أضواء على الميزانية الجديدة

ميزانية رواتب وتسديد ديون

منذ عام 1982 شهدت البلاد بداية نهاية دولة الرفاه، وأصبح مرض العجز في الموازنة السنوية مزمناً، بفعل ارتفاع حجم المصروفات وتدني مستوى الايرادات، وبمرور السنوات لم يعد ممكناً أن يرى فيه الاقتصاد الوطني مخرجاً من أزمات متراكمة.. ارتفاع في معدلات البطالة، تدني مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، زيادة في الدين الداخلي، تدهور الاداء الحكومي، وانتشار ظاهرة الفساد الاداري والمالي..توقّف شبه تام في خطط التنمية في أبعادها المختلفة البشرية والاقتصادية.. ولم يكن هناك سوى (المعجزة) خياراً نهائياً، وحلاً حاسماً لاقتصاد يسير الى حتفه.

بارقة أمل بزغت في العام الماضي، حيث تبدّل العجز في الموازنة العامة الى فائض، ولكن من المؤسف لم يشهد المواطن أي أثر له على الاوضاع المعيشية، أو في تحسين ظروف السكان الصحية والاجتماعية، فقد انطفأت البارقة سريعاً، وعادت معزوفة العجز من جديد الى الموازنة السنوية لتسجّل اخفاقاً اضافياً جديداً في الأوركسترا الاقتصادية للدولة.

في الخامس عشر من ديسمبر الماضي أعلن عن الميزانية السنوية لعام 2004، بأرقام متحفظة الى حد كبير، بالرغم من تحسن الاداء الاقتصادي في العام الماضي حيث سجّلت أسعار النفط إرتفاعاً كبيراً فاق السعر الافتراضي المتوقع وهكذا المستوى القياسي للانتاج، مما أدى الى زيادة ايرادات الدولة. بيد أن هذه الزيادة لم تؤد الى رفع مستوى الاداء الاداري والمالي للحكومة، حيث بقيت قطاعات حيوية تعاني من نقص حاد في المخصصات المالية، اضافة الى تفاقم مشكلات اجتماعية حادة مثل الفقر والبطالة، بالرغم من الوعود التي أطلقتها القيادة السياسية بالاهتمام الخاص بها.

إن الظروف الاقليمية التي تشهدها المنطقة في الوقت الراهن ومنذ الاحتلال الأميركي للعراق والاوضاع الأمنية المتدهورة في الداخل عقب سلسلة التفجيرات التي ضربت مركز السلطة من قبل جماعات العنف، ومن ثم إنخفاض سعر الدولار في الاسواق العالمية بطريقة غير مسبوقة، ساهمت في وضع تقييدات على الميزانية السنوية لهذا العام. بالرغم من أن سعر البترول المتوقع بحسب ما ورد في الميزانية لهذا العام هو 20 دولاراً للبرميل الا أن ثمة تبدلات دراماتيكية متوقع حدوثها خلال فترة لاحقة كما تشير الى ذلك تقارير اقتصادية داخلية ودولية على أساس أن السوق النفطية قد تشهد تراجعاً ابتداءً من منتصف هذا العام. فمن المتوقع حصول تراجع في سعر البترول الى ما يقرب من عشرة دولارات، مع الزيادة المتوقعة في إنتاج النفط العراقي، حيث يتوقع ارتفاعه الى ما يربو عن مليوني ونصف البرميل يومياً، اضافة الى دخول السعودية الى منظمة التجارة العالمية وخضوعها التام لقوانين السوق بما يتطلب اعادة هيكلة سياسية واقتصادية، بما ستسهم هذه العوامل وغيرها في التأثير على الاوضاع الاقتصادية الداخلية.

وبحسب الارقام الواردة في ميزانية هذا العام فإن إجمالي الايرادات يتوقع وصولها الى 200 بليون ريال فيما يتوقع وصول اجمالي المصروفات الى 230 بليون ريال، أي بفارق 30 مليار ريال العجز المتوقع لهذا العام. وتشكل ايرادات النفط المتوقعة 150,1 بليون ريال ما بين 75 ـ 85 بالمئة من إجمالي ايرادات الدولة، على أساس معدل انتاج يصل الى نحو 8 ملايين برميل يومياً، فيما تعتمد باقي الايرادات على دورة العمل في القطاع النفطي، الامر الذي يجعل الاعتماد على هذا القطاع محفوفاً بمخاطر اقتصادية نتيجة للتقلبات السريعة التي تشهدها الاسواق النفطية وارتباطها بالاوضاع الاقتصادية والسياسية الاقليمية والدولية.

وفي محاولة لتعويض عجز الدولة عن رسم خطط اقتصادية تقوم على تنويع مصادر الدخل وتوسيع القاعدة الانتاجية المحلية، سعت القيادة السياسية السعودية في الآونة الاخيرة الى تحقيق أكبر قدر من الاستقرار في السوق النفطية من خلال عقد أو توثيق الروابط الاقتصادية والسياسية مع مصدري النفط من خارج منظمة الأوبك، من أبرزها الزيارة التاريخية التي قام بها ولي العهد الأمير عبد الله العام الفائت الى روسيا، المنتج الأكبر في العالم للنفط، حيث تم التوصل الى تفاهم مشترك حيال دعم استقرار أسعار البترول في الاسواق الدولية والمحافظة على سقف انتاجي محدد من أجل تفادي انهيار الاسعار، يضاف الى ذلك التفاهمات الثنائية بين الحكومة السعودية والدول الاعضاء في منظمة الأوبك.

ومهما يكن، فإن الاعتماد شبه الكامل على النفط في تحصيل الايرادات المالية يرهن اقتصاد الدولة الى متغيرات غير متوقعة سواء في الداخل أو في الخارج، مع الأخذ بنظر الاعتبار إحجام الحكومة عن العمل بتوصيات مؤسسات اقتصادية دولية الحاثة على تنويع مصادر الدخل، والاسراع في عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية وتشجيع القطاع الخاص على المشاركة الفعالة في النشاط الاقتصادي الداخلي الى جانب فتح الابواب امام الاستثمارات الاجنبية في مجالي النفط والغاز، وما يتطلب ذلك كله من تسهيلات قانونية وادارية من أجل تطمين المستثمرين الوطني والاجنبي بوجود غطاء قانوني يكفل الحماية لهم ويسهّل مهام عملهم في السوق المحلية.

وبالرغم من الاداء الاقتصادي المعتدل نسبياً خلال العام الماضي، والذي كان يستند على سعر متوسط افتراضي للبرميل، أي 17,5 دولارا، الا أن التحوّلات الاقتصادية والسياسية والامنية في المنطقة تفرض نفسها على السوق النفطية، الأمر الذي يجعل افتراض سعر متوسط للبرميل 20 دولار محاطاً بالشك نظراً الى الصورة القاتمة التي ترسمها التقارير الاقتصادية الدولية عن المستقبل. نشير هنا الى أن الكويت ثاني أكبر مصدر للنفط في دول مجلس التعاون الخليجي قد وضعت ميزانيتها العامة على أساس سعر متوسط هو 15 دولار للبرميل، من أجل تقليص فرص تدهور أوضاع السوق النفطية، ووضع الضمانات الكفيلة التي تحول دون اضطراب شديد في الميزان التجاري.

إن الزيادة النسبية في سعر خام برنت وخام النفط العربي حتى شهر ديسمبر الماضي قد تكون إحدى المحفزات على رفع السعر الافتراضي للبرميل في العام القادم والذي يتوقع محافظته على معدل مرتفع حتى نهاية الربع الأول من هذا العام، أي في موسم الشتاء حيث يصل فيها الاستهلاك والطلب على النفط الذروة، مع الأخذ بعين الاعتبار الانخفاضات النسبية في المخزونات النفطية في الولايات المتحدة ودول أوروبية اخرى، ولكن يبقى الحديث عن فرص انتعاش في السوق النفطية في العام القادم معتمداً على توقعات متفائلة مستمدة من سيرورة أسعار النفط في العام الفائت، فيما قد تسهم عوامل أخرى في تبديدها، مثل عودة العراق الى السوق النفطية بمعدل يصل الى 2,8 مليون برميل يومياً، إضافة الى تواصل تدهور سعر الدولار مقابل العملات الرئيسية في العالم حيث لايبدو حتى الآن أن ثمة تحسناً سريعاً أو في المدى المنظور في قيمة الدولار. وبالرغم من الجهود الحثيثة التي تبذلها دول الأوبك من أجل التوصل الى اتفاق شبه صارم بشأن المحاصصة الانتاجية وسعر محدد للنفط، اضافة الى تشكيل إطار للتفاهم والتنسيق مع الدول المصدرة للنفط خارج أوبك، مثل روسيا التي تخضع هي الأخرى لضغوطات اقتصادية كبيرة من أوروبا والولايات المتحدة، بالرغم من أن الأخيرة تميل كثيراً الى دعم سعر مرتفع للبترول لإعتبارات إقتصادية داخلية، الا أنه وفي نهاية المطاف فإن مايجب الاشارة اليه إن مستويات العرض والطلب تخضع لتبدّلات سريعة، وليس المناخ سوى أحد العوامل المؤثرة في حركة السوق النفطية، حيث يتوقع انخفاض الطلب على البترول بدءا من الربع الثاني والثالث من هذا العام، وهما يمثلان فترة تقلب شديدة في السوق النفطية، وهناك عوامل أخرى شديدة الاهمية منها تزايد صفقات بيع النفط من خارج أوبك، وارتفاع جحم العرض، وارتفاع معدلات الضريبة الجمركية، والاستكشافات النفطية الجديدة من قبل الشركات الكبرى..

إن الحصة المقترحة للمملكة من الانتاج النفطي اليومي لهذا العام قد انخفضت من 8,4 مليون برميل يومياً الى 7,9 مليون برميل، مع زيادة على الطلب ستحصل هذا العام، بناءً على تقديرات وكالة الطاقة الذرية. نشير هنا الى أن مستوى انتاج المملكة في العام الماضي هو الأعلى منذ عام 1992 ولعل ذلك يفسّر جزئياً على الاقل ارتفاع الواردات النفطية. على أن ما يلفت الانتباه، أن إتجاه الايرادات غير النفطية ظل كما هو دون تغيير، بالرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة على المستويات المحلية والاقليمية والدولية، وأن الزيادة المتوقعة في الايرادات غير النفطية مرتبطة بدرجة أساسية وجوهرية بالنفط.

عجز الموازنة لهذا العام قد يدنو قليلاً عن عجوزات الموزانات السنوية في الاعوام الفائتة بناء على تقديرات متدنية للمصروفات تقل بنحو 8 بالمئة عن الاعوام السابقة، والتي كانت تصل فيها المصروفات الى 250 بليون ريال، ولكن في الوقت نفسه نشير الى أن المصروفات في الغالب تخضع أولاً لهيمنة بند الرواتب، التي تشكل نسبة 60 بالمئة أي 138 بليون ريال من إجمالي المصروفات، الأمر الذي يترك عملية التنمية بطيئة للغاية بسبب ضآلة المصروفات الرأسمالية. وثانياً خدمة الدين الداخلي الذي بلغ ما يربو عن 700 مليار ريال، ويمثل هذا الدين أكثر من 85 بالمئة من الناتج المحلي لعام 2003 وهذه نسبة تعد جد خطيرة بحسب المقاييس الدولية، ومن الملاحظ أن الدولة فشلت حتى الآن في رسم خطة عملية في كيفية إدارة الدين الداخلي المتراكم والذي يستنزف ما يزيد عن 13 بالمئة من إجمالي المصروفات الحكومية في هيئة فوائد على الدين الأصلي، وستزداد الاوضاع الاقتصادية سوءا فيما إذا قررت الحكومة المضي في تنفيذ مخططها في ميزانية توسعية بعجز يبلغ 30 بليون ريال لعام 2004 والذي سيؤدي بطبيعة الحال الى ارتفاع نسبة الدين الى الناتج المحلي الاجمالي الحالي بما يصل الى 87 بالمئة بما يزيد في تدهور الاوضاع الاقتصادية، حيث يبلغ نصيب كل مواطن من هذا الدين 27 ألف ريال، وهذا نذير خطر شديد.

وفيما تصدّرت المخصصات المالية في قطاعي الدفاع والأمن من مخصصات الميزانية حيث بلغت 72.46 بليون ريال أي بزيادة 3 بالمئة عن السنة الماضية، فيما تم تخفيض مخصصات تنمية الموارد البشرية بمعدل 30 بالمئة عن مخصصات العام الماضي، وكان نصيب تنمية الموارد الاقتصادية 2,1096 بليون ريال أي بمستوى أدنى من مخصصات العام الفائت، فيما بلغت مخصصات تنمية البنى التحتية 1,5096 بليون ريال. وتظهر الميزانية أن مخصصات الادارات العامة والنفقات الحكومية الأخرى بالرغم من تخفيضها مقارنة بالعام الماضي تفوق مخصصات قطاعات حيوية مجتمعة مثل تنمية الموارد الاقتصادية والتنمية الصحية والاجتماعية والخدمات البلدية، والنقل والاتصالات وتنمية الموارد البشرية، ومؤسسات الاقراض الحكومية والاعانات المحلية.

وبالرغم من الحديث عن تخفيضات في مخصصات بعض القطاعات التي كانت تستأثر بالنصيب الأكبر من واردات الدولة، الا أن قطاعات حيوية كالخدمات الصحية والاجتماعية ومؤسسات الاقراض الحكومية والاعانات والنقل والاتصالات شهدت تدهوراً حاداً بفعل المخصصات المالية المتدنية في هذه القطاعات.

نشير في الأخير الى مشكلة البطالة التي بلغت معدلات مخيفة، والتي قدّرتها الاحصاءات الحكومية في نهاية عام 2003 بنسبة 9.6 بالمئة، الا أن تقديرات مستقلة ترفع النسبة الى ما يزيد عن 30 بالمئة، وبالرغم من معرفة الحكومة بخطورة وحجم المشكلة، الا أنها فشلت حتى الآن في وضع خطة شاملة وجادة من أجل توفير فرص التوظيف لعدد كبير من العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات والمعاهد المهنية المتخصصة. مع الأخذ بنظر الاعتبار الزيادة السكانية العالية في المملكة وحرمان أعداد كبيرة من الشباب من فرص حياة أفضل بما ينتج عنه من مشكلات اقتصادية واجتماعية وأمنية.

الصفحة السابقة