دولة الزهايمر

حين تقرأ سيل المقالات الابتهاجية حول العهد الجديد، تشعر وكأنك أمام فريق من الكتّاب بلا ذاكرة، كونه ينسج قصصاً خيالية وحالمة، ويتطلع الى واقع يفتقر لأدنى شروط النجاح.

ولكن للحظة تتذكّر بأن هذا العهد يديره ملك بذاكرة متقطعة أو مثقوبة، وحينئذ فحسب تدرك بأن المطلوب هو تطبيق القاعدة المشهورة: «الناس على دين ملوكهم»، بمعنى أن يواسي أفراد الشعب ملكهم بالنسيان.. أن ينسوا تاريخ هذا البلد وما ارتكبه آل سعود الأوائل والجدد من جرائم في المناطق التي سيطروا عليها، أو بالأحرى «فتحوها»، وما هو منهج الحكم المتبّع لدى الملوك السعوديين في كل أدوارهم بما يجعلهم نسخة مكرّرة، فهم في البدء والخاتمة يتناسلون من البطن نفسه، والعائلة نفسها، وتربية القصور نفسها.

نعلم ابتداءً بأن ثقافة «مات الملك عاش الملك» أريد تعميمها في كل العهود، وأن كل أمير هو مجرد شخص عادي قبل أن يعتلي العرش؛ فإذا وصل يتحوّل حينئذ الى رجل استثنائي وخارق للعادة والتاريخ.

بإمكان المرء أن يعود الى الإرشيف لقراءة المقالات التي تكتب مع بداية كل عهد جديد، ولسوف يصاب بـ «دوخة» مع «غثيان» ولكن ليس ذلك بسبب علامات الحمل، وإنما بسبب كمية النفاق المستعمل في كتابة هذه المقالات الاطرائية والتمجيدية التي تجعل القارىء عاجزاً عن فهم هذا النزوع الجاري.

نشير هنا الى أن سلمان كونه يمتلك حصّة وازنة في شركة إعلامية تسيطر على عدد من الصحف والمجلات، تجعله أثيراً عند الاعلاميين، وبالتالي سوف ينال حصة الأسد من الإطراء والتمجيد، وعلى فرق البروباغندا السعودية مهمة جبّارة، بأن تنقل عدوى الملك الى الشعب بأن ينسى هو الآخر أقوال وأفعال سلمان في كل ما يخص شؤونهم، خصوصاً تلك المتعلقة بالاصلاحات والحريات والمرأة..الخ.

ثمة فارق جديد طرأ في عهد سلمان يجعله مختلفاً عن سابقه وسوابقه عموماً وهو كونه انقلابياً، إذ «جرف» كل ما بناه عبد الله، وأحاله قاعاً صفصفاً، وأقام مملكة ذات مواصفات خاصة، أطلقنا عليها الدولة السلمانية.

المتفائلون والمتشائلون والليبراليون والسروريون والليبروجاميون والجاميون والخنفشاريون وأضرابهم أجمعوا أمرهم على أن سلمان يختلف عن كل الملوك السابقين في كونه رجلاً مثقفاً، متواضعاً، يستمع النصيحة، ويحب الخير.. وبالغوا في سرد النعوت الخيّرة والصالحة في الرجل حتى ظننا أننا سنورثه!

من يقرأ ويصغي الى تلك الأوصاف يخيّل إليه أن الكلام عن رجل هبط للتو بالبرشوت من كوكب عطارد، وليس هو نفس الرجل الذي كان يدير إمارة الرياض منذ عام 1955، ثم تولى وزارة الدفاع في نوفمبر 2011 وأصبح ولي العهد في يونيو 2012 بعد موت شقيقه نايف.. وليس هو الشخصية المحافظة والأقل انفتاحاً على الاصلاحات كما كان يصفه المراقبون الأجانب.

أوليس سلمان هو نفسه صاحب مقولة أن الديمقراطية لا تناسب المملكة، وهو نفسه أيضاً الذي كشفت وثائق ويكيليكس تسريبات تفيد بأنه قال في اجتماع مع السفير الأميركي في مارس 2007: «إن الإصلاحات الاجتماعية والثقافية التي يحث عليها الملك عبد الله يجب أن تمضي ببطء خشية أن تثير رداً عكسياً من المحافظين». وهو نفسه الذي قال في مقابلة صحفية مع مجلة (دير شبيغل) عام 2010: «لا يمكن أن تكون لدينا ديمقراطية في السعودية، وإلا ستؤسس كل قبيلة حزباً، وسنصبح مثل العراق وتنتهي بنا الأمور إلى الفوضى».

عزوف سلمان ونفوره من الإصلاحات السياسية، يقابله نزوع نحو تعزيز دور المؤسسة الدينية وتقريب الصقور فيها الذين جرى استبعادهم في المرحلة السابقة مثل الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، والمحسوب على الجناح السديري، ولذلك من الطبيعي أن تتوقف التغييرات الشكلية التي قام بها عبد الله على مستوى تقليص دور المؤسسة الدينية ورجال الدين وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل تبدو من كتابات الاسلاميين السعوديين بعد تولي سلمان العرش أن ثمة صعوداً لدورهم على حساب الإصلاحيين.

مؤشر آخر لابد أن يؤخذ في الحسبان دائماً، وهو وجود محمد بن نايف وزير الداخلية وولي ولي العهد في موقع الرجل الثالث في النظام السعودي سوف يبعث رسالة واضحة بأن هذا العهد لا علاقة له بالحريات ولا الاصلاحات، وإن القوة التي يتمتع بها محمد بن نايف تجعل منه الرجل القمعي الأول للحريات، بل يمكن القول بأن عهد سلمان سوف يكرس نموذج الدولة العميقة التي تأتي بخلفية انتقامية بعد موجة الاحتاجات التي شهدتها المملكة طيلة السنوات الثلاث الماضية.

بكلمات أخرى أن مملكة القمع والصمت سوف تكون واقعاً يعيشه المواطنون في عهد سلمان.

هناك اليوم عدّة آلاف من سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين والناشطين الحقوقيين والمدافعين عن حقوق الانسان وراء القضبان، وكل هؤلاء يقبعون في السجن بأوامر صدرت من محمد بن نايف الذي بات أقوى مما سبق. إن أي كلام إيجابي عن عهد سلمان يتجاوز ذاكرة منهكة بالأسماء والمشاهد والقصص التي باتت مرتبطة بسياسة القمع الممنهج.

إن تعمّد فريق البروباغندا مدفوع الأجر استدراج الرأي العام الى تناسي قضاياه الكبرى عبر تسويق شخصية هلامية وتلبيسها لسلمان.. ليس سوى محاولة تضليل أخرى تهدف الى تعطيل حركة التغيير التي يفرضها الناس. فالتغيير لا يتحقق اليوم الا بفضح دولة الزهايمر الذي يراد له أن يكون نهجاً وليس مرضاً عضوياً. فعليكم أن تنسوا ما فعله سلمان واقبلوا به كما يريد تصويره الإعلام المنافق لكم!

الصفحة السابقة