الدولة الهالكة

تستوقف المراقب جملة من المقالات التي تكتب هذه الأيام عن مآلات النظام السعودي نتيجة السياسات الانفعالية التي يعتنقها في ردود فعله على متغيرات المنطقة، في محاولة للهرب من أزمة الحكم الداخلية..

في مقالة للكاتبة كاثرين شكدوم في موقع (مينت برس نيوز) في 10 يونيو الجاري بعنوان (البيت السعودي: هل هو على وشك الاحتراق، الانفجار، أم الانهيار؟). تساؤل قد يبدو تشاؤمياً أو حتى تحاملياً، كما يحلو لنخبة من الاعلاميين والسياسيين المقرّبين من العائلة المالكة توصيفه، ولكن السؤال لا يبدو اعتباطياً ولا مزحة سمجة، بل تستند الى قراءة تحليلية عميقة وجادة.

تقول الكاتبة بأن دراسات الفضاء تفيد بأنه في اللحظة التي يصبح فيها النجم على حافة الفناء، حيث يكون جوهره غير مستقر، يبدأ بعملية تفكيك ذاتي، ويبدأ بالتوسع بعيداً خارج حجمه الاعتيادي، ويظهر عملاقاً، فيما الحقيقة أنه في أشد حالات ضعفه ووهنه.

ويرى الكاتب ستيفين ليندمان، بأن هذا التصوير يلخّص الحالة الدقيقة التي وجدت السعودية نفسها فيه في الوقت الراهن.

النقاش التقليدي والدفاعي الى حد ما يفيد بأن المملكة تمسك بزمام الأمور، وتستقوي بثروة هائلة تقدّر بتريليونات الدولارات، كما تتمتع بدعم الحلفاء الغربيين الأقوياء، ولكن ليندمان يرى عكس ذلك تماماً، ويقول بأن البيت السعودي على حافة التحلّل، وأن قوته «عفى عليها الزمن، ومحكوم عليها بالتداعي وسط النهضة العربية الوليدة».

لقد خرج النظام السعودي عن تقاليد التدخّل غير العسكري التي كان يتبعها سابقاً، وذلك بإعلانه حرباً شاملاً على اليمن في 26 مارس الماضي، فيما يهدّد إيران بسبب تمدّدها على ما يعتقده «إمبراطوريته السنيّة». ويرى ليندمان بأن «السعودية ليست نصف القوة التي تظهر بها.. العكس تماماً في واقع الأمر. فحاجة الرياض الى اللجوء الى الحرب للحفاظ على امبراطوريتها يبلغني بأن هذه السلطة تتهاوى. فالتنين يركل ويقتحم طالما أنه يشعر بالسلطة تاركاً مخالبه. ولكن في نهاية المطاف، فإن الدمار سوف يأتي من داخل البيت السعودي. فحكومة الملك سلمان في شكلها الأخير (بن نايف وبن سلمان ركناها) سوف تقوم بدور التعافي المؤقت لسفينة تغرق».

الصحافية اللبنانية في جريدة (الحياة) راغدة درغام، قدّمت قراءة نقدية ناعمة في أكثر من مقالة حول الاداء السعودي في الحرب على اليمن. وسواء كانت تلك القراءة تستند الى معطيات أو توصيات من صاحب الجريدة، الأمير خالد بن سلطان الذي خسر رهانه في وزارة الدفاع بعد أن كانت حكراً على بيت سلطان لعقود طويلة، فإن الآراء التي قدّمتها درغام تتّسم بالجرأة غير المعهودة في الصحف السعودية.

في مقالتها المعنونة (خيارات المنطقة لوقف التشرذم) في 5 يونيو الجاري استعارت مصطلح «الصبر الاستراتيجي» الذي استخدمه الرئيس الأميركي بارك أوباما في مواجهة داعش ثم أمين عام حزب الله لتوصيف الموقف اليمني في الرد على العدوان السعودي، واستعملته درغام لتوصيف حالة المنطقة العربية «الواقعة بمعظمها على حافة الإنهيار» وقالت بأن عليها الالتزام بهذه الاستراتيجية في مواجهة خطر داعش، لأن الغرب لا يبدو في عجلة من أمره «لأن في ذهنه الإطالة ليتسنى له تدمير وتفتيت الدول العربية وحضاراتها وتحويل شعوبها إلى قطيع يرعاه».

في سياق هذا التصوّر تضع درغام الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه السعودية، حين تجاهلت خطر داعش الذي يشكل تهديداً وجودياً للدول العربية «وبالذات السعودية» على حد قولها. وترى درغام بأن استراتيجية الصبر الاستراتيجي تنطوي على تهديد بزوال الدول العربية، وأن العدوان على اليمن «يشكّل جزءاً من استراتيجية استنزاف الدول الخليجية..».

وعلى أفق أوسع ترى درغام بأن «اليمن يشكّل اليوم أهم امتحان للعلاقة الأميركية - الخليجية، بالذات الأميركية - السعودية، لأن التحالف العربي في اليمن لا يلقى موقفاً أميركياً يتفهّم منطق التحالف العربي»، وتوضّح بأن ثمة فارقاً شاسعاً بين المنظور العربي والمنظور الأميركي لحدث اليمن. وتستند في ذلك الى أحاديث مع صنّاع القرار في الإدارة الأميركية في أعقاب القمة الخليجية - الأميركية في كامب ديفيد، حيث وجدوا بأن «إدارة أوباما مصرّة على تصوّرها، وهي ترى أن الرد السعودي والعربي على تطورات اليمن كان مفرطاً».

وتقدّم درغام نصيحة للنظام السعودي وتنطوي على جنبة نقد غير مغفولة، بما نصّها: «قد يكون في المصلحة السعودية الإصرار على عدم الانزلاق إلى مستنقع في اليمن، وهذا يتطلب إما استراتيجية إقدام عسكري نوعي، أو استراتيجية خروج». وترّجح درغام «استراتيجية خروج مدعومة بخطة «مارشال» لإعادة بناء اليمن بنيوياً بشراكة دولية، إنما بأموال عربية». وتحاول «تذويق» الخروج بحيث لا يعني «الخسارة أو الهزيمة وإنما تعني قطع الطريق عليهما».

وتشير درغام من طرف خفي الى ما يدور في كواليس أمراء آل سعود وتذمرهم من الدور العماني رغم أنه في صالحهم إن أرادوا الخروج والنزول من على الشجرة «بدلاً من التذمر من تغريد عُمان خارج السرب الخليجي، لعل من المفيد اليوم استخدام الضيافة العُمانية في إطار استراتيجية الخروج من اليمن».

مقاطع أخرى نقدية أطلقتها درغام في مقالتها ومنها «الاستراتيجية الكبرى التي من الضروري للقيادات الخليجية التفكير فيها بعمق يجب أن ترتكز على مراجعة الأخطاء الاستراتيجية التي ساهمت في الوصول إلى حيث المنطقة العربية اليوم». وأن المراجعة هذه ضرورية لحماية المنطقة العربية «من الانزلاق إلى الانهيار والتفتت».

وفيما يقرع كتّاب آل سعود طبول الحرب في التبشير بحروب أخرى قادمة لمواجهة النفوذ الايراني، ينبري ناصحون من كل الأطياف (أمراء مهمّشون، سياسيون حريصون، كتّاب قلقون) لإقناع من يهمه الأمر بوقف محرّكات الغرائزية الهالكة.. قبل أن تصل السفينة الى القاع.

الصفحة السابقة