الملك سلمان في القاهرة وأسئلة الزيارة الكبرى

أسئلة كبرى تطرحها زيارة الملك السعودي للقاهرة..

هل كانت زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز الى مصر، والتي استمرت خمسة أيام، زيارة تاريخية، تأجّلت نحو عام كامل، اذ كانت قد أُلغيت زيارة سابقة مقرّرة أثناء عودة الملك سلمان من استجمامه في فرنسا والمغرب، وبعدها زيارته لواشنطن ولقاء أوباما العام الماضي؟

ألم توصف علاقة المملكة بأنها تاريخية على الدوام، وهل هذه الزيارة (أكثر تاريخية) مما كانت عليه العلاقة نفسها بين السعودية ومصر؟

مالذي يجعل الزيارة التي قام بها الملك سلمان، تاريخية من وجهة النظر السعودية على الأقل؟

ما هي الأهداف المتوخاة منها، ما هي منجزاتها، وما مدى عقلانية الأهداف وما يمكن أن يتحقق منها على الأرض؟

ثم لماذا جاءت زيارة الملك سلمان في وقت كان الكثيرون يتوقعون تدهوراً في العلاقات بين البلدين، حيث ما فتيء الإعلام والكتاب المصريون يهاجمون السعودية؛ وحيث المواقف المتباينة بين البلدين فيما يتعلق بقضايا حسّاسة مثل: الموقف من النظام السوري؛ وحيث الفتور المصري بشأن المشاركة في حرب اليمن، وحتى في مشاريع السعودية كحلف مكافحة الإرهاب وغيرهما؟

فهل كان هذا الضيق المصري هدفه استدراج الدعم السعودي المالي؟

وهل العلاقات بين بلدين كبيرين كمصر والسعودية محكومة الى حد كبير بمقدار ما تدفعه الرياض من أموال (استرضائية)؟!

وبعد هذا، هل هذا هو الوقت المناسب لزيارة تتطلّب دفوعات مالية سعودية ضخمة (على الأقل بعضها ليس كلاماً)، في وقت تعاني فيه الرياض من أزمة اقتصادية خانقة بسبب تراجع أسعار النفط، وفي وقت تواجه فيه سخطاً شعبياً عارماً بسبب تأثيرات الأزمة الإقتصادية وما تبعها من ارتفاع نسبة البطالة، وتضعضع المشاريع الخدمية، وزيادة الضرائب والتضخم بنسب عالية، وغيرها؟.

فلماذا يأخذ الملك سلمان الأموال من مواطنيه (جبايةً قهريةً) ويصرفها في مصر، تحت أيّ مسمّى كان؟

كيف يبرر ـ مثلاً ـ رفع أسعار الوقود، في وقت انهيار سعر النفط الخام، ثم يقوم أيضاً باعطاء مصر ما تحتاجه من نفط مجاناً ـ أو شبه مجّاني ـ ولمدّة خمسة أعوام؟

هل الثمن السعودي المطلوب من مصر، مجرد تعديل مواقف سياسية، أم بناء شراكة استراتيجية؟

هل الهدف: إنهاء محنة مصر التنموية والأمنية والسياسية، أم انهاء محنة السعودية السياسية وإبعاد الانهيار الاستراتيجي المحدق بها؟!

هل تريد الرياض معونة مصر، أم تريد إغراقها معها في حروبها ومشاكلها وعدواتها الإقليمية التي لا تنتهي؟ هل هو تحالف بناء الذات المنكسرة، أم الاستعداد لشنّ حروب أخرى؟

هل تريد الرياض بناء حلف استراتيجي مع مصر، وماذا عما أعلنت عنه قبل أشهر من تحالف استراتيجي مع أنقره وما هو مصيره؟

أين هي الأمنية الإخوانية بتشكيل تحالف استراتيجي سعودي مصري تركي؟ ولماذا انزعج الاخوان من مجرد تحالف مصري سعودي؟ وقبل هذا لماذا لا تريد السعودية حلفاً ثلاثياً، وإنما ثنائياً يخدم أهدافها؟

وأخيراً.. هل تستعيد السعودية جزر صنافير وتيران من مصر كجزء من الثمن؟ ولماذا الترحيب المغالى به في مصر بالملك، في حين أن الزيارة لم تحظ ـ على مستوى الإهتمام الشعبي الداخلي ـ بمعشار ما حظيت به في مصر؟ كيف قرأ المواطنون الزيارة، وماذا آلمهم منها؟

سياسة السعودية: الخشية والإغراء

جسران، يلخصان الرؤية السعودية تجاه مصر: هواجس ومؤامرات وأحلام يقظة!

في 1985 افتتح جسر الملك فهد بين السعودية والبحرين، لغرض حماية النفوذ السعودي هناك، وهو ما تم اختباره في مارس 2011، حين تدخّلت القوات السعودية لإنهاء الثورة المحتشدة في ميدان اللؤلؤة. ومنذئذ، لم يتبق لآل خليفة شيء من السيادة على مملكتهم الصغيرة!

في 2012، أُعلن عن جسر الملك عبدالله الذي يربط بين السعودية وسيناء، مروراً بجزر صنافير وتيران، بكلفة عالية من مليارات الدولارات، ولكن شيئاً لم يتحقق بعد، وليُعاد إطلاق بناء الجسر مرّة أخرى في زيارة الملك سلمان الى القاهرة، ولكن بإسم (جسر الملك سلمان بن عبدالعزيز)!

الجدوى الإقتصادية من المشروع ـ على الأقل من الجانب السعودي، الذي سيتكفل بكامل تكاليفه في حال إنشائه ـ ليست مقنعة بتاتاً!

الأولويات السعودية تبدو مقلوبة، ففي بلد يعاني من كوارث في بنيته التحتية، وفي وقت تُعطّل فيه كل المشاريع، فضلاً عن تلك المعطّلة اصلاً بسبب الفساد، او التي نهبت مخصصاتها وهي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، حسب احصاءات الجهات الرسمية السعودية نفسها.

إذن ليس الهدف اقتصادياً، من جسر يربط بين شمال السعودية وسيناء مصر! قيل أنه واحدٌ من ثمار زيارة سلمان الى القاهرة؟

قيل أن هدف الجسر هو تأكيد السيادة على جزر صنافير وتيران، أو تسهيل الحصول عليها، وهي جزرٌ مصرية تاريخية قبل أن يقوم الحكم السعودي نفسه، وقد قالت الرياض أنها ملك لمصر حين احتلتها اسرائيل، ثم لما عادت الى مصر، تراجعت الرياض وقالت أنها لها!

والآن بشخطة قلم، يقدّمها المصريون مقابل دعم مالي، وهو ما أثار الرأي العام المصري. فقد تكون قضية الجسر بأكملها مجرد كلام، لتسهيل السيطرة السعودية على الجزر، وكإخراج قد يلقى قبولاً لدى الرأي العام المصري.

كيف تسترد السعودية بزعمها الجزر من مصر، وتحت أي غطاء أو مبرر، وكيف تُقنع مصر شعبها بالتخلّي عن سيادة الدولة المصرية عن جزء من أراضيها لصالح السعودية؟

الحل يكمن في الجسر، وتعويم السيادة السعودية عليه أو بحجته حتى وإن لم يتم إنشاؤه، وبصورة او بأخرى يمكن تمرير كل هذا من تحت الطاولة، هكذا يقول المعارضون المصريون، الإخوانيون منهم تحديداً.

لكن السؤال الأهم: هل ستقيم الرياض جسراً في الأساس؟!

هنا عقدة العقد!

لو كانت الرياض جادّة في بناء الجسر مع مصر، كجديتها في بناء نظيره مع البحرين، إذن لبدئ بالعمل به على الأقل منذ عهد الملك عبدالله، يوم أُعلن عنه لأول مرة!

جسر البحرين يعزّز النفوذ السعودي والسيطرة على البحرين.

فماذا عن الجسر مع مصر؟!

هنا تلتقى الطموحات السعودية مع المخاوف التاريخية في العقلية النجدية الحاكمة.

فالجسر بدل أن يكون مفتاح الغزو السعودي لمصر، ثقافة واقتصاداً وتحكّما سياسياً؛ قد يتحوّل الى العكس تماماً، فيكون الأداة المصرية لغزو السعودية.

وهنا مكمن التردّد السعودي.

فلطالما شكّلت مصر (الهاجس) التاريخي الأكبر لآل سعود؛ كما شكّلت في نفس الوقت (الإغراء) الأكبر لهم!

الهاجس التاريخي يكمن في حقيقة أن مصر قوّة كبرى، دمّرت عسكرياً الحكم السعودي في طوره الأول في القرن التاسع عشر الميلادي.

مصر (محمد علي باشا) هي الدولة الوحيدة التي استطاعت ان تغزو عمق نجد، وأن تدمر الحكم الوهابي الأول، وأن تسوق آل سعود وحلفاءهم آل الشيخ الى المنفى المصري، ولتقود بعضهم الى الآستانة (اسطنبول) ليتم اعدام آخر حاكم سعودي في الدولة الأولى (عبدالله آل سعود) في ساحاتها.

مصر هي التي تغاضت عن قيام آل سعود ليبنوا دولتهم الثانية، ولكنها ـ لتطويعهم ـ أخذت الحاكم الأقوى (فيصل بن تركي) الى أرضها منفياً لفترتين زمنيتين. وحين مات، اشتعلت الحرب الأهلية بين آل سعود. ومصر هي التي منعت آل سعود من احتلال الحجاز في دولتهم الثانية.

من يقرأ الوثائق المصرية (وثائق عابدين) وما فعلته القوات المصرية، من تدمير عاصمة دولة السعوديين (الدرعية)، ومن تدمير بلدات أخرى، وقتل وإذلال المقاتلين النجديين، يفهم حقيقة لماذا أصبحت مصر بمثابة العقدة التاريخية لحكم آل سعود.

في 1991، وبعد يومين فقط من تحرير الكويت، طلب الملك فهد من الرئيس المصري حسني مبارك، أن يسحب قواته الى بلاده، وشكره على مساهمتها (الجليلة) في تحرير الكويت!

الجيش المصري هو أول جيش يطلب آل سعود سحبه من اراضيهم؛ والسبب كما قال مقرّب: (لا نعلم نوايا المصريين، فربما تآمروا علينا مع الحجازيين. نحن نعلم ان الحجازيين ميولهم مصريّة)!

هذه الخشية النجدية السعودية هي من موروثات حرب محمد علي باشا وابنه طوسون وابراهيم.

فهل اختفت هذه الخشية النجدية من مصر؟

طيلة العقود الماضية كانت فلسفة السعودية التالي: ابقاء مصر جاهزة لدعم الرياض وقت الحاجة، ولكن لتبقَ بعيدة بعسكرها؟

فمالذي تغيّر؟ وجعل آل سعود يفكّرون بـ (السيطرة الكاملة على مصر)!

لا تستهدف الرياض دعم اقتصاد مصر وأمنها، والحكم العسكري القائم فيها فقط، وإن كان هذا مهماً!

لا تفكر الرياض في منفعة اقتصادية ترجوها من مشاريع وبنى تحتية هي في الأساس بحاجة اليها.

لا تقوم الرياض بعمل خيري من أجل مصر، ففعل الخير يمكن أن يشمل عشرات الدول العربية والإسلامية التي تعيش المجاعة والحروب، بل تقوم الرياض بعكس ذلك فيها!

لا تبتغي الرياض من القاهرة مجرد وقفة ـ بنظرهم هزيلة ـ ضد تغوّل النفوذ الإيراني في المنطقة؛ او لفتة متأخرة بإيقاف نايلسات لقناة المنار؛ ولا (تعديل) سياسة مصر تجاه سوريا لتتطابق مع رؤيتها!

كلا..

طموح الأمراء السعوديين أكبر من هذا ـ هذه المرة!

إنها تريد السيطرة على مصر بقضّها وقضيضها.

تريد السيطرة على نخبها السياسية، وعلى أجهزتها الأمنية، وعلى سياستها الخارجية، وعلى مزاجها الشعبي، وعلى (أزهرها)، بل وعلى أرضها كما في جزر صنافير وتيران!

ويعتقد بعض الأمراء أنهم قادرون على ذلك من خلال (المال) وأن لديهم فائض منه يكفي لتحقيق هذا الغرض.

لماذا السيطرة على مصر سياسة ودينا وأمناً واقتصاداً ومساراً استراتيجياً؟!

لأن حكم آل سعود يستشعر النهاية. لا يكفيه ان مصر اليوم ليست في وارد المنافسة للسعودية، ولا كل الكبار الآخرين أيضاً: العراق، سوريا وحتى الجزائر. الجميع اليوم يعالج جراحاته. لم تبق سوى الرياض، التي تريد أن ترث كل أحد. لكن معدتها لا تستطيع الهضم جيداً، ولا قدراتها كافية لوضع حدّ للمنافسين (ايران).

لا بدّ إذن من تفعيل قوة مصر من جديد.. إقحامها في المعركة الاستراتيجية السعودية، التي إن لم تُعد النفوذ السعودي الى سابق عهده، فعلى الأقل تستطيع الصدّ، وعلى الأقل تستطيع تأجيل الإنهيار السعودي الذي تلوح معالمه. وإذن لا بأس من جرّ مصر لتغرق مع السعودية، في أسوأ الأحوال.

وهكذا، فزيارة سلمان للقاهرة تاريخية حقاً بمنظار البلدين. لكن هناك بقايا تردد بين (الإغراء) و (الخشية) من الدور العسكري والاستراتيجي المصري.

الزيارة بذاتها تشي أن الإغراء قاب قوسين أو أدنى من التغلّب على سياسة المخاوف. لكن هذا لا يُقطع به تماماً.

الجسر هو مؤشره الأول. وهذه المشاريع المعلنة لا يُحكم عليها بالورق فقط! فالتنفيذ هو المحكّ الحقيقي.

وحتى إن تغلّبت نزعة السيطرة السعودية، فالأرجح أنها سياسة تتطلّب سنوات ليظهر مفعولها (الكامل) وتنكشف نجاحاتها وإخفاقاتها.

لا اظن ان مصر وشعب مصر ونخبة مصر، والدولة العميقة في مصر، ستقبل بسيطرة سعودية شاملة. هم يعتقدون بالتكتيك أكثر من الإستراتيجيا، ولديهم استعداد لتقديم تنازلات سياسية مؤلمة ولكن الى حدود معيّنة. والكرامة المصرية أوسع من أن تتحمّل هيمنة سعودية شاملة على مصر. مع انه يمكن الجدال والسؤال: ولماذا باعت مصر سيادتها وأرضها على السعوديين (صنافير وتيران).

فضلا عن هذا كله، فإنه مهما بلغت حالة الشره السعودي، فإن المعدة السعودية ـ ومهما بلغ تمددها ـ فإنها أضيق من استيعاب استراتيجية كهذه.

الصفحة السابقة