البغدادي يختطف تمثيل الحُلم الوهابي

بين خلافة داعش البغدادية، وإمامة داعش السعودية

عمر المالكي

(الخلافة) كلمة غير محبّبة الإستخدام في الأدبيات الوهّابية السعودية.

ذلك أنها ارتبطت في المخيال الإسلامي المعاصر بالدولة العثمانية، وكانت خلافة آل عثمان تمثّل لدى كثير من المسلمين الخيط الرفيع الذي كان متبقياً ليمثل (الوحدة الإسلامية) رغم النواقص الكثيرة، بينها انها لم تكن تشمل كل البلدان العربية، فضلاً عن البلدان الإسلامية.

الخلافة العثمانية كانت العدو اللدود لآل سعود ولحكمهم الوهابي؛ وكانوا يعتبرونها دولة كافرة، بل لم يكونوا يسمونها في أدبياتهم إلا بـ (الروم). فيقال مثلاً غزا الروم، وهاجم الروم، قاصدين جنود الدولة العثمانية، الذين جاؤوا بجنودهم احياناً، أو بجنود محمد علي باشا من مصر لتحرير الأماكن المقدسة، ولفتح الطريق أمام الحجاج المسلمين للوصول الى الأماكن المقدسة، بعد ان منعهم الوهابيون من ذلك، حين ألغوا الحج الشامي والعراقي والمصري لسنوات عديدة. جاءت حملة محمد علي باشا فأسقطت الدولة السعودية الوهابية الأولى، وساقت قادتها الى الآستانة ليعدموا، وليؤخذ آخرون أسرى ـ وبينهم آل الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ الى مصر.

خلافة البغدادي تشمل إمامة السعودي وتلغي نجد!

من هنا لم يكن السعوديون والوهابيون يميلون لاستخدام لفظة الخلافة، نظراً لعدائهم للدولة العثمانية وتكفيرهم لها ولعموم المسلمين الذين وجدوا فيها آخر ملامح ما تبقى من وحدة اسلامية.

قبل ان تسقط الدولة العثمانية، كان ابن سعود قد تحالف ضدها مع الإنجليز، الذين أوكلوا اليه حماية خاصرة جيشهم المحتل وهو اذ يتقدم من البصرة جنوباً باتجاه بغداد، ومنع ابن الرشيد في حائل من مساعدة العثمانيين، ويومها كاتب ابن سعود ابن الرشيد والسعدون شيخ المنتفق بأن يصطفوا مع الإنجليز. بل ذهب ابن سعود الى الكويت، واجتمع مع علية القوم هناك، وفي احد المجالس ـ حسب حسين خلف خزعل، الذي وثّق تاريخ الكويت في عدة مجلدات ـ خطب فقال: (لو كان في جسدي قطرة دم تميل الى الأتراك لأزلتها)، فخرج الكويتيون غاضبين، لأن الرأي العام الإسلام لم يتلوّث بعد الى حد أن يقبل بالإنجليز ويصطف معهم ضد دولة الخلافة.

سقطت دولة الخلافة، وكتعبير عن الحنين اليها والى الحلم بعودتها، ظهرت جمعية الخلافة في الهند (قبل تقسيمها)، وظهرت جمعيات أخرى تريد اعادة الحلم الضائع، رغم ان قيام الدولة القطرية في المشرق العربي قضى على ذلك الحلم الى حد بعيد.

وإزاء تطور مشاعر الحنين ـ بين العرب بالذات ـ نحو أمل وحدة اسلامية يجمعها نظام الخلافة بعد سايكس بيكو، بدأ الأمراء السعوديون يخففون من لهجتهم ضد مفهوم الخلافة التي لم يؤمن الوهابيون بها يوماً، بل انهم ـ وكما فعل الشيخ عبدالعزيز التويجري في كتابه لسراة الليل هتف الصباح ـ رموا الشريف حسين بالعداء للخلافة وانه ارتكب جريمة لا تغتفر، حسب تعبيره، في حين ان ابن سعود كان حليف الشريف حسين يومها، وكان يستلم من الأخير صرر الأموال لحربها، كما يوضح ذلك جلال كشك، في كتابه (السعوديون والحل الإسلامي).

المهم ان لفظة الخلافة نادراً ما تجدها في الأدبيات الوهابية/ السعودية. لا باعتبارها ـ الخلافة ـ نظام حكم، ولا باعتبارها مرادفاً لوحدة اسلامية كان العثمانيون آخر من مثّلها.

السعوديون استخدموا في المقابل لفظة (الإمامة) ومن ثمّ (السلطنة) فـ (المُلك)؛ وإن كانت العبارات هذه لا تغير من حقيقة انها جميعاً ـ بما فيها الخلافة ـ تشير الى حُكم المتغلّب بالقوة، واضفاء الصفة الدينية على حكام وحكومات فاسدة.

في 1912م، تحالف ابن سعود مع حركة وليدة كانت تسمى (الإخوان) اسسها الشيخ عبدالكريم المغربي، تقوم فكرتها على أساس الوهابية نفسها، من حيث السكن في الهجر، والإنقطاع عن الترحّل، ومن ثمّ صناعة مجتمع ديني سلفي، يمكن له ان يتوسّع. حملت الحركة منافسة لابن سعود، فإما ان يحتويها او يقاتلها ـ حسب المعتمد السياسي في الكويت الكولونيل هارولد ديكسون ـ ففضل احتواءها، رغم نصائح عبدالله بن جلوي امير الأحساء بأن لا يفعل، وشبّهها بالنار التي تلتهم ما حولها.

وهكذا اصبح ابن سعود، الذي كان يعزف على شرعية (عودة ملك الآباء والأجداد)، إماماً للحركة، واصبح الإخوان جيشه، وأمر ابن سعود عام 1916 كل القبائل ان تنضم الى الهجر، اي تستقر، وتصبح مقاتلة في جيشه، وصار الجيش الإخواني العقائدي يتلقى التعليم من مشايخ الوهابية في الرياض والقصيم، كما ويتلقى الأوامر السياسية من آل سعود، فأصبح يفتح الأماكن والمناطق، ويُمنح الحاكم السعودي خُمس الغنائم.

كاريزما البغدادي الخليفة!؛ تطيح بالملك الجاهل (الأطرم)!

هذا كان جيش ابن سعود الداعشي الذي لا يختلف في ذرّة من تكوينه الفكري عن دواعش وقواعد هذا الزمن، إلا في مسألة واحدة هي الخلافة، وسنأتي اليها.

في عام 1922 تخلّى ابن سعود عن لقب الإمامة، فصار سلطاناً وذلك بعد احتلال حائل وسقوط آل الرشيد، وفي 1924 اصبح ملكاً بعد احتلال مكة وإعماله المجازر في تَرَبة والطائف التي تشبه الى حد كبير مجازر داعش والقاعدة هذه الأيام، حيث الذبح، والتدمير، وقطع الرقاب لأطفال ولعلماء المذاهب ومفتيهم، والطعن بالسكاكين وهدم الدور، اضافة الى قطع الأشجار والنخيل وغيرها. لإعطاء صورة عما فعله الوهابيون يقول الشريف عون بن هاشم الذي شهد تربة وكان عمره خمسة عشر عاماً، يقول بعد مرور عقد على حدوثها في تسجيل لأمين الريحاني: (رأيت الدم في تربة يجري كالنهر بين النخيل، وبقيت سنتين عندما أرى الماء الجاري أظنها والله حمراء، ورأيت القتلى في الحصن متراكمة قبل أن طحت من الشباك، ومن أعجب ما رأيت أثناء المعركة أن الإخوان يدخلون الجامع ليصلوا ثم يعودون الى القتال)!

بالرغم من هذا كلّه، بقي الإخوان يسمّون ابن سعود بالإمام، وليس بالمَلك، او السلطان! فانقيادهم له انقياد ديني، وهم لا يرون في لقب السلطان والملك إلا لقباً بعيداً عن الإسلام (علمانياً بتعبيرات هذا الزمن).

لكن كل النشاط السعودي/ الوهابي لاحتلال المناطق، جاء باعتبار الآخرين كفاراً شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. وقد قام الجهد السعودي على عمودين اساسيين (الهجرة/ والجهاد). وقد افادت الهجرة في إخضاع القبائل من خلال فرض الإستقرار عليها، وجعلها جزءً من مشروع بناء مُلك آل سعود؛ وأما الجهاد فكان ابن سعود يوجّه جيشه العقائدي الداعشي الى حيث يريد فيفتحوا له المدن والمناطق. وقد فعلوا حتى احتلوا معظم اجزاء الجزيرة العربية.

وهنا كانت المشكلة.

فالجهاد لا حدود له؛ والكفار موجودون في الشام والعراق واليمن ومصر وغيرها، وبالتالي لا بد من استمراره.

الكفار والمشركون بنظر الوهابيين هم (الآخر) أياً كان، اي ان بقية الكون كفار، والمهمة الوهابية لم تنجز بعد!

يومها لم تتم عملية استزراع الدولة القطرية بمفهومها الحديث على بقايا دولة الخلافة العثمانية، إلا بعد سنوات طويلة من نهاية الحرب العالمية الأولى، وتحت سلطة الإنتداب الفرنسي او البريطاني.

وجد ابن سعود انه لا يستطيع مواجهة حلفائه الإنجليز شمالاً في الأردن (حيث ابو حنيك غلوب باشا)؛ ولا في العراق (حيث الخاتونة مس بيل)؛ ولا في امارات الخليج التي استعمرها الإنجليز منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي؛ وأما اليمن، فهي عشّ الزنابير، ويوجد بها (إمامة) راسخة منذ القرن الثالث الهجري، واستمرت في حكم اليمن بشكل متواصل أكثر من ألف سنة، حتى سقوطها في القرن العشرين 1962. وبالتالي لم يكن ابن سعود واثقاً من قدرته على هضم اليمن (الزيدي الإمامي).

رفض الإخوان ـ جيش ابن سعود ـ ما أسموه (تعطيل الجهاد)؛ ومن رأيهم يجب ان تتوسع الإمامة في حروب جهادية وهابية متواصلة لإدخال الناس في الإسلام الوهابي، ولحيازة مغانم، حيث تحول الجهاد بديلاً عن الغزو القبلي.

هاجم الإخوان الكويت وحاصروها؛ وهاجموا الحدود العراقية عند مخفر بصيّة؛ وهاجموا امارة شرق الأردن فأرسل لهم ابو حنيك طائرات تقصفهم من السماء! وجيء بالإخوان المهزومين امام ابن سعود ليوبّخهم ـ بحضور امين الريحاني ـ لأنهم جاهدوا بدون أمر الإمام، وهناك قال لهم: (لا تظنوا يا إخوان أن لكم قيمة كبيرة عندنا. لا تظنوا أنكم ساعدتمونا وأننا نحتاج إليكم. قيمتكم يا إخوان في طاعة الله ثم طاعتنا. فإذا تجاوزتم ذلك كنتم من المغضوب عليهم. أي بالله، ولا تنسوا أن ما من رجل منكم إلا وذبحنا أباه أو أخاه أو ابن عمه، وما ملكناكم إلا بالسيف. والسيف لا يزال بيدنا. إذا كنتم يا إخوان لا ترعون حقوق الناس لا والله، لا قيمة لكم عندنا في تجاوزكم. أنتم عندنا مثل التراب…أما إذا أعدلتم وعقلتم فحقكم بشرع الله خذوه من هذا الخشم - وضرب بالسبابة أنفه - وحقي آخذه منكم دائما بإذن الله … أنتم ما دخلتم في طاعتنا رغبة بل قهراً؛ وأني والله أعمل بكم السيف إذا تجاوزتم حدود الله).

باحتلال الحجاز ثم الجنوب، استُكملَ مُلك آل سعود، فتمّ حلّ الإخوان من الناحية العملية بعد ثورتهم (1928-1930). توقّف الجهاد الوهابي بعد ان صار لآل سعود مُلكاً ودولة. وتوقّفت الهِجَر، بل ان بعضها تفكك إثر انكشاف الخديعة السعودية وكيف انهم استغلّوا لبناء امبراطورية لعائلة مالكة استخدمت الدين بنسخته الوهابية لصالحها. وهكذا صارت السعودية دولة قطرية، ولو اسمياً، لها حدودها، وعلمها، وعملتها، وجيشها الذي ورثته من الاشراف في الحجاز، وبعض الأجهزة البيروقراطية التي ورثها آل سعود في مكة بالذت.

في البصرة المحتلة، ابن سعود وقائد الحملة على العراق كوكس

لا حديث عن (أمّة اسلامية) يُراد أسملتها وهابيّاً.

لا حديث عن (خلافة اسلامية) تجمع كل المسلمين تحت الراية التوحيدية الوهابية.

لا حديث عن جهاد الكفار، وأغلب الكفار هم المسلمين الذين قاتلهم الوهابيون وذبحوهم، ولم يقاتلوا يوماً الإنجليز او الفرنسيين.

وهكذا لم يُستكمل الحلم الوهابي بإدخال العالم الى الإسلام! عبر (الجهاد) الذي تمّ تعطيله. وسيبقى (تعطيل الجهاد) عاملاً محفّزاً للثورة على آل سعود، يذكره جهيمان اواخر السبعينيات الميلادية الماضية، ومن بعده الصحويون بداية التسعينيات، وأخيراً عبر القاعدة، ومن ثمّ فرعها الداعشي في العراق او ما يُسمى بـ (تنظيم الدولة الإسلامية)!

السؤال يومها كان: كيف يمتصّ ابن سعود الغضب الوهابي التائق الى صناعة دولة لا حدود لها إلا حيث يتوقفون، او حيث تتوقف جمالهم ونوقهم؛ وليست حدود الدولة القطرية التي صنعها الإستعمار؟ كيف يصنع لهم بدائل عن الجهاد المعطّل؟

كان البديل الأولي، وهو ما أراد ابن سعود اقناع مشايخه ومن يسمع كلامهم من بقايا جيشه الإخواني به، هو التأكيد على أن في البلاد (التي تمت سعودتها الآن) الكثير من المشركين في شمال البلاد وشرقها وغربها، وهناك حاجة الى هضم الممتلكات المحتلّة، وتحويل أهلها الى عقيدة التوحيد الوهابي الصافي. وبالتالي، فقد اقترح العمل محلياً، على (وهبنة) الشعب. لكن هذا المخطط لم ينجح: اولاً ـ بسبب أن انكساراً قد حدث بسبب الحرب بين ابن سعود وجيشه الإخواني خاصة بعد وقعة (السبلة/ القرعاء)؛ كان هناك ما يشبه الردّة ـ في نجد معقل الوهابية وآل سعود ـ على المشروع الديني السياسي السعودي الوهابي بالكامل. وثانيا، فإن الوهابيين يمثلون أقلية عديدة لم تكن ولاتزال قادرة على استيعاب التنوّع المذهبي والثقافي في الجزيرة العربية، لا في الحجاز ولا في الشرق ولا الجنوب، ولازالت حتى الآن فاشلة في احتضان التنوّع، بسبب سياسة التكفير والهجوم والتفسيق على الآخر. وثالثاً ـ فإن الوهابية الأقلية في جزيرة العرب ـ وهي لاتزال كذلك ـ انما انتصرت بالدم، وأخضعت الآخر بالسيف والقتل ـ كما تفعل القاعدة وداعش اليوم ـ ولم يكن الضحايا ليقبلوا بالتسليم بأنهم كفار، وان آباءهم كفار، وخاصة ان دماء المجازر لم تجف بعد، ولم تمح من الذاكرة، وتالياً كان من المستحيل ان يقبل المواطنون الوهابية كمذهب بديل عما في أيديهم. ورابعاً ـ فإن المذهب الوهابي ـ بنظر المدارس الفكرية المتطورة في الحجاز وفي الشرق وحتى في الجنوب، أقلّ من أن يستقطبهم، اذ لا يوجد فيه شيء ذو قيمة يجعلهم يتركون ما بأيديهم ويلجأون الى مذهب صحراوي قبلي مناطقي (الدعوة النجدية تسمّى) لا يعرف لغة سوى الدم والهدم.

ومن هنا نلاحظ ان جهيمان ـ اواخر السبعينيات الميلادية الماضية ـ يدين آل سعود بأن الخارطة المذهبية لم تتغير، ويسأل كيف يقبل حاكم اسلامي ان يكون بين رعاياه روافض يأخذ منهم الزكاة ويسمح لهم بالحج؟ او حتى صوفية في الحجاز وما أشبه.

الخيار الآخر أمام آل سعود هو الإستعاضة عن (تعطيل الجهاد) بنشر الوهابية في أصقاع الأرض. وهذا قام به الملك فيصل او في عهده بالذات، وذلك لغرض مكافحة الشيوعية، وتوسعة النفوذ السياسي السعودي على قاعدة نشر المذهب. لكن هذا المشروع الذي نجح في توسعة البؤر السلفية في كل بلدان العالم الإسلامي، انما جاء من خلال الجامعات الإسلامية السعودية، ومن خلال رجال من الطبقة الثانية او الثالثة من رجال الدين الوهابيين؛ ذلك ان كبار مشايخ الوهابية لازالوا حتى اللحظة يعتقدون بان السفر الى بلاد الكفر (وهي تشمل كل البلدان الإسلامية عدا البلاد السعودية) حرام؛ ولذا لم يسافر منهم احد خارج حدود السعودية! اللهم إلا للعلاج اضطراراً، واكثرهم يرفض العلاج في الخارج حتى. وهنا يمكن القول بان السعوديين استفادوا من الإخوان الهاربين من القمع الناصري في تسويق الإسلام السعودي، فتم انشاء المراكز وادارة المؤسسات، ولكن المحتوى العقدي كان وهابياً صرفاً، وإن كان بوجه إخواني اراد استثماره لصالحه سياسياً.

التحوّل الأخطر بالنسبة للتجربة السعودية جاء بعد حادثة احتلال الحرم المكي من قبل جهيمان العتيبي في نوفمبر 1979؛ يومها تفكّك الإنحباس الوهابي الداخلي، ليذهب الولاء الى الخارج، وليصبح التوجيه للقاعدة الوهابية المتطرفة ـ ولو جزئياً ـ بيد الخارج، تنظيمات او قيادات. فقد جاء احتلال افغانستان نعمة من السماء لآل سعود ـ أو هكذا حسبوا الأمر. ففتحوا الأبواب والنوافذ لكل المتحمسين الوهابيين للقتال هناك ضد الشيوعية، بدلا من التورط بحماسهم داخلياً على طريقة جهيمان، وبالتالي أصبحت الدعوة الوهابية ولأول مرة بعد نهاية الإخوان عام 1930، تستخدم السلاح خارج الحدود، ولتقاتل من أجل مفهوم لم يتبلور بعد بإسم الخلافة الإسلامية، او دولة الخلافة، التي لا تهتم بالحدود.

على انقاض الحرب في أفغانستان تبلورت القاعدة سعودياً، وصارت تقاتل في الخارج، لتصل الى امريكا في 2001، ومن ثم لتتمكن من حصد كل مازرعته الرياض في تنشئة وتربية الجماعات السلفية الوهابية في العالم الإسلامي، فأصبحت تلك البؤر في واقع الأمر فروعاً للقاعدة حتى اللحظة. والقاعدة لا تؤمن بحدود، ولا تؤمن بالدولة السعودية، ولا ترى فيها ممثلاً لحلم المسلمين في الجهاد وتحويل العالم الاسلامي الى دولة واحدة خاضعة للفكر الوهابي بسلاح (الجهاد)!

الحلم الوهابي القديم، صار حصانه القاعدة، ليتحوّل الى الجناح الأكثر راديكالية وهي داعش. لم تعد الرياض ممثلاً للحلم، ولم يعد حكام الرياض سوى ممثلين للخيبة والفشل والعمالة والفساد والخضوع للأجنبي.

دواعش آل سعود يعودون بنفس الممارسات

منذ أفغانستان، لم يعد آل سعود يتحكمون بالنار التي وصفها عبدالله بن جلوي، وإنْ كان اعتقدوا انهم يمكنهم دوماً القيام بذلك. فقد انفجرت خزانات النار بوجه آل سعود من قبل العائدين من افغانستان (انفجار العليا بالرياض عام 1995؛ وانفجار الخبر عام 1996؛ وتالياً حملة التفجيرات التي ضربت مدناً سعودية منذ 2003 وحتى 2005). سلطة القرار على النشاط الوهابي السياسي في الداخل والخارج لم يعد ملكياً سعودياً محضاً، يمكنه استثماره الى حدود معيّنة، ولكنه لا يستطيع أن يأمن نتائجه.

وعلى قاعدة: داوها بالتي هي الدّاء، حيث لم يتعظ آل سعود من تجارب الماضي، فقد ساعدوا ـ بالتعاون مع قطر وتركيا ـ على استجلاب كل عناصر القاعدة للقتال في العراق ومن ثمّ في سوريا، لينفجر الوضع اخيراً مرة اخرى في العراق، ولتصل داعش الى الحدود السعودية الشمالية. فيما قاعدة الجنوب السعودية ـ اليمنية تهاجم مخفر شرورة؛ فالنار التي قذف بها آل سعود ضد أعدائهم عادت وارتدت اليهم.

الآن تلتفت الرياض فتجد ان سلطتها على شبابها السلفيين ـ ومعظمهم من نجد معقل الوهابية وآل سعود ـ تتضاءل امام إغراء (الجهاد) الذي كان معطّلاً؛ وأمام اغراء الحلم بدولة خلافة استزرعت في الثقافة الوهابية حديثاً، بعد الهجرة والجهاد في افغانستان. المفتي ومشايخ السلطة الآخرين من هيئة كبار العلماء، او حتى من التيار الوهابي الذي سُمي صحوياً، كلها وجوه لا تُشبع النهم الوهابي لممارسة الجهاد المعطّل الذي يبدأ من الخارج ليعود الى الداخل السعودي نفسه، كما يُخطط له! او كما يروج داعشيو السعودية الذين يقاتلون الى جانب الخليفة البغدادي؛ او حتى كما تفصح خارطة دولة الخلافة البغدادية!

في هذه اللحظات التاريخية، تكتشف الرياض ان داعش على الحدود الشمالية، بالقرب من عرعر، وصواريخها قد وصلت اليها فعلاً. وتنظر الى الجنوب فترى القاعدة التي يقودها شباب وهابيون قاعديون اطلقت السلطات سراحهم ضمن برنامج المناصحة العجيب! حيث ينافسون اشقاءهم في الشمال في المسارعة الى فتح الحدود، حيث اقتحموا شرورة وسيطروا على مبنى المباحث بما له من دلالات سياسية وأمنية.

الان تلتفت الرياض فترى ان هناك خليفة، لا يستطيع قادة الرياض من آل سعود ان ينافسوه في الكاريزما. فهو خليفة من نسل رسول الله؛ وكان ابن سعود يخشى الأشراف لانتسابهم الى الرسول وبالتالي أحقيتهم في الحكم والخلافة، لذا طفق الوهابيون من مشايخ وساسة يسقطون قيمة الإنتساب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وتسقيط قيمة الرسول عليه السلام حياً وميتاً وإرثاً وتراثاً!

صار هناك خليفة واجب الطاعة ـ حسب ثقافة المتغلّب ـ التي يؤمن بها آل سعود! فكيف لملك ان ينافس خليفة. وكيف لملك لا يستطيع قراءة آية من كتاب الله ان ينافس خطيباً مفوّهاً؟ وكيف يمكن لمطعون في نسبه ويتهم بيهودية الأصل ان ينافس سليل الرسول؟!

اعلان الخلافة البغدادية، في غياب (الإمامة) السعودية، جعل المُلك السعودي هشّاً من الناحية الشرعية، وفق التنظيرات الوهابية نفسها. اصبحت مشروعية الحكم السعودي على المحكّ؛ واصبحت طاعة الخليفة واجبة، حيث بايعه سعوديون سلفيون وهابيون في الداخل، ما يعني نزع الولاية عن آل سعود، وعن مشايخهم الذين كان ينظر اليهم كمؤتمنين على المذهب (النجدي/ الوهابي).

الآن يقوم الخليفة البغدادي، ولأول مرة في تاريخ الدولة السعودية، باختطاف الشرعية من آل سعود، بالرغم من كونه ليس نجدياً، والدعوة النجدية الوهابية لا تقبل رأساً دينياً او سياسياً من غير نجد. لكن المستحيل حدث. ودعوات الأنصار داخل السعودية للبغدادي بأن يقدم بجنده فيأخذ الرياض تصكّ الأسماع، وتخيف ال سعود؛ ما دعا الملك عبدالله الى اعلان النفير في بيان علني، والى ارسال ثلاثين ألف جندي الى الحدود الشمالية.

باسم الخلافة وليس الإمامة، تقوم الوهابية بتجديد نفسها بوجه غير محلي، وبأفق يتعدّى (المُلك العضوض) لعائلة حاكمة، كما يتعدّى اطار الدولة القطرية، بل ليعيد الأمر الى ما قبل عهد الدولة القطرية/ القومية، حيث لا حدود معترف بها، ولا جماعة غير (جماعة المسلمين) الذين يمثلهم الآن الخليفة البغدادي!

هنا تكمن المحنة السعودية التي تخلّت عن (الإمامة) وتخلّت عن الدولة الإسلامية؛ وعطّلت الجهاد. فجاء من رحم الوهابية من يختطف الراية ليعيد الكرّة من جديد، بعد أن فسدت السلطة، وفسد الحكم السعودي، وفسد رجاله كما فسد مشايخه.

الصفحة السابقة