إغتصاب الوعي.. مشهدد يتكرر

صناعة الخصم، والزعيم، والهزيمة

أسامة بن لادن، صدام حسين وأسماء أخرى عديدة.. ثمة ما يجمع بين هذه الشخصيات، أنها نهبت رصيداً شعبياً هائلاً، ولكنها قبل ذلك دخلت في تحالف مع الولايات المتحدة، ثم تخاصمت وأخيراً دخلت في مواجهة عسكرية معها، وخرجت من الحرب مهزومة بطريقة مثيرة للشفقة لدى الانصار والنقمة لدى الخصوم.

كل هؤلاء منتجات غير شعبية، بل وجدت الأمة نفسها أمام معلب كاريزمي يخترق الأسواق ويفرض نفسه على جمهور المستهلكين، بسبب الضخ الدعائي الكثيف الذي حظيت به هذه الشخصيات. وقد نجحت هذه الشخصيات في تبديل مراكز جاذبية قضايا الأمة من إتجاه الى آخر.

مراكز الجاذبية السياسية تبدّلت بصورة فجائية ودراماتيكية فانتقلت قضية الأمة الى كوسوفو، وكابول، ثم عادت مشوّهة الى بغداد والقدس..إنها عملية عبث بالوعي يراد منا جميعاً الاستسلام لها واطلاق أدوات العابثين كيما تفرض علينا قضيتنا وخصمنا وزعيمنا وصولاً الى هزيمتنا.

كل ما تم ليس من صنعنا، من الخصومة، الى الزعامة الى القضية والى المعركة التي فرض علينا خوضها وصولاً الى الهزيمة التي نتكبدها. إنها منظومة تدابير لا تمت الينا بصلة، بل هي من صنع أشخاص نهبوا مشاعرنا، ووعينا، وقضيتنا ليملوا علينا نمطاً في التفكير ليس من لوننا ولا من واقعنا.

ونكاية بنا سقطت النخبة الثقافية والسياسية العربية تحت دوي القصف الاعلامي المتواصل عبر الفضائيات، التي راحت توهم نفسها وجمهورها بأن المعركة الجارية هي معركة الأمة، وغاب عن النخبة بأن الهزيمة التي ستقع ستؤدي الى إنفلاش روح الأمة، فالاحباط الناتج عن هزائم متكررة منذ حرب 1967 ومروراً بحرب الولايات المتحدة مع تنظيم القاعدة وحكومة طالبان واخيراً مع النظام العراقي، لم يسفر سوى عن تحطيم للروح، وإقباراً لجذوة أمل متبقية بداخلنا بقدوم فجر التغيير.

أي عنجهية هذه التي تسوقنا من رقابنا الى المقصلة وتشطب دولاً الواحدة تلو الأخرى، من أفغانستان الى العراق والحبل على الجرار. أليست هي الجنوح المستبد الى الظهور والعظمة الواهمة، هي التي تغذي الحماقة الكارثية لدى هؤلاء الزعماء السرابيين، الذين حصدوا من السمعة والشعبية ما يكفي لخوض غمار الحروب الخاسرة، حتى صاروا كالفئران يندسون في الكهوف والبيوت وربما يتنكرون في زي النساء والشحاذين، تاركين من خُدعوا مقروحين، ومفجوعين بفعل النيران الصديقة والمعادية.

كلمة مفقودة عن العراق

في غمرة انهمار الدعاية المناوئة للاحتلال الاميركي للعراق، نفتقد الرؤية المتوازنة التي تضع الامور في نصاب التحليل الواعي، حتى لا نخدع مرتين، مرة على يد الزعيم السرابي وأخرى على يد الاحتلال. فكل الذين يكرسّون تقاريرهم الصحافية على أخطاء الاحتلال، وهي بدون أدنى شك أخطاء كارثية وغير مبررة على الاطلاق، يحاولون عن عمد وسابق إصرار إخفاء الحقيقة الكبرى عن نظام يمثل أسوأ تجربة حكم في تاريخ البشرية حتى الآن. ندرك لماذا هذا الاصطفاف العربي غير المسبوق بين الحكام العرب الواقف مع رفيق الديكتاتورية والشمولية، والخوف من نمو المشروع الديمقراطي في العراق، ولكن ما لاندركه بالتفاصيل هو هذا التغرير الاعلامي، ما لم تكن النقود قد فعلت فعلها المعهود في محطات فضائنا المسموم.

كنا نتوقع أن تكشف فضائياتنا العربية جانباً من مأساة شعب العراق على يد جائره المعتوه والذي ولغ في دماء الابرياء حد السفه. لماذا غابت محنة العراقيين عن فضائياتنا ولم تظهر الا أيام الاحتلال..هل كان العراقيون ينعمون بالرفاه والحرية والديمقراطية في عهد الرئيس المعفون حتى نبكي على أيام المجد الخوالي، ونرجو عودة أحلام العراقيين.

ومن أجل أن تصحو ذاكرتنا المستباحة، وحتى نتذكر تجربتنا مع حكامنا الأشاوس، وهم ينهلون من ذات الكأس الآسن، لابد لنا من كلمة..إن الشعب العراقي ظل وطيلة ثلاثة عقود يرزح تحت نير نظام دموي فريد في العالم، حتى أبتكر الباحثون أوصافاً خاصة بالعراق في عهد النظام الصدامي فأطلق أحدهم عليها بـ (جمهورية الخوف) فالديكتاتورية الغاشمة التي حكمت العراق قبل التاسع من أبريل لم تشبه أياً من النماذج السائدة في أنظمة شمولية ودموية كثيرة في المنطقة والعالم, فهو نموذج سلطة على شكل عصابة تدير منظمة سرية ولم يشهد التاريخ مثيلا لها.

نظام يقتل رفاق الدرب والاقرباء والاصدقاء والاطفال والنساء والشيوخ وصولاً الى الابرياء ممن ليس لهم جرم وجريرة سواء الاختلاف في الرأي والموقف مع ايديولوجية الدولة..قطع الآدان والالسن والايدي والارجل وابتكر وسائل في التعذيب لا تخطر على بال بشر..منها أنه أمر بأن يدفع بجماعات من المعتقلين الى المختبرات للتجارب البشرية، فتقتطع أعضاء منهم حتى الموت، فيما كان يدفع بآخرين الى جبهات الحرب ضد ايران ليتحولوا الى كاسحات بشرية للألغام.

حربان خارجيتان وحروب داخلية راح ضحيتها 3 ملايين، وهناك من يتحدث الآن عن 6 الى 8 ملايين شخص مفقود استناداً على ملفات جهاز الأمن العراقي السابق. مقابر جماعية تبعث الرعب لهول ما وجد فيها وفي الوقت نفسه تثير الحزن والغضب من نظام يسخر من كل قيمة إنسانية حتى أن بعض ضحايا المقابر الجماعية من الاطفال ماتوا وهم يمسكون بأحجار البلور، أو لعبة اطفال، وبعض النساء دفن بفساتين العرس. هذه صورة مقتضبة من نظام لا يستحق حتى البقاء في مزبلة التاريخ.. 

لقد عجز العراقيون بعد أن أعيتهم كل الوسائل للتخلص من النظام فتطلعوا الى منقد خارجي فمرة أيران وسوريا والسعودية والكويت أخيرا أمريكا..فكانوا يريدون التحريروالحرية والحياة ليتسنى لهم التكفير الصحيح ومقاومة النظام الفاسد أو مقاومة الاجنبي فلا مقاومة بدون حرية ولو نسبية.

بعد أن وقعت الحرب خارج إرادة العراقيين، أصبحوا أمام واقع جديد ومعادلة مختلفة، فإنهم كانوا يطمحون للتخلص من الديكتاتورية أولا ثم الاستقلال ثانيا.. وكانوا يدركون بأن مقاتلة قوات التحالف في بادىء الاحتلال قد تؤدي الى عودة الاستبداد، فقرروا ان يتخلصوا من الاستبداد ثم الاستعمار. كل عراقي يدرك أن الامريكان هم من دعم صدام وجاء به الى الحكم وهي التي خذلت العراقيين في الانتفاضة المعروفة.

لم يرَ العراقيون من ينصرهم طيلة معاناتهم الطويلة من العرب والمسلمين لذلك قبلوا بواقع مفروض عليهم بقدوم الأميركيين للعراق في هيئة احتلال ولكنه سيأتي بزوال غاشمهم..فالزعيم السرابي قد وفّر كما باقي الزعماء السرابيين المحشويين زيفاً كل مبررات اجتياح العراق، ويوفّر كل مبررات زواله غير مأسوف عليه..

الصفحة السابقة