السعودية الجديدة.. القديمة

مملكةٌ عبء على شعبها والمنطقة

محمد قستي

لا تستطيع الرياض تغيير مسار مستقبلها، وموقعها المُهمَّش في خارطة عالم متغيّر يشمل الشرق الأوسط ولا يقف عنده، بالنظر الى أن عناصر قوّتها شبه ثابتة، أو لنقل جامدة، إن لم تكن تميل بقدر ما نحو التآكل، وهي عناصر قوة لا تفي بحفظ موقع متقدّم للرياض في هذا العالم الجديد الذي بدأت ترتسم ملامحه منذ عقد على الأقل، والذي يمثّل الإتفاق النووي الإيراني مع الدول الست الكبرى، واحداً من تجليّاته وتمظهراته. فالرياض لم تضف الى نفسها عناصر قوّة جديدة، يوم كان بإمكانها فعل ذلك في الماضي، في حين ان الوقت لا يسمح لها ببناء قوّة إضافية على مسرح السياسة الإقليمية والدولية، تكون فاعلاً فيه.

ما لدى الرياض، هو إمكانات اقتصادية نفطية دأبت على استهلاكها دون أن تبني اقتصاداً منتجاً متنامياً، ودون أن تحقق شرائط تقدّم علمي، فتكون قد استثمرت شيئاً منها لمستقبل أجيالها. فحسب المعطيات الحالية، تبيّن أنه لا توجد جامعة سعودية واحدة من بين أفضل خمسمائة جامعة في العالم. ومعظم مخرجات التعليم السعودي لا تمتُّ الى هذا العصر، عصر القوة والنماء، ولا تقدّم إضافة الى اقتصاد يكاد يعتمد بشكل شبه كلّي على النفط والمنتجات النفطية.

والرياض فوق هذا لم تستثمر بنحو اقتصادي ـ وكما تفعل دول خليجية عديدة، واوروبية كالدانمارك مثلاً ـ الفائض المالي لديها، بل لم تفلح حتى في تحقيق الرفاهية لشعبها رغم تلك الوفرة. وعليه فإن القوة الإقتصادية السعودية لا تؤهلها للعب دور على المسرح الإقتصادي العالمي، ولا حتى السياسي منه، فقد تقدّمت عشرات الدول ـ وكثير منها غير نفطية ـ واحتلّت مواقعها، وصار حجم اقتصادها أكبر من اقتصاد السعودية نفسه.

ومن عناصر القوة الثابتة للرياض أو التي بدأت ليس بالنضوب فحسب، بل أضحت في جانب أساس عنصر تدمير، هو المكانة الدينية لها، كونها تشرف على الحرمين الشريفين، وتزعم بأنها الدولة الاسلامية الوحيدة التي تحكم الشريعة، وتدافع عن المسلمين وقضاياهم، وجالياتهم في كل مكان.

لم يعد الدين بنسخته الوهابية يخدم النظام السعودي، لا على صعيد الداخل ولا على صعيد الخارج. لقد استخدمت الوهابية ببشاعة من قبل آل سعود، في تعزيز النفوذ السياسي الخارجي، ولتحقيق زعامة دينية وسياسية مدعومة بأموال النفط. لكن هذه الصورة تغيّرت كثيراً، فالوهابية ـ الأقلّوية في المجتمع المُسعوَد ـ تحوّلت الى عنصر تفريخ للعنف ضد نظام الحكم من جهة، كما أنها أصبحت ـ بفعل تحالفها مع آل سعود ـ عنصر تحفيز للمعارضين لنظام الحكم، المتهم بخنق المجتمع سياسيا واجتماعيا، كما وأصبحت أداة تبرير وشرعنة لقمع المواطنين.

في الخارج أيضاً، لم يعد للرياض تلك المكانة الدينية، فقد عزّزت معظم الدول العربية والاسلامية، مؤسساتها الدينية المحلية، من أجل الاستقلال بالقرار الديني والمرجعية الفقهية عن السلطة الدينية السعودية، التي أصبح ينظر اليها على أنها شرٌّ مطلق لا يأتي منه سوى التكفير والتطرّف والعنف. وعليه، تدهورت مكانة الرياض الدينية، ومكانة مؤسستها الوهابية، المعروفة بالرجعية والتخلّف والجمود والتطرّف وتفريخ العنف، كونها مرجعية فكرية لكل حركات العنف القاعدي والداعشي.

اليوم يُنظر الى الرياض كمصدّر للوباء والشرّ والفتن والحروب، من خلال أيديولوجيتها الوهابية، ونزعة حكامها الاستعلائية. وزيادة على ذلك، فإن انخراط الرياض في معارك حربية وسياسية تدميرية في المنطقة، وقد خسرت أكثرها، قضى على إمكانية تبوّئها موقعاً متقدماً بين اللاعبين على الصعيد الإقليمي والدولي. ويرجح أن تتدهور هذه المكانة أكثر فأكثر مستقبلاً.

المعنى الذي نريد أن نصل اليه هنا، بأن الرياض غير مؤهلة ـ من خلال ما هو متوفّر لديها من عناصر القوّة المادية، الإقتصادية والعسكرية والسياسية والدينية والعلمية ـ أن تلعب دوراً متميّزاً في الأحداث القادمة، أو أن يكون لها دورٌ رئيس في تشكيل صورة الشرق الأوسط.

صحيح أن طموح آل سعود ونخبتهم النجدية الدينية والتكنوقراطية كبير، لكن الطموح والرغبة لا يكفيان لصناعة (سعودية جديدة) بنفس امكانيات وعقليات وسلوكيات (السعودية القديمة)، خاصة بالنسبة لبلد لا يحمل مشروعاً سياسياً، ولا يمتلك رؤية مستقبلية لذاته أو للمنطقة، وليس لديه من المرونة السياسية ما يجعله قادراً على تجيير الأحداث لصالحه، أو تخفيف وطأتها عليه.

من الواضح أن عصراً جديداً قد بدأ؛ فلم تعد الولايات المتحدة قطباً وحيداً في العالم، كما لم تعد منطقة الشرق الأوسط، او حتى منطقة الخليج ـ بعربها وفرسها ـ حكراً على القوى الغربية، فهناك دورٌ جديد لروسيا والصين لم يقدر لهما أن تلعباه منذ عقود، ان لم يكن منذ قرون، وستكون البوابة إيرانية هذه المرّة. والشرق الأوسط اليوم، خاصة بعد الاتفاق النووي الإيراني، يدشّن عصر انحلال لقوتين أساسيتين لعبتا دوراً أساسياً خلال العقود الماضية على موج قوةٍ أمريكية صاعدة قبل أن تتراجع هي الأخرى. هاتان القوتان هما اسرائيل والمملكة السعودية.

سعودية المستقبل هي استكمال لسعودية الحاضر، حيث سيزداد تقلّص نفوذها ومكانتها الاستراتيجية لصالح إيران (الجديدة هي أيضاً)، التي تمتلك القوة العسكرية المتصاعدة، والمشروع السياسي الواضح، والإمكانات العلمية والإقتصادية المتصاعدة، والدولة التي يُنظر اليها ـ من قبل الدولة الكبرى ـ على أنها دولة مسؤولة، براغماتية، بعكس السعودية التي تتحكم فيها ردّات الفعل، وتميل الى انتهاج سياسات غير مسؤولة (دعم القاعدة وداعش مثلاً).

وسعودية المستقبل، ستكون محكومة بما زرعته في الماضي، إذ لن يغيّر سلوكها الجديد شيئاً كثيراً من الحصاد المرّ الذي ستحصل عليه. لا تستطيع الرياض ـ وهي تريد ذلك ـ أن تغيّر وقائع السياسة الدولية والإقليمية في الوقت الحاضر. ففي حين تمضي كبريات دول العالم ـ بما فيها الحامية للنظام في السعودية ـ نحو عالم جديد يلملم الوضع السياسي المبعثر، بعد أن تأكّد أن سياسة (الفوضى الخلاّقة) لم يعد بالإمكان السيطرة عليها واستثمارها كما شاء الغرب، ما أسفر عن بداية تحوّل من خلال الاتفاق النووي الإيراني.. فإن الرياض في المقابل، تريد معاكسة التيار، ومواصلة الحرب في أكثر من بلد عربي.

قد تُستهلك قوة الرياض بشكل أكبر مما مضى في الصراعات، والحروب، خاصة في اليمن، قبل أن تقرّر تغيير اتجاهها. إذ لا يمكن لعاقل أن يتوقّع أن تكون الرياض قادرة على خوض غمار هذه التجربة منفردة، وتستطيع من خلالها أن تحقق نتائج إيجابية بنظرها. لأن الواقع يقول بأن الرياض وعواصم الخليج الأخرى، ومعها الغرب كلّه، لم تستطع تحقيق منجز في الصراع، فكيف تستطيع الرياض تحقيق ذلك بمفردها؟

أيضاً فإن سعودية المستقبل، ستتراجع، ولو بعد حين، عن خيارات المواجهة والحروب والتآمر مرغمة، وستقبل بحوار من موقع (دونيّ) على الأرجح مع طهران، لتسوية بعض ملفات المنطقة بتشجيع دولي ـ أمريكي بشكل خاص. وهناك مؤشرات تفيد، بأن الرياض بدأت تشعر بالعزلة حتى بين شقيقاتها الخليجيات، اللاتي أظهرن أنها لن تتماشى مع سياسة الصدام السعودية في المستقبل، سواء تجاه إيران، أو تجاه الملفات السياسية الأخرى. ولعل بعض هذه الدول ـ قطر بالتحديد ـ بدأت هي الأخرى تستشعر المشاكل المستقبلية، منذ أن حدث التحوّل المتوقع في السياسة التركية، واعتماد سياسة المواجهة والصدام مع حليفتها داعش، وأيضاً مع الأكراد الأتراك. حيث الإعتقاد يسود بأن حالة الفوضى والعنف ستشمل تركيا، كما ستشمل السعودية أيضاً، التي بدأت تعاني من تصاعد أعمال داعش التي يؤيدها كثير من جمهور آل سعود ومؤسستهم الدينية. بمعنى آخر، ستكون سعودية المستقبل معزولة ومعرّضة لتصاعد العنف الداخلي.

كذلك فإن سعودية المستقبل، ستكون رهينة كما في الماضي لمصدر دخلها الأساس (النفط)، وستكون قلقة جداً على إيراداتها التي انخفضت في عام واحد الى ما يقرب النصف (من 108 دولاراً للبرميل، الى أدنى من خمسين دولاراً)، وقد يتدهور سعر النفط مستقبلاً، إما بسبب العودة الى النفط الصخري وزيادة الاستثمار فيه، أو بسبب عودة إيران لمستوى انتاجها النفطي السابق قبل الحصار، أو بسبب زيادة انتاج النفط العراقي. تراجع الإيرادات، سيزيد من تراجع مكانة الرياض الإقليمية والدولية، وقد يكون عامل تغيير في سياستها نحو (المُسالمة) والقبول بأنصاف الحلول. لكن هذا الإنخفاض، قد يؤدي الى تحول كارثي في الداخل السعودي نفسه، ذلك أنه مع عُظم الإيرادات، فإن العائلة المالكة فشلت في توفير الحدود الدنيا من الحياة الكريمة لشعبها، بسبب الفساد وسوء الإدارة، فكيف بها اذا انخفضت الإيرادات؟ إن الانخفاض المتوقع للإيرادات السعودية، كفيل بتصاعد العنف الداخلي، وعدم الاستقرار السياسي، والمزيد من المشاكل الإجتماعية، ما يجعل الرياض مشغولة بالصراع مع المجتمع، بما لا يتيح لها التفكير في الخارج اصلاً.

السؤال الذي يطرح نفسه على النخبة الحاكمة وموالوها وهم يشهدون حصاد حكم فاسد فاشل، هو: هل هناك من مخرج للوضع؟ هل يمكن تغيير المعادلات بما هو متوفر من قوة وإمكانات؟ هل يمكن إضافة قوة جديدة يمكن استجماعها من مكان ما، تحصّن البلاد والمجتمع وربما السلطة الحاكمة من كوارث تطرق الأبواب؟

ألا يمكن في هذا الظرف مواجهة المستقبل، بإعادة صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع، أم أن وقت الإصلاح قد فات أوانه، ولم يخلق بعد رجاله؟

ربما نشهد مملكة تسير الى حتفها.

وعائلة مالكة أصبحت عبئاً على شعبها.

وأيديولوجية وهّابية تكفيرية عنفية يتحفّز الجميع لمواجهة خطرها على البشرية جمعاء.

الصفحة السابقة