قراءة في رسائل محمد بن عبد الوهاب

رسـول الـتـكـفـيـر

الجزء الثاني

سعد الشريف

في قراءة أقرب الى أدلجة المأثور، يعيد محمد بن عبد الوهاب قراءة النص الديني والرواية التاريخية وفق تفسير شديد الخصوصية وبوعي اختزالي وليس كما هما في الواقع، أي ليس ضمن السياق الذي ظهرا فيهما وفهم جيل الصحابة النص من مصدره، وكما شرحه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ما يحاول ابن عبد الوهاب فرضه هو: إحلال الفهم الخاص مكان النص الثابت، وفي مثل هذه الحالة، فإن الإصرار على الربط بين النص وفهمه يعني صهر الإلهي والبشري، والوحي والتفسير، الأمر الذي يفتح الباب على جدل واسع حول السلطة الدينية، أي سلطة النص وسلطة الاجتهاد.

في تأمل مجموع رسائل ابن عبد الوهاب الى المستهدفين بدعوته يظهر وبوضوح الحد الفاصل بين «الأنا» و»الآخر»، إذ يفرض نفسه باعتباره الحق المطلق، في مقابل الباطل المطلق. هذه القسمة تحكم طبيعة الخطاب الذي يعتنقه ابن عبد الوهاب، ونوع الرسائل التي يبعث بها، والأهداف التي يتوخى تحقيقها.

نتوقف عند رسالة حول (بيان معنى لا إله إلا الله وما يناقضها من الشرك في العبادة) بعث بها إبن عبد الوهاب الى ثنيان بن سعود، وهو أخو محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى، أو بما كانت تسمى إمارة الدرعية. وكان ثنيان متديناً، وهو أحد الأشخاص الذين أشاروا على محمد بن سعود بمساعدة ونصرة إبن عبدالوهاب بعد قدومه إلى الدرعيه.. ومن ذرية ثنيان ( آل ثنيان وآل هذلول). وقد سأل ثنيان عن معنى قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)، وكونها نزلت بعد الهجرة. فأجاب إبن عبد الوهاب بما يؤكّد عقيدته، وقال «فهذا مصداق كلامي لكم مراراً عديدة». ويشرح ذلك بأن «الفهم الذي يقع في القلب غير فهم اللسان»، أي أن مجرد التشهّد بلا إله إلا الله لا يجعل قائلها مسلماً، ولابد أن يلحقها إيمان بالقلب. ولكن مراد ابن عبد الوهاب أبعد من ذلك، ويرتبط بمعنى لا إله لا الله، ما يستبطن إتهاماً لغالبية المسلمين بأنهم يلفظون الشهادة، ولايدركون معناها والعلم بها، ولذلك يذكّر سائله بأنه قال في الباب الثاني من كتاب (التوحيد) بأن «العلم لا يسمي علماً إلا إذا أثمر، وإن لم يثمر فهو جهل». ويحيل ابن عبد الوهاب الى قصة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في يوم أبي جندل بالحديبية، حين أراد أن يرد عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: لو استطعت لرددته. وعلّق ابن عبد الوهاب بأن «من أشكل المسائل التي وقعت في الأولين والآخرين: شهادة أن محمد رسول الله، وسر المسألة العلم بلا إله إلا الله».

يقيم ابن عبد الوهاب فهماً للتشهّد يفضي الى تجهيل وتكفير العموم، ويمثّل لذلك بأن النهي عن الشرك والدعوة الى لا إله الا الله هما متلازمان وليس تكراراً، يريد بذلك القول بأن لا إله الا الله الايمان بالله ولكن لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل لا بد من أثر آخر وفيه يكمن حكم تكفيره لغالبية المسلمين كقوله «إن كثيراً من الناس يقول لا أعبد إلا الله وأنا أشهد بكذا وأقرّ بكذا ويكثر الكلام..». ثم فجأة ينتقل الى سبر النوايا ويطالب المسلم الذي أقرّ بالشهادة ومتوالياتها، بأن يشارك في حملة تفتيش النوايا والأسرار ويقول: «فإذا قيل له ما تقول في فلان وفلان، إذا عُبِدا أو عُبِدا من دون الله؟ قال ما عليّ من الناس، الله أعلم بحالهم، ويظن بباطنه أن ذلك لا يجب عليه..»، أي أن المطلوب من الذي يؤمن بالله ويعبده أن يمارس دور القاضي على الآخرين، أي حسب قوله «أن الله قرن بين الإيمان به والكفر بالطاغوت، فبدأ بالكفر به على الإيمان بالله، وقرن الأنبياء بين الأمر بالتوحيد والنهى عن الشرك..». هو هنا يجعل «الطاغوت» مصداقاً لمن يفترض أنه أشرك بالله أحداً آخر، في إشارة منه إلى أكثرية المسلمين، الذين يزورون قبور الأولياء التي يصرّ على أنهم يتقربون إليها، ويشركون مع الله آلهاً آخر من خلال زيارتها.

ما يلفت في سياق المحاجّة أن ابن عبد الوهاب يتمثّل سورة «الإخلاص: قل هو الله أحد» والتي تنتصر الى فكرة أن لا اله الله هي ما عليه المسلمون في أن الله وحده لا شريك له، دون تقسيم الى إلوهية وربوبية وأسماء وصفات، التي ابتدعها ولم يرد ذكرها في السورة، وهي على فضلها وما تمثله إذ تعدل ثلث القرآن مع قصرها، إلا أنه يتجاوز المعنى الظاهر فيها، ويمد مساحة النص ليقع في إطار الفهم الخاص به.

وفي رسالة بعث بها ابن عبدالوهاب إلى عبد الرحمن بن ربيعة مطوّع أهل ثادق، عاصمة بلدات المحمل في نجد، وهو من بطن آل عوسجة أحد بطون قبيلة الدواسر المشهورة، وقد استوطن آل عوسج بلدة ثادق التي أنشأوها عام 1079هـ. وكان عبد الرحمن قد نشأ على يد والده الفقيه والمؤرخ النجدي محمد بن ربيعة المتوفي سنة 1158هـ، وأحد تلامذة الشيخ هو عبد الله بن ذهلان والشيخ أحمد المنقور، وله فتاوى على الفقه الحنبلي كونه المذهب السائد في نجد. ويعتبر الشيخ عبد الرحمن بن ربيعة من علماء آخر القرن الثاني عشر الهجري، وعاصر محمد بن عبد الوهاب، وكان يتودّد له في مخاطبته لأنه اعتنق مذهبه وتابع دعوته.

في رسالة ابن عبد الوهاب الى بن ربيعة إجابات عن مسائل كثيرة، وأبرزها مسألة التوحيد، وكما هي العادة فإنه يستحضر صورة نمطية عن المسلم الآخر الذي لا يدين وفق طريقته في الاعتقاد، حيث يرى بأن كل من يزور قبر نبي أو ولي إنما هو يقصد إشراك إله مع الله سبحانه وتعالى:«فمن عبد الله ليلاً ونهاراً ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره فقد اتخذ إلهين اثنين ولم يشهد أن لا إله إلا الله..»، وهنا عملية فصل دقيقة بين الإقرار بالتوحيد الخالص لله سبحانه وحده لا شريك له من جهة، والتشكيك في صدقية اعتقاد المسلم، وتالياً إتهامه بالشرك دون التحقيق في دعوى إشراكه أحداً غير الله في العبادة والدعاء، أم هو ما يعتقده ابن عبد الوهاب كذلك؟

يتّضح ذلك من فقرة لاحقة بما نصّه: «لأن الإله هو المدعو كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزبير أو عبد القادر غيرهم وكما يفعل قبل هذا عند قبر زيد وغيره ومن ذبح لله ألف ضحية ثم ذبح لنبي أو غيره فقد جعل إلهين اثنين..». والحال أن هذا النص ينطوي على حكم تعميمي بقوله «كما يفعل المشركون اليوم»، والأمر الآخر أن مثل هذا الحكم بالعموم يقتضي تحقيقاً شاملاً يطال كل فرد زار أو دعا أو ذبح عند قبر ولي بأنه يقصد بذلك الإشراك في العبادة مع الله، لا على سبيل التخمين، بل اليقين الموصل الى الاطمئنان التام، بأن كل هؤلاء، إنما جاءوا عند قبور الأنبياء والأولياء للعبادة والإشراك، فهل تحقق من ذلك؟

ولكن ابن عبد الوهاب يصرّ على أن مسلمي عصره والعصور التي سبقته كانوا على الشرك بقوله الصريح: «وهذا الشرك الذي أذكره اليوم قد طبق مشارق الأرض ومغاربها..»، يستثني من ذلك نفسه وأهل دعوته الذي يسبغ عليهم صفة «الغرباء» بناء على حديث منسوب الى النبي صلى الله عليه وسلم «وقليل ما هم».

وفي حكمه على تكفير من جعل بين الله وسائط، حسب دعواه، بدا متساهلاً في لغة القدح والتعريض بمن يصنّفهم في خانة الكفّار، وبدا كما لو أن الأمر يتجاوز الجانب الديني ويكتسب الطابع الشخصي والدنيوي، كقوله: «فهذه خطوط المويس وابن اسماعيل وأحمد بن يحيى عندنا في إنكار هذا الدين، والبراءة منه، وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه..»، ثم يختار أحدهم لينال ضعفين من الشتم والتكفير: «فإن استقمت على التوحيد، وتبيّنت فيه، ودعوت الناس إليه، وجاهرت بعداوة هؤلاء، خصوصاً ابن يحيى، لأنه من أنجسهم وأعظمهم كفراً، وصبرت على الأذى، في ذلك، فأنت أخونا وحبيبنا..». إذاً، فإنها إخوة مشروطة بعداوة وتكفير المذكور في الرسالة.

وفي رسالة بعث بها إلى أحدهم ولم يرد ذكر اسمه ،ولم يتبيّن لمحققي رسائله هوية السائل، ولكن الرسالة (الخامسة والعشرون من مجموع رسائل ابن عبد الوهاب) في حد ذاتها حوت من الأمور المهمة التي تستحق النظر والتوقف.

يسخر ابن عبد الوهاب من عادات الناس في تربية أبنائهم على الصلاة من الصغر، وقال بأنّهم في جهل وغفلة وإعراض عما خلقوا له، وأنهم على «دين الجاهلية وما معهم من الدين النبوي» شيء، لأنهم «بنوا دينهم على ألفاظ وأفعال، أدركوا عليها أسلافهم، نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، ويؤيد ذلك أن الولد إذا بلغ عشر سنين غسلوا له أهله، وعلموه ألفاظ الصلاة، وحيي على ذلك ومات عليه». ثم يتساءل: «أتظن من كانت هذه حاله، هل شمّ لدين الإسلام الموروث عن الرسول رائحة؟».

ثم يوجّه خطابه الى السائل ويقول: «فانظر يا رجل حالك، وحال أهل هذا الزمان، أخذوا دينهم عن آبائهم، ودانوا بالعرف والعادة، وما جاز عند أهل الزمان والمكان دانوا به وما لا فلا، فأنت وذاك..». وتحدّث عن ما يفترضه حقيقة التوحيد القائم على أساس ثلاثة أصول: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، والولاء والبراء. وعدّ ذلك: «حقيقة دين الإسلام». ثم عاد وتطاول على وجهاء أهل زمانه في نجد، وطالب سائله أن يقف على ألفاظ تلك الأصول، وما تشتمل عليه من علم وعمل، حيث ينتهي الى الوقوف على كل مسمّى من العلم والعمل مثل من وصفه بالطاغوت، ومثّل له بـ «سليمان والمويس وعريعر وأبا ذراع..»، ولفت ابن عبد الوهاب نظر سائله الى مصاديق الصنم والوثن في زمانه، إذ لم تعد هي أسماء الآلهة المعبودة المتداولة مثل هبل ويغوث ويعوق ونسرا واللات والعزى ومناة، وإنما تشمل أيضاً «المقامات المعبودة اليوم من البشر والشجر والحجر ونحوها مثل شمسان وإدريس وأبو حديدة..»، وهي الأماكن التي يزعم ابن عبد الوهاب أنها تعبد من دون الله، ورفض رواية خصومه في نفي اعتقاده بإشراك مع الله إله آخر، بقوله: «ومع هذا يقول لكم شيطانكم المويس أن بنيات حرمه وعيالهم يعرفون التوحيد، فضلاً عن رجالهم..»، ويزعم ابن عبد الوهاب بأن الشيخ عبد الله المويس يقول بأن «تعلّم معنى لا إله إلا الله بدعة..».

ويعد الشيخ عبد الله المويس، من بين أكثر من عشرين عالم دين في منطقة نجد، عارضوا ابن عبد الوهاب في دعوته، وكاتبوا المناطق الأخرى، وحذّروا من خطورة عقيدته. والشيخ عبد الله بن عيسى الشهير بالمويس، ولد في حرمة بنجد، وطلب العلم في الشام، وكان خصماً شديداً للدعوة السلفية الوهابية، وتوفي بحرمة سنة 1175هـ.

وكان الشيخ المويس من بين علماء نجد الذين بقوا على معارضة ابن عبد الوهاب حتى الأخير، وهذا ما يفسر سبب الخصومة الشديدة التي أظهرها ابن عبد الوهاب ضده. وعلى خطى الشيخ سليمان بن سحيم، في مراسلة العلماء خارج نجد، فإن الشيخ المويس ذهب الى أهل قبة الكواز، وقبة رجب لإخبارهم بانكار ابن عبد الوهاب لما هم عليه وتحريضهم ضده، كما ذهب الشيخ المويس مع ابن ربيع وابن اسماعيل وهما من خصوم ابن عبد الوهاب، إلى أهل قبة أبي طالب وشرحوا لهم منكرات ابن عبد الوهاب عليهم، ودعوهم الى نبذ دعوته.

وبخلاف الرأي القائل بأن لجوء المويس وابن سحيم وابن ربيعة وابن اسماعيل وغيرهم لمخاطبة سكّان المناطق الأخرى من خارج نجد هو نتيجة «ضعفهم أمام دعوة الشيخ وفشلهم في إيقافها»، حسب دراسة الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف بعنوان: (دراسة استقرائية مجملة لمؤلفات المناوئين مع موقف علماء الدعوة)، فحقيقة الأمر أن هؤلاء راسلوا العلماء والمناطق التي تواصل معها ابن عبد الوهاب، وأراد من أهلها اعتناق دعوته، نجد ذلك واضحاً من رسائل الاستفسار والاستنكار التي وصلت اليه من أولئك الذين تواصل معهم ابن سحيم والمويس وغيرهما، وشرحوا لهم حقيقة دعوة ابن عبد الوهاب.

وكان الشيخ المويس يرسل رد الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الحنبلي الإحسائي (1100 ـ 1164هـ)، من كبار علماء الإحساء، وله كتب في الفقه والفلك وغيرها، ومنها رسالة بعث بها ابن عفالق لعثمان بن معمر، أمير العيينة، وضمّنه بردود علىى شبهات ابن عبد الوهاب. وبلغ من قوة حجج ابن عفالق أن أقنع ابن عمر بالتخلي عن دعوة ابن عبد الوهاب، ونجح الشيخ محمد بن عفالق في ذلك، حيث أرغم ابن عبد الوهاب على مغادرة العيينة متوجهاً الى الدرعية بعد تخلي إبن معمر عنه، واستنكار لدعوته. وإن نجاح ابن عفالق في إقناع ابن معمر، وعبر مراسلات من الإحساء، بضعف حجج ابن عبدالوهاب وهو صهره، الأمر الذي يدل على قوة اقناع ابن عفالق ونفوذه وهو ما دفع ابن عبد الوهاب، لأن يصدر فيه حكماً قاسياً حيث كفرّه كفرا أكبر يخرج من الملة.

ومن بين الكتب التي كان المويس يحرص على إيصالها الى العلماء وطلبة العلم في المناطق الأخرى: كتاب لأحمد بن علي البصري القباني، من سنة أهل العراق، وقد ألف في الرد علي محمد بن عبدالوهاب كتاب (فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبدالوهاب)، و الكتاب عبارة عن مجلد يقول الشيخ محمد عبد اللطيف آل الشيخ بأنه جاء بعضه، وقد استكتبه أهل الحساء وأهل نجد، وفيه نقل الإجماع على تحسين قبة الكواز وأمثالها. وقد زعم آل الشيخ بأن القباني أجاز فيه عبادة قبة الكواز وكذلك سية طالب، وهو قول ممجوج لا يصدر عن عاقل فضلاً عن عالم دين، يعلم بأن العبادة هي لله وحده لا شريك له.

وفي رسالة موجّهة «إلى من يصل إليه من علماء الإسلام»، يتحدث ابن عبد الوهاب عن «فتنة عظيمة» وقعت في منطقته «بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام من العادات التي نشأوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير، مثل عبادة غير الله وتوابع ذلك من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور وعبادتها واتخاذها مساجد..». وهي الملاحظات نفسها التي نجدها تتكرر في رسائله عموماً، حيث يخلص إلى كونها ممارسات شركية، وكأنها صورة نمطية رسخت في ذهن ابن عبد الوهاب، وأراد تعميمها على كل المناطق، حتى يكاد يطبع هذه الصورة في كل رسائله، ما يشير الى حكم بالتكفير يطال بلاد المسلمين كافة.

وشنّ ابن عبد الوهاب هجوماً على العلماء الذين أنكروا عليه دعواه بتكفير من يزعم بأنهم يعبدون مع الله إلهاً آخر. فحمّل العلماء مسؤولية صدود الناس عن دعوته في بعض المناطق، وقال: «فلما عظم العوام قطع عاداتهم، وساعدهم على إنكار دين الله بعض من يدّعي العلم، وهو من أبعد الناس عنه.. وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزيّن لهم وصدهم عن إخلاص الدين لله..».

وتحدّث ابن عبد الوهاب عن مظاهر ما يعتقد بأنها من الغلو « كالغلو في بعض المشائخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه..»، ويزعم بأن الناس تردد عبارات تنطوي على الاشراك بالله، كأن يقول الزائر: يا سيدي فلان أغثني أو أجرني، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك.. وهذا ما لايقوله أحد من باب التأليه أو الإشراك، وإن غاية ما يقصد به، هو الدعاء لله وحده في مكان خاص لنبي أو ولي لا على سبيل العبادة أو الإشراك، فكل هذا غير حاصل وليس من مسلم يعتقد بأن هناك من يعبد ويرزق ويخلق غير الله وهو الضار والنافع والواهب والمحيي والمميت.

وفي رسالة عامة موجّهة «الى من يصل إليه من المسلمين»، يقارب ابن عبد الوهاب موضوعة التوحيد بالطريقة ذاتها، وأن الدين هو معرفة التوحيد، ولكن على فهم خاص به. ويرفض اعتقاد مسلمي زمانه بالتوحيد، ويقول بأنهم يقولون بالتوحيد ولكن لا يفهمون معناه، وهو أن الله هو الخالق والرازق وأشباه ذلك، ولكنّه يرد على ذلك بأنّ: «منهم من لا يفهم معناها، ومنهم من لا يعمل بمقتضاها، ومنهم من لا يعقل حقيقتها، وأعجب من ذلك من عرفها من وجه، وعاداها وأهلها من وجه، وأعجب منه من أحبها وانتسب إلى أهلها، ولم يفرق بين أوليائها وأعدائها..». إذاً هي قسمة شديدة التعقيد، بناء على مواقف افتراضية للناس من التوحيد، وتفتح الأفق على أصول الدين بحسب صوغه لها: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية والولاء والبراء.

وفي ضوء تلك القسمة يؤسس ابن عبد الوهاب لحكم ديني: إيمان وكفر. ويرى بأن من غير الممكن الجمع بين هذه الأقسام/ المجاميع في طائفة واحدة «أتكون طائفتان مختلفتين في دين واحد وكلهم على الحق كلا والله! فماذا بعد الحق إلا الضلال فإذا قيل: التوحيد زين والدين حق إلا التكفير والقتال، قيل اعملوا بالتوحيد ودين الرسول، ويرتفع حكم التكفير والقتال..». وهنا تبدو المعادلة واضحة: الإيمان يعني اعتناق عقيدة التوحيد التي عليها ابن عبد الوهاب، والكفر هو الجحود بها وتالياً القتال بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ولا سبيل ثالث.. وإن مجرد الإيمان بالتوحيد لا يكفي، إذ لا بد من اتباع أحكامه، وما يستوجبه من ولاء وبراء، وإلاّ أصبح عين الكفر وصريحه.

وفي رسالة بعث بها ابن عبد الوهاب الى أهل الرياض ومنفوحة، وكان حينذاك مقيماً في بلدة العيينة، تحت إمرة صهره عثمان بن بن معمر، وكتب الى عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية يروي له ما رآه من الكلام ليكون ذلك سبباً للرسالة.

نشير الى أن قاضي الدرعية الشيخ عبد الله بن عيسى هو القاضي في عهد الأمير محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى، وكان يطلق عليه مطوّع الدرعية، وقد قتل سنة 1164هـ في بلدة الرمضاء في نجد، وروى إبن غنّام في «روضة الأفكار لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام» طرفاً من سيرته وقال عنه بأنّه: «من أهل الإسلام والدين وفي الدنيا من أهل الثروة والتمكين»، وتوضيح ذلك أن عبارة «من أهل الإسلام» تعني أنه من أتباع محمد بن عبد الوهاب، وهي الصفة التي يطلقها إبن غنّام للتمييز بينهم وبين غيرهم، الذين لا يكتسبون صفة الإسلام وان كانوا مسلمين موحّدين. ولا غرو أن يطلق على تلك الفترة التي عاشها عبد الله بن عيسى «الجاهلية الثانية». وأما قوله من أهل الثروة والتمكين، فيشير الى صفة الثراء التي كان عليها والمكانة الاجتماعية التي كان يحظى بها في بلده، مع أنه تجاهل صفة كونه قاضي الدرعية سابقاً.. على أية حال، فإن عبد الله بن عيسى غادر الدرعية الى ضرماء وفيها تزوج وأنجب فيها، وفيها قتل في معركة الرمضاء الكبرى.

وكما في بقية رسائله، يفتتح ابن عبد الوهاب رسالته بآيات قرآنية تنطوي على دلالة معينة مباشرة، أو تحمل في طياتها وعداً ووعيداً، وربما حكماً بالكفر والنار على من أنكر تعاليمه كقوله: «فإذا عرفت ذلك فهؤلاء الشياطين من مردة الإنس، يحاجون في الله من بعد ما استجيب له، إذا رأوا من يعلم الناس ما أمرهم به محمد صلى الله عليه وسلم، من شهادة أن لا إله إلا الله، وما نهاهم عنه، مثل الاعتقاد في المخلوقين الصالحين..» وهو الحكم الذي درج ابن عبد الوهاب على سوقه وإطلاقه بصيغ متعدّدة، وفيه يردّ على منتقديه الذين يوجّهون إليه أسئلتهم «كيف تكفرون المسلمين كيف تسبون الأموات آل فلان أهل ضيف آل فلان أهل كذا وكذا..»، ويربط تلك الأسئلة بجحود العقيدة، أو حسب قوله «ومرادهم بهذا لئلا يتبين معنى لا إله إلا الله، ويتبين أن الاعتقاد في الصالحين النفع والضر، ودعاءهم كفر ينقل عن الملة..». وهذا الربط هو من صنع ابن عبد الوهاب نفسه، ولا دليل عليه سوى ما يفترضه أنه كذلك.

الغريب أن ابن عبد الوهاب الذي يرى بأنه عثر على جوهرة باكتشافه حقيقة التوحيد، عدّ ذلك خاصية به دون سواه، إذ كان الناس قبل دعوته في الجاهلية، بل نفى عن مشايخه معرفة حقيقة التوحيد، إذ يقول: «وكذلك مشايخي ما منهم رجل عرف ذلك، فمن زعم من علماء العارض أنه عرف معنى لا إله إلا الله، أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت، أو زعم عن مشايخه أن أحداً عرف ذلك، فقد كذب وافترى، ولبس على الناس، ومدح نفسه بما ليس فيه». واستشهد بكلام عبد الله بن عيسى عن علماء نجد وعلماء العارض، بأنهم لم يكونوا يعرفون حقيقة التوحيد، وبنى على ذلك طلبه بأن يأتي اهل نجد إليه صاغرين «فاتقوا الله عباد الله ولا تكبروا على ربكم ولا نبيكم، واحمدوه سبحانه الذي من عليكم ويسر لكم من يعرفكم بدين نبيكم صلى الله عليه وسلم ولا تكونوا من الذين بدلوا نعمه الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار..»، وفي ذلك إشارة الى نفسه كما يظهر بوضوح في عبارة (ويسر لكم من يعرفكم بدين نبيكم..)، فهو يخبرهم عن دعوته.

ثم ما يلبث ابن عبدالوهاب أن يصدر أحكاماً بالكفر ضد من لا يعتقد ما يراه وقال: «فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له ويأمرون به الناس؛ كلهم كفار مرتدون عن الإسلام ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفرهم أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق لا يقبل خطه ولا شهادته ولا يصلي خلفه بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم..». وبهذا الحكم القاضي بكفر أهل الخرج ومن لا يكفّرهم، يكون ابن عبد الوهاب قد احتكر حقيقة الإيمان بالتوحيد ونفيها عن غيره كقوله «إذا رأيتم من يخالف هذا الكلام وينكره فلا يخلو: إما أن يدعي أنه عارف وعليه تقديم الدليل أو اتباعاً لرجل جاهل».

واحتّج ابن عبدالوهاب على من قال له بأنّه يكفّر المسلمين بالرد: «وقولكم أنّنا نكفّر المسلمين كيف تفعلون كذا كيف تفعلون كذا» فأجاب وفي ذلك تلخيص لرؤيته العقدية «فإنّا لم نكفر المسلمين بل ما كفرنا إلا المشركين..»، وتفسير ذلك أن ابن عبد الوهاب لم يعتقد بإسلام أحد من غير دعوته حتى يحكم عليه بالكفر، وإنما كفّر من هو في الأصل على الكفر قائم.

وتنقّل ابن عبد الوهاب في تكفير مخالفيه من السابقين واللاحقين، فقال عن ابن عربي وابن الفارض بأنهم «أغلظ كفراً من اليهود والنصارى» وأنهم من «أئمة أهل مذهب الاتّحادية»، وأنّ من لم يتبرأ منهم «فهو كافر برئ من الإسلام ولا تصحّ الصلاة خلفه، ولا تقبل شهادته..».

ووصف علماء عصره من المخالفين بأنهم شياطين وقد «أحلّوا كثيراً من الحرام في الربا والبيع وغير ذلك، وحرموا عليكم كثيراً من الحلال..». وهنا يظهر أن ابن عبد الوهاب ينطلق من رؤية قبلية قائمة على أساس أن كل من هم على غير دعوته كفّار، بصرف النظر عن طبقاتهم وتصنيفاتهم المذهبية والفقهية والكلامية.

وفي رسالة له الى بعض المناطق خارج نجد حملت العنوان ذاته «إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين»، حكم فيها على من ليس على اعتقاده في التوحيد، بأنه واقع في الشرك وقال ما نصّه:«أن التوحيد الذي بينا للناس هو الذي أرسل الله به رسله.. وأن الذي عليه غالب الناس من الاعتقادات في الصالحين وفي غيرهم هو الشرك..». ثم يمثّل لذلك بواقع معاصريه، ويقول بأن لا يحول بينه وبين تكفير وقتال المخالفين إلا الايمان بعقيدته في التوحيد.

وفي رسالة الى شخص يُدعى فايز، يشرح فيها مسألة الشرك بالله، ومثّل فيها لكون الشرك في أهل زمانه أعظم من غيره من الأزمان، فإذا كانت المقارنة بين الرسول وبين مسليمة الكذاب تكشف عن عظم الفواحش فإن «مايفعله أكثر الناس اليوم من دعوة الله ودعوة أبي طالب أو الكواز، أو أخس الناس، أو شجرة أو حجر أو غير ذلك تبين لك أن الأمر أعظم مما ذكرنا بكثير..». وفي هذه الصورة ما يشي بالنظرة المتشائمة والسوداوية التي يحملها ابن عبد الوهاب عن مجتمعه، ما قد يتجاوز مجرد توصيف واقع عقدي في منطقة ما، بل تشير الى النزعة الاصطفائية لديه، وتضخم الذات الذي ينعكس في أحكامه على مخالفيه عموماً. وإن تضخيم ما سمّاه مظاهر الشرك، إنما ليقول هو وأتباعه فيما بعد أن دعوته هي الخلاص، ولكي يظهر منجزها عظيماً مادام الوضع كما يشرحه صحيحاً لا مكذوباً مفترى.

وفي رسائل وردت في القسم الرابع من رسائله، وحملت عنوان «بيان الأشياء التي يكفر مرتبكها ويجب قتاله..».. نقرأ طائفة من الرسائل. منها رسالة كتبها إلى أحمد بن ابراهيم، مطوّع بلدة (مرات) من بلدان الوشم، والمطوّع هو منزلة بين العامي والشيخ، أي من له نصيب من الالتزام والوعي الديني. وقد بعث أحمد بن ابراهيم رسالة الى ابن عبد الوهاب يسأله عن مسألة التكفير، فأجابه على قاعدة أنهما متوافقان في «الحكم الشرعي» فيما يذهب اليه، والخلاف واقع في تكفير المعيّن. ويبدأ ابن عبد الوهاب من مسلّمة لديه بأن «التوحيد الذي ندعو إليه هو دين الله ورسوله، وأن الذي ننهي عنه في الحرمين والبصرة والحسا هو الشرك بالله». ويقيم النقاش على أساس العلم بالتوحيد وعدم العمل به والتبرؤ من الشرك وأهله، ويمثّل لذلك بوجوه إحداها: «إذا صحّ أن أهل الحسا والبصرة يشهدون أن التوحيد الذي نقول دين الله ورسوله، وأن هذا المفعول عندهم في الأحياء والأموات هو الشرك بالله، ولكن أنكروا علينا التكفير والقتال خاصة». ويرجع في ذلك الى تجسيدات التوحيد على سلوك الناس من الحضر والبدو والنساء والرجال، ويذكر صورة لذلك: «هل أهل قبّة الزبير، وقبة الكواز، تابوا من دينهم، وتبعوا ما أقروا به من التوحيد؟ أو هم على دينهم..». ينفي ابن عبد الوهاب أن يكون «الكواوزة وأهل الزبير تابوا من دينهم» ويعد القول بعكس ذلك «مكابرة». وفي صورة أخرى :«وإن أقررتم أنّهم بعد الإقرار أشدّ عداوة ومسبّة للمؤمنين والمؤمنات كما يعرفه الخاص والعام، وصار الكلام في أتباع المويس، وصالح بن عبد الله هل هم مع أهل التوحيد؟ أم هم مع الأوثان؟ بل أهل الأوثان معهم وهم حزبة العدو وحاملو الراية..».

وهنا يستدعي ما كان يقوم به خصومه في التشهير به والقدح في معتقده، وخصوصاً ابن اسماعيل وابن ربيع والمويس حين كانوا يأتون أهل قبة الكواز، وسية طالب ويحذرونهم من دعوة ابن عبد الوهاب وتكفيره لهم واستحلاله دمائهم وأموالهم. وعلى الضد من رأي القائلين بأن لجوء هؤلاء الى خارج نجد للتأليب على ابن عبد الوهاب بسبب نفوذه وانتشار دعوته فيها، فإن ابن عبد الوهاب نفسه يقرّ بأن ثمة مناطق كبيرة كانت مناهضة لدعوته، كما يكشف كلامه لأحمد بن ابراهيم، بأن أهل الوشم وأهل سدير والقصيم، هم على دين الشيخ المويس.

ورغم حديثه عن تكفير المعيّن، إلا أنه بدا متساهلاً وبإفراط شديد في تكفير البدو وقال بالحرف: «وأعظم وأطم أنكم تعرفون أن البادية كفروا بالكتاب كله، وتبرأوا من الدين كلّه، واستهزأوا بالحضر الذين يصدّقون بالبعث، وفضّلوا حكم الطاغوت على شريعة الله واستهزأوا بها..»، ثم يوجّه اللوم على من أنكر عليه تكفيرهم بقول: «ومع هذا تنكرون علينا كفرهم..».

وفي رسالة الى الشيخ محمد بن فارس النجدي الحنبلي، تناول ابن عبد الوهاب مسألة التكفير استناداً الى أقوال العلماء، ووجّه انتقادات لمن يعتذرون بالتكفير، ويعدّهم من أعداء التوحيد، فيما يعدّ المشركين والمنافقين أصدقاء لهم، ويمثّل لهؤلاء برجال في الدرعية والعيينة «الذين ارتدوا وأبغضوا الدين» حسب قوله.

ويذكر ابن عبد الوهاب ما يعتقده نواقض الإسلام العشرة ومنها: «من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة كفر إجماعاً، ومن لم يكفر المشركين، أو شكّ في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعاً». ويرى ابن عبد الوهاب أن النواقض العشرة تسري على الناس في كل الأحوال «ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطراً..».

وفي رسالة جوابية الى رجل من الإحساء يدعى أحمد بن عبد الكريم، وكان على مذهب ابن عبد الوهاب خصوصاً في جانب تكفير المشركين حسب زعمه، ولكن واجه شبهة بسبب عبارات وردت في كتاب تقي الدين في (الإقناع)، وفهمها على نحو غير الذي يريده الأخير. وذهب إبن عبد الوهاب في سياق رفع الشبهة عن سائله، إلى حسم أمر تكفير من عناهم الشيخ مثل قوله: «أن من عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى، وسب دين الرسول بعد ما شهد به، مثل سب أبي جهل أنه لا يكفر بعينه، بل العبارة صريحة واضحة في تكفير مثل ابن فيروز وصالح ابن عبد الله وأمثالهما، كفراً ظاهراً ينقل عن الملة فضلا عن غيرهما..». ومثل هذا الحكم يسقط كل محظور ديني ووضعي من عصمة الدم وحرمة المال والعرض، إذ بهذا الحكم يكون الكافر مباح الدم والمال.

بل وبّخ ابن عبد الوهاب سائله، ووضع شبهته في سياق عوامل ذاتية: «والشبهة التي دخلت عليك هذه البضيعة التي في يديك تخاف تغذى (وفي رواية تضيع) أنت وعيالك إذا تركت بلد المشركين..». وبلاد المشركين ليست مكاناً آخر غير الإحساء، وكل بلد لا يؤمن أهله بعقيدة إبن عبد الوهاب. واللافت أن ابن عبد الوهاب وفي سياق مناصحة سائله، لم يبق أحداً خارج حملته التكفيرية، وتدّرج من تكفير سائله، وانتقل الى أشخاص بعينهم، وصولاً الى تكفير عموم المسلمين: «وأنت والعياذ بالله تنزل درجة درجة أول مرة في الشك، وبلد الشرك وموالاتهم والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم، ثم بعد ذلك طحت على ابن غنام وغيره، وتبرأت من ملة إبراهيم، وأشهدتهم على نفسك باتباع المشركين من غير إكراه لكن خوف ومداراة..». وبعد ذلك يخيّره بين الكفر تصريحاً أو قولاً، ويمثّل له بأشخاص كفّرهم ابن عبد الوهاب كقوله بأنه لم يبق أمامه سوى: «أنك تصرح مثل ابن رفيع تصريحاً بمسبّة دين الأنبياء، وترجع إلى عبادة العيدروس وأبي حديدة وأمثالهما..». وهؤلاء كفّرهم ابن عبد الوهاب لأنهم لا يرون طريقته في الاعتقاد.

يتجاوز ابن عبد الوهاب التردد بين التكفير وعدم التكفير، بل الكلام يدور حول مستوى التكفير وشكله، وهو ما يطالب به ابن عبد الوهاب سائله كقوله: «فأول ما أنصحك به أنّك تفكّر هل هذا الشرك الذي عندكم هو الشرك الذي ظهر نبيك صلى الله عليه وسلم ينهي عنه أهل مكة، أم شرك أهل مكة نوع آخر أغلظ منه؟» والجواب كما يقرّره ابن عبد الوهاب واضح بأن شرك أهل الإحساء أغلظ، بل عدّ عدم شهادته بشركهم أو صرّح حسب قوله «بحسن الشرك وأتباعه وعدم البراءة من أهله» مدعاة للحكم عليه بالردّة الصريحة.

وفي ردّه على قول السائل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكفّر المنافقين أو يأمر بقتلهم، فقال بأن ذلك يتوقف على إظهار الكفر قولاً أو فعلاً من عبادة الأوثان، وأسقط ذلك على أهل الإحساء وقال: «فإن كنت تزعم أن الذين عندكم أظهروا إتّباع الدين الذي تشهد أنه دين الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبرؤا من أشرك بالقول والفعل، ولم يبق إلا أشياء خفيّة تظهر على صفحات الوجه أو فلتة لسان في السر، وقد تابوا من دينهم الأول وقتلوا الطواغيت وهدموا البيوت المعبودة..». فحاجّه بطريقة أخرى بأن بالشرك الذي خرج عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو أقل مما هو عليه أهل الإحساء! وتأسيّاً بعقيدة التكفير يرى ابن عبد الوهاب بأنه يقتفي سيرة العلماء في تكفير من هم مصنّفون على المسلمين كقوله: «ولو ذهبنا نعدد من كفّره العلماء مع ادعائه الإسلام وأفتوا بردته وقتله لطال الكلام..».

وفي رسالة بعث بها الى الشيخ سليمان بن سحيم، وقد أتينا على ترجمته سابقاً، وهو من كبار خصوم ابن عبد الوهاب، ومن حارب أفكاره وحذّر منها، وبعث بالرسائل الى نجد والعراق والشام. وقد حاول ابن عبد الوهاب إقناعه واستمالته إليه، ولكن وجد فيه شخصاً صلب المعتقد متمسّكاً بموقفه، فكتب له رسالة شديدة اللهجة، أظهر فيها نزعته التكفيرية، ونبرته الحادّة في التعامل مع الخصوم.

بدأ ابن عبدالوهاب رسالته دون التحية، التي عادة ما يفتتح بها رسائله مع شركائه في المعتقد، وبدا خشناً وجافاً وقاسياً في توجيه العبارة كقوله: «الذي يعلم به سليمان بن سحيم، أنك زعجت قرطاسة فيها عجائب، فإن كان هذا قدر فهمك، فهذا من أفسد الأفهام..». وما لبث أن صعّد في اللهجة، ووصمه بكل ما يمكن تخيّله من الأحكام ذات الطابع الديني، وقال له: «قبل الجواب نذكر لك أنك أنت وأباك مصرحون بالكفر والشرك والنفاق.. وأنت إلى الآن أنت وأبوك لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله؛ أنا أشهد بهذا شهادة يسألني الله عنها يوم القيامة: أنك لا تعرفها إلى الآن ولا أبوك..». وكرّر ذلك بعبارات أخرى وفي مواطن أخرى: «أن هذا دين الله وأنت وأبوك مجتهدان في عداوة هذا الدين ليلا ونهارا ومن أطاعكما..». واتّهم ابن عبد الوهاب ابن سحيم وأباه، بأنه يعرف بأن السحر والتمائم والحجب من الكفر، ولكن يفعلانها ويمارسانها: «وأنت وأبوك تقولان نعرف هذا لكن ما سألونا فإذا كنتم تعرفونه كيف يحل لكم أن تتركا الناس يكفرون ما تنصحانهم ولو لم يسألوكم؟». ولا تزال الرواية من جانب واحد، حيث لم نعثر على كلام ابن سحيم الذي يرد عليه ابن عبدالوهاب؛ ولكن حسب النصوص فإن الوهابيين يفترون على خصومهم في الماضي والحاضر، بل ويجيزون الكذب على الخصم الذي يضعونه في خانة الكافر المشرك.

يلفت ابن عبد الوهاب الى جانب من عقيدة ابن سحيم، كما يظهر في قوله: «أنّا لمّا أنكرنا عبادة غير الله، بالغتم في عداوة هذا الأمر وإنكاره، وزعمتم أنه مذهب خامس وأنه باطل..». ويشير هذا النص الى أن ثمة خلافاً على التشدّد في الموقف وليس على أصله فالحديث عن «مبالغة» في الأمر وليس عن «مخالفة» فيه.

ما أزعج ابن عبد الوهاب هو تواصل ابن سحيم مع علماء الحجاز الأمر الذي جعله يستشيط غضباً منه وتكفيره: «أنت وأباك لا تعرفان شهادة أن لا إله إلا الله لا تحصر.. وليتك تفعل فعل المنافقين الذين قال الله فيهم : (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) لأنهم يخفون نفاقهم وأنت وأبوك تظهران للخاص والعام».

رسالة ابن عبد الوهاب إلى ابن سحيم، تمثل نموذجاً في تكفير المعيّن، حتى لايكاد يغادر فقرة من رسالته قبل أن يختمها تكفيراً وتبديعاً للرجل، وكأن له معه ثأراً شخصياً. لقد قدّم زعيم الوهابية مطالعة موتورة في تكفير الرجل، وراح يقدّم الدليل على ما يعتقد بأن ابن سحيم «رجل معاند ضال على علم مختار الكفر على الإسلام..». ومن تلك الأدلة أن ابن عبد الوهاب كتب ورقة لشخص يدعى ابن صالح قبل سنتين من تاريخ الرسالة فيها تكفير من أسماهم الطواغيت ومثّل بذلك: شمسان وأمثاله، وأن الرسالة استقبلها ابن سحيم بقبول، وقال حسب ابن عبد الوهاب بأنه «ما ينكر هذا إلا أعمى القلب»؛ ما يعني أن ابن سحيم موافق على ما جاء في تكفير ابن عبد الوهاب لشمسان وغيره. وكذلك رسالة بعث بها ابن عبد الوهاب وفيها كلام للشيخ تقي الدين في «الاقناع» حول دعاء النبي والولي والصحابي؛ والاستغاثة بهم وأنه كافر بالإجماع، وأن ابن سحيم استحسنها، ويستنكر ابن عبد الوهاب عليه «فما الموجب لهذه العداوة».

ثم يذكر ابن عبدالوهاب لابن سحيم وجهاً آخر بأنه «إذا أتاك أحد من أهل المعرفة، أقررت أن هذا دين الله، وأنه الحق، وقلته على رؤوس الأشهاد، وإذا خلوت مع شياطينك وقصاصيبك فلك كلام آخر»، وأهل المعرفة هم من على دين ابن عبد الوهاب، وأما الشياطين والقصاصيب فهم خصومه ومخالفوه. ويواصل سرد أدلته، ويذكر حادثة مذاكرة عبد الرحمن الشنيفي ورفاقه مع الشيخ سليمان بن سحيم «بحضرة شياطينك» حسب قوله، وأنه شهد بأنّ «الطواغيت كفّار، وتبرأت من طالب الحمضي، وعبد الكريم، وموسى بن نوح..»، وسأله بعد ذلك عن سبب تراجعه عن موقفه، وماذا بدا له حتى بات من عاداهم وتبرأ منهم أصبحوا على الحق؟

وفي وجه آخر، يرد فيه ابن عبد الوهاب على فهم ابن سحيم لكلام صاحب كتاب «الإقناع»، فوظّفه ضده وقال: «أنا أذكر لك كلام صاحب (الإقناع) أنه مكفّرك ومكفّر أباك في غير موضع من كتابه». ومن الأدلة التي ذكرها هو كون إبن سحيم «هازل بالدين» وهذا كافٍ للحكم بكفره، ويقول عنه «وهذا مشهور عنك، وعن ابن أحمد بن نوح»! أي الاستهزاء بالدين. وأنه قال بأن المبغض لما جاء به الرسول كافر بالإجماع، وعليه فإن إبن سحيم وجماعته «مبغضون لهذا الدين مجتهدون في تنفير الناس عنه، والكذب والبهتان على أهله»، إضافة الى أدلّة أخرى موجبة لحكم الردّة مثل «إسقاط حرمة القرآن»، ومنها تراجعه عن قوله بأنّ من يدّعي في علي بن أبي طالب ألوهية، فهو كافر، ومن شكّ في كفره فهو كافر، وكذلك السحر وتعلمه والنذر وغيرها.

وكما هو واضح، فإن ابن عبد الوهاب يجعل من معتقده وقناعاته الخاصة محوّراً للجدل والمحاجّة مع ابن سحيم، ويحيلها الى إيمان وكفر، فكل ما يعتقده ابن عبد الوهاب يصبح إيماناً ومن يخالفه فهو الكفر المحض. وهكذا يخلص ابن عبد الوهاب في ذكر أدلته الى القول: «فهذه ستة مواضع في (الإقناع) في باب واحد أن من فعلها فقد كفر، وهي دينك ودين أبيك..». بل زاد في ذلك بأن طالب من يصلي وراءه بعزله عن الصلاة بالناس: «لئلا تفسد عليهم دينهم، وإلا فأنا أظنك لا تقبل، ولا يزيدك هذا الكلام إلا جهالة وكفراً».

وفي سياق مجادلة ابن سحيم حول أن الوسائط لا يكفروا وإنما من يجعلهم وسائط هو الكافر، رمى اهل الخرج بالكفر وقال: «وإنما كفرنا هؤلاء الطواغيت أهل الخرج وغيرهم بالأمور التي يفعلونها هم منها أنهم يجعلون آباءهم وأجدادهم وسائط، ومنها أنهم يدعون الناس إلى الكفر..». ثم ما يلبث أن يعود ابن عبد الوهاب لتكفير ابن سحيم بقوله: «أنت رجل جاهل مشرك مبغض لدين الله، وتلبس على الجهال الذين يكرهون دين الإسلام ويحبون الشرك ودين آباؤهم، وإلا فهؤلاء الجهال لو أن مرادهم اتباع الحق عرفوا أن كلامك من أفسد ما يكون». فهو هنا يحمّل من يصفهم «الجهّال» مسؤولية أكبر بأنهم لم يتركوا الحق فحسب، بل تركوه عن سابق إصرار.

ويرد ابن عبد الوهاب على ابن سحيم في مسألة أن المسلم لا يكفر وعارضه في قوله بأن «من صلى وادعى أنه مسلم لا يكفر»، ومثّل لذلك بأن المنافقين يصلون ويصومون ويجاهدون وأن الله قال فيهم (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)، ولكن ابن عبد الوهاب بدا مربكاً هنا في التصنيف والتوصيف، فالكلام عن معلن ومضمر، وإن المنافقين لم يكونوا فئة مميّزة بين المسلمين، بل قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: «وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم الله يعلمهم..». وهذا دليل على أن التعامل على أساس أن هذا مسلم وهذا منافق غير وارد، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر بالتعامل مع ظاهر الناس، وأما خباياهم فالله يتكفّل بها.

على أية حال، فإن ابن عبد الوهاب، أراد من رسالته تقرير كفر ابن سحيم، فكان يكرّر القدح فيه بين الفقرة والأخرى، وكان يحط من قدره ويفتري عليه، ويقول عنه مثلاً «فليس عندك إلا الجهل المركب والبهتان والكذب».

إلا أن قاصمة الظهر في تكفير ابن عبد الوهاب، هو انتقاله من المعيّن الى العموم، وبطريقة متساهلة كقوله: «ومعلوم أن أهل أرضنا وأرض الحجاز الذي ينكر البعث منهم أكثر ممن يقرّ به، وأن الذي يعرف الدين أقل ممن لا يعرفه، والذي يضيع الصلوات أكثر من الذي يحافظ عليها، والذي يمنع الزكاة أكثر ممن يؤديها..». بل وشمل من القبائل «عنزة وآل ظفير وأشباههم من البوادي» الذين لا يجوز اتباعهم. واستند في حكمه على مقولات سابقين من صحابة كابن مسعود ورموز الحنابلة، كابن القيم وغيره، والتي تجمع على أن «السواد الأعظم ليسوا على دين، وأن أكثر الناس فارقوا الجماعة..». وهذا التساهل في تكفير غالبية أهالي نجد والحجاز والبوادي لدليل على أن ابن عبد الوهاب يؤسس لمشروع دولته الدينية، أكثر من تشخيصه الواقع الديني في الجزيرة العربية. بمعنى آخر، يريد تبرير القتال واحتلال الأراضي ونهب الممتلكات يتطلب «تكفير العموم» وليس «تكفير الأعيان»، فعلى الأول يعوّل في القيام بأمر الجهاد، وتالياً إنشاء الكيان.

وفي رسالة بعث بها ابن عبد الوهاب الى مطاوعة أهل الدرعية، وكان حينذاك في العيينة تحت إمرة ابن معمر، وخصّ كلاً من عبد الله بن عيسى وابنه عبد الوهاب وعبد الله بن عبد الرحمن بالحديث عن تكفير أولاد شمسان وأولاد إدريس، وطالبهم بعدم الانكار على تكفيره لهم، بل معاضدته وتأييده كونهم يقرّون: «أن الكلام الذي بيّنته في معنى لا إله إلا الله هو الحق الذي لا ريب فيه..» وأنّهم ومشايخهم لم يفهموا دين الله بل «ولم يميزوا بين دين محمد صلى الله عليه وسلم، ودين عمرو بن لحى الذي وضعه بل دين عمرو عندهم دين صحيح..». فهو هنا يكفّر من راسلهم ومشايخهم بل كفّر أهل زمانه. ثم بعد ذلك أقام لنفسه صرحاً نبوياً مزعوماً يهدي الى الحق، الأمر الذي يعكس الجنوح المنفلت لدى ابن عبد الوهاب في تنزيه الذات كقوله «فالرجل ـ ويقصد نفسه ـ الذي هداكم الله به لهذا إن كنتم صادقين» ويتحدى مخالفيه بالقول «وأنا إلى الآن أطلب الدليل من كل من خالفني..».

وكثيراً ما يرجع ابن عبد الوهاب الى باب حكم المرتد من كتاب (الإقناع) للشيخ تقي الدين الذي يعتمد عليه في تكفير الآخر خصوصاً في موضوعة الوسائط، أي الذين يجعلون بينهم وبين الله وسائط يدعونهم، حسب زعمه، بل طالب سائليه بأن يقرأوا الكتاب ويفهموه ويطبّقوا ما فيه وكأنه كتاب منزل.

وفي رسالة بعث بها إلى من وصفهم بـ «الإخوان»، وهو وصفٌ يحمل إيحاءات خاصة، وقد يعني أهل دعوته، والمقرّبين منه، أو قد يعني صفة الأتباع.. ويبدو من فحوى مقدّمة الرسالة بأنه على تواصل دائم كما يظهر من قوله: « كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مراراً..».

ومن اللافت أن الأسئلة التي ترد على ابن عبد الوهاب تدور في الغالب عن التكفير، وهذه الرسالة من بينهم. فقد أشكلوا عليه تساهله في التكفير دون حجة، فردّ عليهم بأن من لم تقم عليه الحجة هو «حديث عهد بالإسلام أو الذي نشأ ببادية بعيدة أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف..».

يشرح ابن عبد الوهاب أصل الإشكال للإخوان بأنهم لم يفرّقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة، وأن «أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم»؛ ثم يختم حديثه بتكفيرهم «فإن هذا الذي أنتم فيه كفر..»، وفتح مساحة التكفير فقال بأن «الناس يعبدون الطواغيت ويعادون دين الإسلام فيزعمون أنه ليس ردة لعلهم ما فهموا الحجة..».

الصفحة السابقة