية والامنية والعسكرية والخدمية للوصاية السعودية..

رفض الأردن الاستجابة لشروط الوصاية السعودية حين طلب منه فتح الحدود مع سوريا لدخول المسلّحين، واكتفى في فترات سابقة بمجرد الدعم اللوجستي والانساني، وتزايدت الضغوطات الاقتصادية عليه، وأصبح الملك نفسه هدفاً لشعارات المتظاهرين، فقرر النزول عند رغبة السعودية بالحصول على مساعدات اقتصادية بقيمة 4 مليارات دولار بشرط تسهيل مرور المقاتلين الى داخل سوريا..فاختار ملك الأردن اللعبة المزدوجة: تسهيل المقاتلين من جهة، وإبلاغ المخابرات السورية عن طرق تسلّلهم من جهة ثانية.

يتحدث العراقيون عن أموال سعودية تتدفق الآن على المرشّحين للانتخابات، وترّد الجماعات المرتبطة بآل سعود بالسلاح على السياسة، وعلى طريقة الصبيان في ملاعب الهواة (إما ألعب أو أخرب الملعب)، فإن الوصاية السعودية تترجم نفسها في سيارات مفخخة، واحتراب طائفي، واستدراج لمشاريع انفصالية، وكل ذلك لأن العراق قرر السير بعيداً عن وصاية ال سعود.

أينما تضع إصبعك على خارطة الشرق الأوسط، من البحرين وحتى المغرب، لا تجد سوى أشكال وصاية متعددة..ومن سخرية السياسة والوصاية أن دولة مثل البحرين يتم صنع قرارها وسياساتها العامة في الرياض وليس في المنامة، حتى أن من يريد حلحلة ما يجري في البحرين يجب عليه أن يحجز الى الرياض كيما يحصل على إجابة حاسمة حيال ما يجب أن يكون عليه في البحرين..

في لبنان وسوريا وفلسطين..وفي أفغانستان وباكستان، ثمة وصاية سعودية يخبرك عنها أهل هذه البلدان، تارة في السياسة والمال، وأخرى بالسياسة والسلاح، وثالثة بالسياسة والغذاء، ورابعة وخامسة..ولكن هذه الوصاية سوف تلفظ أنفاسها قريباً، لأن زمن الشعوب بدأ.

الصفحة السابقة