(داعش)، (النصرة) و(الجبهة الاسلامية)..

لعْـنَة سوريا.. أم لعـنة الوهابية؟

يحي مفتي

لا يختلف داود الشريان عن الشيخ سلمان العودة في النقمة على تجربتي أفغانستان والعراق وما جرّته من ويلات على الشباب السعوديين بسبب انخراطهم في القتال العبثي المفضي الى موتهم السادي، وحرمانهم حتى من «كرامة الميت» أي الدفن بطريقة لائقة، فكثير منهم تتفسخ جثثهم في العراء، لأن المعارك التي يخوضونها تنتهي في الغالب الى موت جماعي ودون علم أهاليهم، الذين قد يمضى زمنٌ طويلٌ قبل أن تصل إليهم أنباء مقتل أبنائهم.

وبصرف النظر عن التجاذبات الاعلامية بأغراضها المعروفة، فإن لعبة تحميل وتقاذف المسؤوليات باتت معروفة، فبعد كل نهاية مأساوية لمغامرة يخوضها النظام السعودي، ويدفع المشايخ لتوفير الغطاء الديني لها، يتنصّل هو من المسؤولية ويترك المشايخ أمام هجوم إعلامي كاسح، وهو ما حصل قبل صدور الأمر الملكي في الثالث من فبراير الجاري وبعده، حيث يتم تحميل من يصفونهم مشايخ التحريض كامل المسؤولية، بينما يخلي آل سعود مسؤوليتهم عن هجرة آلاف الشباب من مدنيين وعسكريين للقتال في سوريا.

في 28 أكتوبر 2013، وجه المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ انتقادات شديدة اللهجة للدعاة الذين يحرّضون الشباب على الذهاب إلى الجهاد بينما يمنعون أبناءهم عنه، مؤكداً أنهم يزجّون بهؤلاء الشباب في الهاوية. الدعوة جاءت بعد مرور قرابة عامين على إطلاق الشيخ المثير للجدل محمد العريفي دعوة للجهاد في سوريا. موقع (العربية) لم يشأ الكشف عن هوية الدعاة ولكّنه أشار اليهم بطريقة إيحائية وبطريقة التلميح الأقرب الى التوضيح، بحيث يمكن الكشف عن أسمائهم بسهولة، حيث قال عن العريفي الذي أطلق دعوة الجهاد من مسجد (عمرو بن العاص) في القاهرة (قبل أن يتجه إلى أوروبا لقضاء إجازته السنوية) في صيف 2013، فيما قالت عن الشيخ سلمان العودة (وكان قد سبقه آخر بجواز القتال في العراق، وعندما علم بذهاب ابنه طلب من السلطات السعودية ردَّه بأسرع وقت) في إشارة الى ما حصل لإبنه معاذ من السفر للجهاد في العراق في نوفمبر 2004، بينما قال عن الشيخ العرعور (بينما حرّض ثالث على القتال في سوريا، وعندما سُئل عن أبنائه: ولماذا لا يذهبون، قال إنهم يجاهدون بجمع المال)، وتحدّث عن الشيخ سعد البريك، وقال عنه بأنه (طالب معتصمي رابعة العدوية بالصمود وتحمّل الشقاء، فيما كان يتنقل هو بين عواصم العالم يلقي محاضرات عن تطوير الذات ويقيم أولاده في أميركا).

وقد طالب الدكتور أحمد الغامدي، الباحث الشرعي، وصاحب الفتاوى المثيرة للجدل في الوسط الوهابي كقوله بتحليل الاستماع للغناء وجواز الاختلاط للضرورة، وأن صلاة الجماعة سنّة وليست فريضة واجبة.. طالب بمحاكمة هؤلاء الدعاة من قبل ولي الأمر (لأن ما قاموا به يؤدِّي إلى فتنة كبيرة وانقسام داخل المجتمع).

وكان العريفي الذي تجوّل في تركيا ثم مصر قبل أن تحط رحاله في لندن، قد تعرّض لانتقادات شديدة وأطلق مغرّدون عليه وصف (مجاهد مخدّة)، في إشارة الى حياة الرخاء التي يعيشها العريفي مصطافاً في عواصم السياحة بحقائبه الكثيرة، فيما يحرّض الشباب على الجهاد في سوريا. وقد خضع العريفي للتحقيق في إمارة الرياض بسبب حملة التبرعات التي دعا اليها بصورة علنيّة. وفي 28 مايو 2012، كتب مجموعة تغريدات عبر صفحته الرسمية على تويتر لخّص فيها مجريات التحقيق، وقال: (في جلسة التحقيق أمس بإمارة الرياض ذكرتُ لهم أربعة أسباب دفعتنا لإنشاء لجنة العلماء لنصرة سوريا)، وأوضح: (أنشأنا اللجنة لأن لبلادنا موقعاً دينياً اقتصادياً، وموقفها سياسياً واضحاً بنصرة سوريا، وأفتى مفتينا بوجوب نصرة الجيش الحر، فتحركنا لترجمة ذلك واقعياً).

وأضاف بأن (الناس كانوا يبحثون عمّن يوصل تبرعاتهم لسوريا، فيما الدولة لم تقم حملة تبرعات، فكثر الذين يجمعونها سِراً ولا نعرف صدقهم فأقمنا اللجنة)، موضحاً أن (قيام علماء ثقاة بجمعها وتوصيلها لثقاة سوريا خيرٌ من استمرار أشخاص يجمعونها في الظلام ولا يُدرى كم جمعوا وأين صرفوا!” وعقّب بأن (تشجيع الدولة والمفتي على دعم الجيش الحر ثم منع التبرعات هو كأمر الناس بصلاة الجماعة، فإذا توجهوا للمساجد وجدوها مقفلة). وأبدى استغرابه بأن الدولة تستفيد منه ومن العلماء في الملمات التي تصيبها، كما فعلت في حربها ضد الحوثيين، وفي لجنة مناصحة الموقوفين من عناصر القاعدة على خلفية خروجهم على الدولة (فلما أنشأنا اللجنة صِرتُ غير ثقة!).

وقال له المحقق (أنتم خوارج..) فرّد عليه العريفي (بل ثقاة، عقيدتنا معروفة.. مأذون لنا تدريس العقيدة بكل مكان). وتابع: (الحملات الإعلامية والمشايخ البكّائين بالقنوات! مرحلة انتهت.. الآن جمع فلوس لمجاهدين عن دينهم وأعراضهم.. ويدفعون خطراً قد يصلنا)، واستنكر أن يتم جمع الأموال وإيداعها بطريقة حذرة وحسب قوله (ونحن نودع ـ ونحن مرعوبون ـ لحسابات بالكويت والبحرين!).

لم تنته القصة هنا بعد..

فقد أطلق العريفي تصريحات صادمة تنطوي على دفاع عن (القاعدة)، حيث قال بأن الأخيرة لا تتساهل في تكفير المسلمين.. وقال في تصريح لقناة (الجزيرة مباشر) في 4 شباط (فبراير) 2013 بأن القاعدة (ليسوا من المتساهلين في التكفير، وليسوا متساهلين في الدماء وإراقتها)، الأمر الذي أثار ضجة واسعة في الداخل والخارج، وما لبث أن تراجع عن مقولته تلك وبرر ذلك في برنامج على قناة (إقرأ) بث في 9 شباط (فبراير) 2013 بأنه قال ما قال بناء على (نقولات من أشخاص آخرين). نلفت الى أن العريفي عضو في (لجنة المناصحة)، حيث خاض جولات عديدة من المناصحة والجدل مع عناصر القاعدة وكوادرها في السجن، فكيف يقول بأنه حين قرأ كتبهم (تبيّن لي حقيقة منهج القاعدة) حيث لحظ بأنهم (يتساهلون في تكفير المسلمين)، وأنهم يخضعون تحت تأثير دول تكيد لأهل السنة والجماعة.. السؤال: ماذا كان يقول العريفي لعناصر القاعدة في السجون، وكيف كانت تتم مناصحتهم، خصوصاً وأنه يتباهى بدعم الدولة في مواجهة الجماعات المتطرفة!

وحده الشيخ سعد البريك، المقرّب من الحكومة، ومن الامير عبد العزيز بن فهد على وجه الخصوص، من فهم الرسالة مبكّراً، حيث كتب تغريدة فاترة (بعون الله تعالى ستنطلق حملة دعم (معنوي) مناصرة لإخواننا في الشام على عدد من القنوات الفضائية لمدة ثلاث ساعات مساء يوم الأربعاء القادم من 9:30)، فلاحقته التعليقات الساخرة والتهكمية التي نالت من شكل الدعم المعنوي الذي يقترحه.

على أية حال، كان يمكن للجدل حول المشاركة في القتال في سوريا تحت عنوان الجهاد بالمال والنفس أن يهدأ، لولا أن التطوّرات الميدانية في سوريا وتداعياتها السياسية التي أشعلت الخلاف الداخلي بما ينطوي عليه من تحميل للمسؤوليات وبدء مرحلة العقاب. وكانت تصريحات الاعلامي المقرّب من آل سعود داوود الشريان قد فجّرت النزاع بين الاعلاميين الرسميين مع شيوخ التحريض على القتال في سوريا. الدعاة مثل العودة والعريفي ومحسن العواجي وسعد البريك شكّكوا في خلفية تصريحات الشريان واعتبروها (حملة مدبّرة بليل) ضدهم.

لم تهدأ تصريحات إم بي سي حتى انطلقت حملة على قناة (العربية) المموّلة من النظام السعودي، ضد دعاة الجهاد، حيث نشرت صوراً لهم وهم في منتجعات سياحية، ما أثار غضباً ضد هؤلاء الدعاة، الذين وصفهم عبد العزيز الريس، ضيف برنامج (الثامنة) على الام بي سي بـ (الدعاة السياسيين). العريفي شكّك في شخصية أم محمد التي ظهرت في برنامج الشريان وحكت قصة ذهاب إبنها البالغ من العمر ستة عشر عاماً للقتال في سوريا، وقال عنها بأنها (شخصية وهمية صنعتها قناة إم بي سي).

السؤال هنا، ما هي التنظيمات التي التحق بها السعوديون من مدنيين وعسكريين، وما هي الايديولوجية الدينية التي يعتنقونها، وتشرعن لهم الانخراط السادي في عمل قتالي يمكن وصفه بالانتحاري؟

(داعش)+ (النصرة)+ (الجبهة الاسلامية) = الوهابية

في لمحة سريعة للتعريف بالجماعات المسلّحة نتوقف عند أبرزها، كيف نشأت، ومن هم قياداتها، وما هي الأفكار التي تشرّبتها في رحلة الهلاك.

ـ الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش): وهي من اكثر الجماعات تطرفاً ودموية، والأكثر إقبالا عليها من قبل المقاتلين السعوديين. بدأت داعش بتشكيل جماعة التوحيد والجهاد بزعامة أبو مصعب الزرقاوي (2004-2006) وبعد مقتله أنتخب أبو حمزة المهاجر (2006-2010) زعيماً لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وفي نهاية العام 2006 أعلن عن تشكيل دولة العراق الاسلامية بزعامة أبو عمر البغدادي (2006-2010)، الذي قتل في عملية أمنية دقيقة فاستقرت القيادة في أبو بكر البغدادي (2010- حتى الآن). هدف التنظيم يتلخص في إعادة إحياء (الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة)، في العراق، ومن ثمّ تمدد الهدف ليشمل سوريا أيضاً.

وفي 9 إبريل 2013 تلى أبو بكر البغدادي رسالة صوتية أعلن خلالها دمج (جبهة النصرة لبلاد الشام) ـ التي كانت في الأساس جزءً من الدولة الاسلامية ـ مع دولة العراق تحت مسمى الدولة الاسلامية في العراق والشام وأصبح إسمها (داعش). رفض الجولاني، زعيم جبهة النصرة ذلك، كما رفض زعيم القاعدة ايمن الظواهري قرار الدمج.

ـ جبهة النصرة: أعلن في أواخر سنة 2011 عن تشكيل (جبهة النصرة لأهل الشام) بقيادة أبو محمد الجولاني، وعرّفت بكونها منظمة تنتمي للفكر السلفي الجهادي. ونجحت في أن تتحول الى القوة العسكرية الأكبر في غضون شهور قليلة. المنظمة مرتبطة تنظيمياً بالقاعدة، ودعت في بيانها الأول الصادر في 24 كانون الثاني (يناير) 2012 السوريين الى حمل السلاح لإطاحة النظام السوري. بدأت الجبهة بمقاتلين سوريين شاركوا في المعارك في أفغانستان، والعراق، والشيشان، وما لبثت أن تحوّلت الى منظمة متعدّدة الجنسيات وكانت فيها الغلبة للعناصر السعودية تمويلاً وتجنيداً وتسليحاً، الى جانب عناصر من جنسيات أخرى عربية وأجنبية تركية وشيشانية وأوزبكية وطاجيكية وأوروبية. وقد صنّفت الجبهة في نهاية العام 2012 على لائحة المنظمات الإرهابية. وفي 30 أيار (مايو) 2013، صدر قرار من مجلس الأمن الدولي وبالإجماع بإضافة الجبهة الى قائمة العقوبات للكيانات والأفراد التابعة لتنظيم القاعدة.

ـ الجبهة الاسلامية: في 21 كانون الأول (ديسمبر) 2012 أعلنت «كتائب أحرار الشام» وهي مجموعة سلفية مسلّحة نمت في محافظتي حلب وإدلب، عن إنشاء (الجبهة الاسلامية السورية)، وأعلن المتحدث باسمها أبو عبد الرحمن الصوري، أن (الجماعة تتبع المذاهب السلفية). وتتكون الجبهة من أحد عشر لواء من بينها (كتائب أحرار الشام) و(حركة الفجر الاسلامية)، و(كتائب أنصار الشام) و(لواء الحق)، و(جيش التوحيد)، و(جماعة الطليعة الإسلامية) و(كتيبة مصعب بن عمير) و(كتيبة صقور الإسلام)، و(كتائب الإيمان المقاتلة)، و(سرايا المهام الخاصة)، و(كتيبة حمزة بن عبد المطلب).

وكان من المفترض أن يتولى قائد لواء التوحيد عبد القادر صالح قيادة (الجبهة الاسلامية) الا أنه قتل قبل إسبوع من اعلان الجبهة، فتولى زهران علوش المنصب، بعد عودته من السعودية مباشرة، وقيل حينذاك بأنه غادر من أجل أداء مناسك الحج. علوش امضى وقتاً طويلاً في السعودية وتعلم في جامعاتها الاسلامية، وفي تلك الزيارة التقى في المملكة مشايخ وهابيين محسوبين على التيار الصحوي، والذين عبّروا عن دعم القتال في سوريا. وقيل عن لقاء جمع علوش بالشيخ سليمان العلوان، المقرّب من تنظيم القاعدة، بهدف منح مصداقية له أمام الفصائل الجهادية المقاتلة في سوريا والمقرّبة من تنظيمات القاعدة مثل (جبهة النصرة)، واستقطابها نحو (الجبهة الاسلامية).

نشير هنا الى أن السعودية حاولت تسويق (الجبهة الإسلامية) في ظل صمت أميركي وأوروبي، على أنها (معتدلة) ويمكن تقديمها كطرف يمكن التفاوض معه وإشراكه في العملية السياسية السورية في مرحلة ما بعد انتقال السلطة وتنحي الأسد. ويمكن النظر في ميثاق تأسيس الجبهة الذي يبدو أنه كتب بلغة سياسية أكثر منه دينية، ولا يعبّر عن حقيقة اعتقاد الألوية والكتائب المنضوية في الجبهة، حيث يتبيّن لهجة الاعتدال المفتعلة فيه، رغم أنه لا يخفي النزعة السلفية لكل الجماعات المنضوية في الجبهة.

فقد جاء في ميثاق الجبهة، أنها تعمل على بناء مجتمع إسلامي (يحكم بشرع الله)، بحسب رؤية الجبهة، وتعتمد في تحقيق ذلك وسائل متعددة، بما فيها الحراك العسكري بهدف إسقاط النظام و(الحراك المدني والذي ينبثق عنه الدعوي والتربوي والانساني..)، أي أن ثمة مهمة دعوية منوطة بالجبهة لغرض (تمكين الدين في الفرد والمجتمع والدولة) كما جاء في الهدف الثاني من أهداف الجبهة.

يوميء الميثاق الى الانتماء السلفي لكيانات الجبهة، حيث (تنطلق الجبهة في معتقداتها من منهج أهل السنة والجماعة، المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، والمبني على فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين). وقد شدّدت ميثاق الجبهة في أكثر من مرّة على (بناء الاعتقاد الصحيح) وهي العبارة التي نجدها تتكرر في الادبيات الوهابية، على خلفية أن عقيدة المسلمين عامة معلولة، وتتطلب تقويماً، مع فارق أن الجبهة لا تسعى الى إحداث التغيير دفعة واحدة وإنما (الأخذ بالتدرج المرحلي المنضبط ومراعاة الأولويات)، وقد تكون هذه من العبارات التي يراد تسويقها خارجياً، لجهة إقناع الغرب باعتدال الجبهة.

حين يتناول الميثاق موضوع (المسلمين)، يؤكد على (جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم على الحق..) وكلمة (على الحق) لها دلالة خاصة في الفهم الوهابي. كما أن (تعظيم حرمة المسلم، وتجنب الحكم عليه بكفرٍ أو فسق أو بدعة إلا بدليل وبرهان من أهل العلم)، هي الأخرى ليست مفتوحة ولا يمكن قراءتها بصورة مجرّدة، فثمة تفسير وهابي لعبارة (إلا بدليل وبرهان من أهل العلم) والتي تحمل دلالات محدّدة، لا سيما تلك المتعلقة بمفردات (دليل) و(برهان)، و(أهل العلم)، فالدليل هو ما ثبّته محمد بن عبد الوهاب، خصوصاً في نواقض الاسلام، وصفات أهل التوحيد، وبالتالي فإن أهل العلم هم من يعتنقون التصورات العقدية الوهابية ويتقنونها عن دراية. في ضوء ذلك، فإن الميثاق يشدّد على (التفريق في مقام الدعوة بين مداراةِ الناس بقصد الرفق والإصلاح، وبين المداهنة والسُّكوتِ عن الحقِّ وكتمانه، فضلاً عن قول الباطل).

في الموقف من المرأة، تبدي مكوّنات (الجبهة الاسلامية) اعتدالاً مخاتلاً، والذي يظهر في هيئة مساواة بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات (مع مراعاة ما يميز المرأة عن الرجل من خصوصيات شرعية..)، والموازنة بين رفض التسليم للعادات والأعراف المقيّدة لدور المرأة في الحياة العامة (مما لا يستند إلى أحكام الشريعة القطعية ومقاصدها العامة)، في مقابل رفض (تغريب المرأة وخروجها عن الإطار الإسلامي..). وحاصل جمع رؤية الجبهة من المرأة هو أن القيود المفروضة من الشرع، يحرمها من أن تكون كائناً فاعلاً، وفي أحسن الاحوال تصبح كائناً فاعلاً ولكن مع وقف التنفيذ.

على صعيد الموقف من غير المسلمين، فيؤكد الميثاق على أن الاسلام هو (المصدر الرئيس والوحيد للتشريع) والعمل (بكافة الأساليب الشرعية الممكنة على أن لا يكون في البلاد أي قانون يخالف الثوابت المعتمدة في الشريعة الإسلامية). وحين توضع النقاط على الحروف أن الجبهة تدعو الى إقامة دولة دينية وفق الرؤية الوهابية حصراً.

في التقييم العام، يظهر أن (الجبهة الاسلامية) بمكوّناتها وبقيادتها الممثلة في زهران علوش، ليست سوى واجهة محسّنة أو معدّلة لتنظيمات تستمد من الوهابية فكرها ومشروعيتها.. اختيار علوش، الذي اكمل دراساته الدينية العليا كلية الحديث الشريف والدراسات الاسلامية في الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة وعاد الى سوريا في العام 2009، للتبشير بالدعوة الوهابية عبر الخطابة بالمساجد، اختيار مقصود ولتحقيق غايات سياسية وعقدية محدّدة.

اعتقل علوش بتهمة تشكيل خلايا سلفية مسلّحة في منطقة دوما بريف دمشق، وأفرج عنه بعد شهور من اندلاع الازمة السورية، فقام بتشكيل كتائب مسلّحة أطلق عليها (سريّة الاسلام) وتحوّلت الى (لواء الإسلام) واتخذت من العقيدة الوهابية شريعة ومنهاجاً.. وكان المسؤول عن السيطرة على دمشق. وفي وقت لاحق، تزّعم علوش أكثر من أربعين كتيبة ولواء وضمّها تحت (جيش الاسلام) بتمويل سعودي خالص، ما لبث أن تحوّل الى (الجبهة الاسلامية) في سياق إعادة لملمة للكتائب خصوصاً تلك المنشقة عن الجيش السوري الحر.

علوش لا يختلف في نزعته التكفيرية عن أي قائد في (داعش) و(النصرة)، كما تكشف عن ذلك آراؤه المنشورة على صفحته الرسمية على (الفيسبوك). وقد ظهر في تسجيل مصوّر على (يوتيوب) يبشّر فيه بإعادة مجد بني أمية وغسل الشام مما أسماه (رجس الرافضة والرافضية). وقال (إنني أبشِّركم أيها الرافضة الأنجاس، كما حطّم بنو أمية رؤوسكم سابقاً، سيحطِّم أهل الغوطة وأهل الشام رؤوسكم لاحقاً)، وقال أيضاً: (هم لا يريدون دولة بني أمية لأنها أذهبت مجدهم الغابر، لأن دولة بني أمية حطَّمت رؤوسهم..). كلامٌ لا يحتمل تأويلات متعدّدة، فهو يتحدث عن التاريخ وما جرى في عهد دولة بني أمية وخصوصاً في عهد يزيد بن معاوية، وأن الرؤوس التي تحطمت في عهده ليست سوى رأس الحسين بن علي، حفيد المصطفى صلى الله عليه وسلم وروؤس أهل بيته وأصحابه الذين لم يبق منهم أحد بعد وقعة الحرّة الدموية في المدينة المنورة!

ينبغي الإشارة الى أن (داعش) تنظر الى (الجبهة الاسلامية) على أنها بمثابة (صحوات) على غرار (صحوات) العراق لمواجهة (القاعدة) ممثلة في (الدولة الاسلامية في العراق)، والهدف منها احتواء القاعدة الشعبية والتنظيمية للقاعدة، بالرغم من أن مرجعية الجميع وهابية. نشير الى أن أغلب التشكيلات المنضوية في (الجبهة الاسلامية) على علاقة وطيدة مع (جبهة النصرة)، وقد امتدح زهران علوش الأخيرة، وظهر في شريط فيديو يوضّح فيه موقفه منها، وقال عنها:

(جبهة النصرة فصيل إسلامي مقاتل منتشر في سوريا، وهم أخوة أولو بأس شديد، وأولو نكاية في الأعداء في النظام النصيري، واشتركنا معهم في عدة معارك، فرأينا منهم الإقدام، والجهاد الطيب، والعمل الدؤوب، وأنا شخصياً اجتمعت بشرعي جبهة النصرة أبو ماريا القحطاني من فترة ليست ببعيدة، والحقيقة ما وجدت فرقاً بين شرعي جبهة النصرة وشرعي جيش الاسلام؛ وقلت لو أننا كنّا تشكيلاً واحداً لكان أبو ماريا هو شرعي جيش الإسلام؛ وربما لو كنا تشكيلاً واحدا لكان شرعيونا هم شرعيو جبهة النصرة؛ كما أني أثني على أخي المجاهد القائد أبو محمد الجولاني، الذي اجتمعت به قبل نحو عامين، ولمستُ فيه الحرص على مستقبل الأمة مع طلب للعلم، وثقافة إسلامية عالية، وحسن سمت وأدب في الطرح والمناقشة).

واعتبر علوش الخلاف بين النصرة والجيش الاسلامي هو مجرد خلاف اجرائي وحتى الخلاف الشرعي يضعه في سياق التنوع داخل الأمة!.

على أية حال، فإن أي كلام سعودي أو إعلامي عن تباين بين (الجبهة الاسلامية) و(جبهة النصرة) قد حسمه التحالف بينهما كما ظهر في العملية العسكرية المشتركة على سجن حلب المركزي في 6 شباط (فبراير) الجاري. فقد أعلنت (الجبهة الاسلامية) عن اتحادها مع (جبهة النصرة)، وبالرغم من أن البيان المشترك الصادر عنهما لم يفصح عمّا إذا كان الاتحاد بينهما يقتصر على معركة (وجاء الوعد الحق) على سجن حلب المركزي أم يمثل تحالفاً دائماً، رغم أن لا شيء دائم في شبكة تنظيمات القاعدة التي تخضع لانشقاقات ومناقلات واندماجات سريعة التبدّل.

نشير الى أن أبا خالد السوري، أحد مؤسسي حركة أحرار الشام، كان قد فوّضه زعيم القاعدة أيمن الظواهري للإشراف على تطبيق حل الخلاف بين (جبهة النصرة) و(داعش)، فيما نقل عن أبو ماريا القحطاني مفتي (جبهة النصرة) أنه اجتمع مع عبد القادر صالح قائد لواء التوحيد قبل مقتله بإسبوعين، وكشف له أن الهدف النهائي للواء هو إقامة (خلافة راشدة على منهاج النبوة).

في حقيقة الأمر، تبدو التشكيلات المقاتلة على الساحة السورية مثل (داعش) و(النصرة) و(الجبهة الاسلامية) وبقية الكتائب والألوية أشبه ما تكون بأواني مستطرقة، حيث تتم عمليات الانتقال بوتيرة سريعة بحيث يصعب التمييز فيما بينها لا على مستوى القناعات الفكرية، ولا على مستوى الوسائل القتالية، بل على المستوى التنظيمي، وفي نهاية المطاف ما يجمع بينها هو الوهابية عقيدة، والقاعدة طريقة تعبير عنها وتجسيد لتصوراتها.

وبصورة إجمالية، ومن وجه نظر المراقبين وكذلك جماعتي (داعش) و(النصرة)، فإن (الجبهة الاسلامية) ما هي إلا محاولة سعودية لجهة إعادة خلط الأوراق، وتأتي في سياق محاولات متواصلة منها لإعادة فرز وإدماج الجماعات المسلّحة وإخضاعها تحت السيطرة السعودية. وتمثل الجبهة وعاء استيعاب الألوية المنشقة عن الجيش الحر، وكذلك ألوية صغيرة تنتمي جميعها الى (السلفية الوهابية) بدءاً من زهران علوش، وأبيه الشيخ عبد الله علوش، أحد مشايخ دوما، وأحمد عيسى الشيخ قائد لواء (صقور الشام) المنشق عن الاخوان المسلمين، وعبد القادر صالح قائد (لواء التوحيد) قبل مقتله في غارة جوية، وحسان عبود وأبو العباس من حركة (أحرار الشام).

أحمد عيسى، على سبيل المثال، قبل بصيغة الدولة المدنية، والتي تعطي كل تيار سواء كان إسلامياً أم علمانياً حقه، بل قال بأنه (أول من يدعو إليها.. ونرفض أي تشدد أو إقصاء لأي تيار، ومن حق الشعب وبكل حرية أن يختار من يمثله). لكن بعد انضمامه للجبهة الاسلامية أعلن تراجعه عن هذا الموقف.

الأسئلة الملحّة التي تبحث عن إجابة هي:

لماذا حين يخرج السعوديون الى القتال، ينضمّون الى تنظيمات القاعدة، وليس الى الجيش الحرّ وألويته وكتائبه مثلاً؟

لماذا ينتمي كل المقاتلين السعوديين في سوريا والعراق الى مدرسة مذهبية وهابية لا تمثّل إلاّ أقل من ربع سكان المملكة المتنوعين مذهبياً؟

لماذا أكثر المقاتلين السعوديين في سوريا ينتمون الى منطقة واحدة، والى مشايخ ـ وحكام ايضاً ـ ينتمون الى تلك المنطقة بعينها (نجد) وهم الذين يمثلون وجه المملكة الديني والسياسي في الخارج، ويدعمون القاعدة والتطرف، رغم علاقة حكامهم متطرفة الولاء للغرب؟

الصفحة السابقة