دعوهم يقرّروا لأنفسهم

دولة يمنية جديدة بغير إمرة الرياض

محمد شمس

ليست الحكمة وحدها اليوم يمانية بل والسياسة أيضاً، فلأول مرة منذ عقود طويلة تصبح السياسة صناعة يمنية خالصة، بعد أن كانت تصنع في عاصمة إقليمية، الرياض بوجه خاص، أو دولية، واشنطن حصرياً.. وما قاله الشيخ المعتقل حسن فرحان المالكي عن الثورة اليمنية يصدق هنا، لأن بقية الثورات في مصر وليبيا وسوريا وتونس والبحرين، تعرّضت إما الى اختطاف من قبل قادة الثورة المضادة أو تورّطت في الدماء، وتحوّلت الى حرب أهلية أو واجهت حائطاً مسدوداً وصارت تدور في حلقة مفرغة، فيما نأت القوى الثورية اليمنية عن أية محاولات لاستدارجها الى الدماء.

في اليمن اليوم ثورة حقيقية دون تدخلات خارجية إقليمية ودولية رغم عدم توقفها. وإذا كانت الحكومة التي تشكّلت في الثامن من نوفمبر قد حظيت باجماع شعبي فإنها واحدة من ثمار الثورة اليمنية وليس «المبادرة الخليجية» التي سقطت للأبد.

في الحادي والعشرين من إيلول الماضي، أرسى اليمنيون معالم مرحلة جديدة لناحية بناء دولة بأيد يمنية دون الاستعانة ـ أو بالأحرى ـ تدخل من أطراف إقليمية أو دولية. تغيّرت قوانين اللعبة في اليمن، وتبدّلت تبعاً لها قواعد الاشتباك، فما كان خطّاً أحمراً بات أخضراً في ظل ثورة شعبية من كل الأطياف، تأسيساً على تفاهم صلب بين القوى الثورية التي توافقت على مبادىء السلم والشراكة.

فكل مدن اليمن مفتوحة أمام الثورة، في سياق تنضيج مشروع دولة وطنية، يصوغه قادة الحراك الشعبي، وكأن الثورة لا تنتج مجرد دولة، بل تعيد أيضاً إنتاج المجتمع اليمني الأصلي والأصيل ما قبل عصر المحاور، حين كان يعرّف اليمني بوطنه وتاريخه العريق وتسامحه، وانفتاحه، وليس بطائفته.

لأول مرة يشعر اليمنيون، وبصورة جديّة، أن «الخارج» السعودي والأميركي على وجه الخصوص يمثل مصدر تهديد لأمنهم، وخياراتهم السياسية. نتذكر خلفية «الهبّة» الثورية في 8 تشرين أول الماضي، بعد زيارة السفير الأميركي في صنعاء لقصر الرئيس عبد ربه منصور هادي، وتقديمه اقتراح شبه ملزم بتكليف مستشاره أحمد عوض بن مبارك بتشكيل الحكومة. جاء الرد الثوري فورياً، وتمثّل برفض التدخل الأميركي في الشأن اليمني، ونجحت القوى الثورية في إسقاط مرشّح سفارة واشنطن في صنعاء.

ونتذكر أيضاً إلحاح باراك أوباما، رئيس أكبر دولة ديمقراطية في العالم، على «المبادرة الخليجية» كوصفة سعودية لمعالجة أزمة الدولة في اليمن. بكلمة، تصبح واشنطن شريكاً كاملاً في الاستبداد الشرقي بقيادة الرياض حين يتعلق الأمر بشعوب المنطقة، الواقعة داخل المجال الحيوي لنفوذها.

مشكلة الخارج، أعني القوى الإقليمية وعلى وجه الخصوص (السعودية، قطر، والى حد ما تركيا)، والقوى الدولية (الولايات المتحدة بدرجة أساسية) وحتى هيئة الأمم المتحدة وذراعها الفاعلة (مجلس الأمن)، أنه يقدّم نفسه كطرف متخاصم مع إرادة الشعب اليمني، عبر التلطي وراء «المبادرة الخليجية» برعاية سعودية تارة أو الأمن الإقليمي والدولي تارة أخرى (بحسب تصريح للرئيس الأميركي أوباما قبل أيام)، ولكنّ هذا «الخارج» لم يعد مقبولاً تحت أي عنوان، بسبب الخراب الكبير الذي أحدثه في الداخل اليمني على الأصعدة كافة السياسية والاجتماعية والأمنية والثقافية والنفسية.

العقوبات التي يفرضها مجلس الأمن الدولي على شخصيات يمنية، وخصوصاً من قادة «أنصار الله» تؤكّد ما كان يحذّر منه مؤسس الحركة السيد حسين الحوثي، من أن الهيئات الدولية لم تنشأ للدفاع عن حقوق الشعوب، وإنما لتأمين مصالح القوى الكبرى الاستعمارية..وعليه، كان يدعو عناصر الجماعة الى تكريس المجهود الذاتي على الأرض وتجاهل دور الهيئات الدولية.

أنصار الله: فاجأوا العالم بأدائهم ونضجهم السياسي

ما يذهل القوى الخارجية المتنفّذة في الشأن اليمني، أنها باتت الآن عاجزة عن مصادمة أو حتى مجاراة حركة «أنصار الله» الحوثية، بفعل أدائها المتميّز في التعاطي بمسؤولية وطنية. وما يميّز الحركة أنها تعمل بعقل «الدولة» وليس «الجماعة»، وهذا ما يضع كل الأطراف الداخلية والخارجية من الأصدقاء الخصوم في حيرة إزاء هذا الانتقال النوعي المفاجىء في السلوك السياسي.

حيرة بعثت هواجس وشكوك السعودية وحلفائها الى الحد الذي جعلها مربكة إزاء كل تطوّر جديد على الساحة اليمنية.. فيما جنح الخيال الخصب المطعّم بحس مؤامراتي فنسج قصة مخطط سعودي ـ حوثي لضرب «أهل السنة» في اليمن، وليس شائعة لقاء بندر بن سلطان مع زعيم «أنصار الله» السيد عبد الملك الحوثي سوى إحدى تظهيرات القلق لدى حلفاء السعودية.

اعتادت الرياض والدوحة وواشنطن وغيرها على تقييم الحركة الحوثية بوصفها تنظيماً مسلّحاً، شأن بقية التنظيمات المسلّحة في اليمن أو حتى خارجها، ولكن ما فاجأ هذه العواصم أن الحركة تمأسست، وأصبحت تدير اللعبة السياسية بحنكة بعيداً عن انفعالات اللحظة، كما نأت بنفسها عن ردود الفعل على أعمال استفزازية هنا وهناك.

وعلى الضد من الحملة الاعلامية المكثفة التي تديرها قنوات فضائية خليجية كبرى، حافظ الحوثيون واللجان الشعبية عموماً على رباطة جأشهم بهدف «تقطيع» هذه المرحلة، لأن الاستحقاقات المأمولة أكبر من الوقوف عند حملة «التشويش» العابرة، فما يتغيّر على الأرض أكبر مما يتخيله المدبّرون للحملة. وحدهم الخاسرون الاقليمون والدوليون يكابدون ألم الخسارة، فهم يدركون حجم ما أنفقوا في اليمن كي لا يصل اليمنيون الى هذه اللحظة وقد وصلوا.

ما يشهده اليمن هو تغيير جذري وشامل، ويؤسس لمرحلة عنوانها «اليمن لليمنيين»، وليس هناك من قوة قادرة على إعاقة حركة التغيير. والسبب ببساطة متناهية هو الإجماع الشعبي، والوعي السياسي المتقدّم للقوى الفاعلة على الساحة من كل الأطياف، وفوق ذلك كله الإرادة الشعبية الصلبة على مواصلة التغيير واستمرار الثورة حتى تحقيق المنجز السياسي الأكبر، أي الوصول الى دولة وطنية بمواصفات يمنية خالصة.

إن أكبر إنجاز حقّقه الشعب اليمني في 21 إيلول الماضي كان «تفكيك» المحاور في الداخل اليمني، فلم يعد هناك محور سعودي، وآخر قطري، وثالث أميركي أو حتى تركي.. وأصبح اليمن محوراً لليمنيين، وهذا ما أغضب القوى الإقليمية والدولية التي اعتادت ان تجعل من اليمن ساحة مستباحة، لتصفية حسابها أو لتأمين مصالحها.

كانت السعودية تستغل فقر اليمن، فتغدق المال على من لا يستحق لكي يفعل ما لا يريده اليمنيون.

وفي الوعي الجمعي قناعة راسخة بأن السعودية تحقّق أمنها الذاتي عبر تخريب أمن اليمنيين، بإثارة الصراع المتعدّد الأشكال: السياسي والطائفي والقبلي. وهناك من السياسيين اليمنيين من لديه قابلية الاستتباع للسعودية عبر بوابة الجاه والوجاهة.

اليوم، ثمة لحظة استقلال وطني حقيقي يعيشها أطياف الشعب اليمني كافة، في وقت تنهار فيه الكانتونات الأمنية والسياسية والقبلية المرتبطة بتحالفات خارجية، سعودية وقطرية بدرجة أساسية.

حلفاء السعودية يتوارون خوفاً أو تحيّزاً لجولة جديدة من المواجهات من داخل أو من خلف الحدود.

بقي علي عبد الله صالح في اليمن عناداً وتربّصاً، وهرب علي محسن الأحمر، رجل السعودية القوي، الى الرياض، ليقود مرحلة تخريب البيت اليمني من الخارج.

وبعد انهيار الإمبراطورية السعودية في اليمن، لم تعد أمام الرياض فرص وفيرة، فمن الخارج تواصل حربها الإعلامية والدبلوماسية ضد الحوثيين أولاً، والحراك الشعبي عموماً ثانياً وأخيراً. وفي الداخل أوكلت للهارب علي محسن الأحمر مهمة تفجير الوضع الأمني. وقد رصدت الرياض لهذه المهمة مليار دولار، جرى تخصيصها للقيام بسلسلة متوالية من التفجيرات في مواقع حسّاسة حكومية أو مؤسسات ومراكز تابعة لجماعة «أنصار الله»، فيما لفتت مصادر يمنية مراقبة الى خطة تفجير صراع طائفي عبر عمليات أمنية تهدف الى إحداث انقسام داخل الحراك الشعبي والذي يعبّر عن نفسه في الشارع من خلال اللجان الشعبية.

لدى «أنصار الله» رؤية واضحة، وتدبير احترازي إزاء خطة «التفجير الأمني» المعتمدة سعودياً عبر وكيلها علي محسن الأحمر. في الرؤية، يتعلق الهدف من وراء الخطة بإنهاك الحركة ومشاغلتها بالحوادث الأمنية، وتشتيت جهودها، وسحبها بعيداً عن الشأن السياسي، واستدراجها الى حيث تكون المواجهة الأمنية.

أما في التدبير الإحترازي، وبالرغم من وجود ثغرات أمنية واسعة وخطيرة يمكن أن ينفذ منها من أراد باليمن شرّاً، إلا أن الحركة الحوثيّة كثّفت من جهودها في الآونة الأخيرة لجهة ملاحقة كل الجيوب التي يخرج منها الإرهابيون، سواء من عناصر «القاعدة» أو «داعش حالياً»، أو العناصر المرتبطة باللواء الهارب علي محس الأحمر.

في التفاصيل، قامت حركة «أنصار الله» ومعها اللجان الشعبية بملاحقة خلايا «القاعدة/ داعش» في اليمن في المراكز الرئيسة. في مواجهات مدينة رداع في محافظة البيضاء جنوب شرقي العاصمة صنعاء، والتي تضمّ أكبر تجمّع لعناصر «القاعدة/داعش»، وفيها يتحصن قادة التنظيم.. تكشف حجم الأخير وقدرته القتالية المتواضعة. فقد لاذ عناصر «القاعدة/ داعش» بالفرار بعد فترة قصيرة من المواجهات، وانهاروا سريعاً وتخلوا عن عتادهم.

على أي حال، فإن مواجهات رداع كانت الأخطر بالمقارنة مع المناطق الأخرى التي بدا فيها الوجود المسلّح للقوى المرتبطة بالسعودية وقطر هشّاً، ولم يكن يتطلب سوى عمليات موضعية وسريعة.

لا بد من الإشارة الى أن مقاتلي «أنصار الله»، ومراعاة لحساسية التقسيم المذهبي في المحافظات اليمنية ومدنها، فضّلوا التعاطي بالعنوان الوطني، ونأوا عن الإنخراط في أي مشكل قد يفسّر بطريقة خاطئة، بل تركوا للسكّان المحليين إدارة دفة الأوضاع بما يعزّز الثقة المتبادلة، والإطمئنان الى سير العملية الثورية، ويحقق الأهداف الوطنية المشتركة.

باختصار، ليس في اليمن اليوم حديث سوى عن ولادة يمن جديد، يحضر فيه «الخارج» للتخريب، ولكن إرادة «الداخل» أقوى، لأنها إرادة شعب من شماله وجنوبه. وأجمل ما في هذا اليمن اليوم أن ترى كيف تتساقط أوراق الخارج على ساحته، فكلما تدخّل طرف خارجي لتمرير «مكيدة»، صدع الثوار لإبطال مفعولها. باختصار: اليمن مدرسة يتعلم منها طلاّب الحرية.

السعودية تخسر ومن ورائها كل القوى الإقليمية والدولية التي تتربّص بالثورة اليمنية شرّاً. لا يريد اليمنيون العداوة مع أي من دول العالم القريبة والبعيدة، ولكن في الوقت نفسه يريدون العيش في دولة وطنية مسقلة وديمقراطية، يصنعونها بأيديهم، ويرفضون مبدأ التدخل تحت أي عنوان، وحتى العناوين الانسانية باتت اليوم مشبوهة، وفي أحسن التقديرات: موضع تحفّظ الجميع؛ لأن تجارب الماضي القريب والبعيد دفعت اليمنيين للحذر من أي تدخل خارجي.

اليمن يصنع استقلاله بسواعد أبنائه، وإذا كانت هناك من دولة تريد المساعدة فعليها احترام ارادة اليمنيين جميعاً. دعوهم ـ إذن ـ يقرروا لأنفسهم، بعد أن قرر العالم لهم مصيرهم زمناً طويلاً.

الصفحة السابقة