أردوغان يشكل مملكته العثمانية

خسارة الرياض فادحة بعد إنقلاب تركيا

محمد شمس

كأن الإنقلاب العسكري لم يقع في تركيا فحسب، بل وقع ـ لفرط تأثيراته المتوقعة في حينه ـ في العديد من العواصم الإقليمية والدولية. السعوديون وكما هي عادتهم، تعاطوا مع الانقلاب العسكري كما لو كان حدثاً محليّاً، ما يدل على الإنقسامات الفكرية والسياسية الحادّة، وإنْ لم تكن في السعودية حياة سياسية بالأساس، أو أحزاب سياسية، أو حتى ثقافة سياسية.

تجنّد ذو الميول الإخوانية، والإخواسلفية، وكثير من الوهابيين، للدفاع والمنافحة عن أردوغان، فاحتلوا مواقع التواصل الإجتماعي، كما لو كانوا قد نزلوا ميدان معركة حقيقية بالسلاح لا بالكلام. مع العلم ان سعودياً حجازياً صادف وجوده في اسطنبول ونزل مع الآخرين، وواجه الدبابات وسيطر على واحدة منها، وقد سجل ذلك في فيديو نشره على مواقع التواصل الاجتماعي.

حتى بين بعض الليبراليين، وجد من يعارض الإنقلاب، وقلّة هي التي رأت فائدة فيه إن كان سيطيح بحكم العدالة والتنمية، وفي المقدمة الرئيس أردوغان نفسه.

الحكومة السعودية، كما دول عديدة أخرى، اوروبية واقليمية وأمريكية، صمتت أو أعطت تصريحات باهتة لا تفهم منها دعماً للإنقلاب أو معارضة له، ولكن حين لاحت بوادر هزيمة الإنقلابيين، دشّن أوباما دعم الديمقراطية والحكومة المنتخبة في تركيا.

اما الحكومة السعودية فصمتت، حتى أُعلن عن فشل الإنقلابيين، فبادرت وأعلنت تأييدها لأردوغان، واتصل الملك به مهنئاً وداعماً.

 

لكن قبل هذا، وفي ظل غياب الموقف الرسمي، كان المشهد السعودي على مواقع التواصل الاجتماعي، يرسم الخارطة المجتمعية السعودية، الفكرية والسياسية، ويحدد توجهات النخب المتعلمة او الناشطة سياسياً. ولعل غياب الموقف الرسمي سمح برسم تلك الخارطة. وحين اعلنت الحكومة دعم أردوغان، كانت الأكثرية في النهاية مع الموقف الرسمي، حيث انحازت له، وعدّلت من مواقفها بصورة أو بأخرى.

لكن حقيقة الموقف السعودي الرسمي والديني من تركيا والإنقلاب، أبعد ما تعبر عنه مواقف متأخرة من الملك، والإعلام الرسمي، الذي بدأ ـ كما في العربية والحدث ـ مؤيداً للإنقلاب، ثم التفّ يساراً ليعارضه بعد أن جاءهم إخبارٌ بالموقف الرسمي حتى قبل أن يُعلن.

السعودية لم تكن في يوم من الأيام تحبّ تركيا، لا بوضعها العلماني، ولا بتوجهها العثماني، بل ان حكم أردوغان يمثل الأسوأ من وجهة النظر الرسمية.

تركيا العثمانية تذكّر النجديين، أي طاقم الحكم السعودي الوهابي، بحملة محمد علي باشا وتدمير الدولة السعودية الأولى، وسَوقْ آل سعود الى الآستانة (اي اسطنبول) ليشنق آخر حاكم سعودي في أحد ساحاتها، وليؤخذ عدد من مشايخ الوهابية من آل الشيخ ومن آل سعود، أسرى منفيين جبراً في مصر.

هذه تجربة تاريخية لم ينسها آل سعود البتة. حتى أن تركي الفيصل، وفي تصريح علني تمنّى ان يأتي اليوم الذي يزور فيه القدس وتل ابيب، وليزور الصهاينة الدرعية ـ عاصمة الدولة السعودية الأولى قبل الرياض ـ ليريهم معالمها وماذا فعل الاتراك بأجداده كما يقول.

تجربة العثمانيين قارّة في الذهن السعودي النجدي الوهابي، لم ولن ينسوها أبداً.

يومها كان الوهابيون يعتبرون العثمانيين كفاراً، وكان العثمانيون يعتبرون الوهابيين خوارج. ولم يتغيّر الشيء الكثير بعد قرنين من الزمان!

وما يزعج السعودية من تركيا الجديدة، تركيا اردوغان، هي أنها عادت الى مرجعيتها الدينية، وتحاول ان تقدم نموذج حكم (اسلامي ديمقراطي) وهو ما يزعج ال سعود، ويجعل نموذجهم الديني في الحكم، صغيراً بائساً. فكيف تقبل به، وهو ينافسها على زعامة العالمين العربي والإسلامي مستندا الى نموذج اقتصادي ناجح، وسياسي هو في كل الظروف أفضل من نموذج الحكم السعودي؟

كيف تقبل السعودية نظام حكم يمجد العثمانية، ويجد له صدىً ليس بين المذاهب الإسلامية الأخرى في الحجاز وكل المناطق السعودية، بل وحتى في قلعة الوهابية النجدية، حيث يوجد إخوانيون، او إخواسلفيون، تراهم الرياض خطراً عليها، هؤلاء الذين انتفشوا في السنوات الأخيرة بعد وصول الإخوان الى الحكم في مصر وتونس، قبل ان تقوم الرياض بقيادة الثورة المضادّة. ولذا لم يبقَ سوى النموذج الأصل التركي الذي تمنت الرياض ان ينتهي هو الآخر بالإنقلاب العسكري، فتجربتها تقول بأن العسكر لم يشكلوا يوماً خطراً عليها او منافساً ذا بال لها، بعكس حكم اردوغان.

الإخوانيون والإخواسلفيون، احتلوا موقع التواصل تويتر منذ بدأ الإنقلاب العسكري.

الصحفي الإخواني مهند الحبيل رأى ما جرى في تركيا يدخل ضمن مخطط الثورة المضادة للربيع العربي المسحوق، وان القوى المضادّة لذلك الربيع يقضّ مضاجعها انتصار شعب تركيا. وسلمان العودة الذي يُنظر اليه على أنه زعيم الإخوان في السعودية ـ وهو في الحقيقة سلفي وهابي مع ديكور إخواني ـ رأى ان الإنقلاب وراءه مكر عالمي صهيوني. وحين فشل الإنقلاب غرّد بالآية الكريمة: (فقُطِعَ دابرُ القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين). مع ان المتهم من قبل أردوغان بالإنقلاب هو الداعية فتح الله غولن، الذي سبق وارسل للعودة رسالة وعلق عليها العودة بالآية الكريمة (أُلقي اليَّ كتابٌ كريم). فوضع نفسه موضع بلقيس، ووضع غولن موضع نبي الله سليمان؛ ولا نعلم اين يضعه العودة الآن. وسبق للعودة أن حلم في المنام التالي: (رأيتُ رؤيا أني جئتُ الطيب أردوغان، وكان جالساً على كرسي، فقام وسلّمَ عليَّ سلاماً جيّداً)! اما الوهابي المتطرف ناصر العمر فقد غلبت وهابيتُه إخوانيتَه، فطلب من أردوغان بعد فشل الإنقلاب (أن تسعوا لأسلمة أنظمة بلادكم ونبذ القوانين العلمانية)؛ فردّ عليه إخواني تركي هو اسماعيل ياشا: (يا ليت ناصر العمر يخرس، ولا يُزايد).

لكن عوض القرني هو الذي انغمس في الحرب الإعلامية أكثر من غيره ولم يبالِ باتهامه انه إخواني سعودي. قال ان الانقلاب مؤامرة، (لو نجحت لكان الفصل الأخطر هو ما جُهّزَ لاستهداف السعودية). هذا الربط فيه من الخبث الشيء الكثير. ومثله فعل جمال خاشقجي، الإخواني الذي يعمل على جمع المتناقضات: (السعودية ستكون هدفاً آخر للمؤامرة لو نجح الإنقلاب)! وكأن السعودية واحة الديمقراطية، وكأنه لا يعلم أن القواعد العسكرية والطيارين والاستخبارات العسكرية كلها بيد الأمراء. ووجه الاعلامي الاخواني والأكاديمي ‫محمد البشر رسالة لآل سعود: (الدرس هو ان الشعب خط الدفاع الأول. اعتمد على الله ثم على شعبك).

وتمنى الإعلامي خالد المطرفي، ممثل قناة العربية: (المفروض يحدث الانقلاب في إيران الكهنوتية، وليست تركيا. الإنقلاب في تركيا يخدم إيران). وهذا غير صحيح، فإيران أكثر خشية من عسكريين علمانيين مقربين من امريكا واسرائيل، من خشيتها من أردوغان، الذي حافظ على علاقات وثيقة معها.

القضية الحقيقية هي أن أردوغان هو من قام بالإنقلاب الحقيقي، وشكّل جمهوريته الخاصة به.

لقد قضى على كل خصومه بضربة واحدة، وبمبرر الإنقلاب، وهو الآن في حال استدارة سياسية، ستكون لها آثار مباشرة على مواقع الصراع، سواء في سوريا أو العراق.

فالرياض تنظر اليوم بعين القلق، من احتمالية تحوّل الموقف التركي بشأن سوريا. بل هناك خشية كبيرة لدى الرياض والغرب من أن استدارة أردوغان، قد تكون كبيرة الى حدّ التحالف مع ايران وروسيا، والإنتقال كاملاً الى المعسكر المقابل، والخروج كليّاً من حلف الناتو.

إن حدث هذا، فستكون الرياض الخاسر الأكبر إقليمياً، وهي كانت قد عوّلت على الدور التركي في تحقيق الأجندة السعودية، سواء في سوريا والعراق. وفي حال تغير الموقف التركي، تكون الرياض وحيدة في المعركة، السياسية والعسكرية وحتى الإقتصادية. في الحقيقة لا يبقى لها إلا دولة عليلة هي مصر، وتحالف مشبوه مع الكيان الصهيوني.

لهذا، فإن مراقبة ما يجري في تركيا بعد الإنقلاب، من تحولات سياسية خارجية، مشفوعاً بتغوّل قوة اردوغان ومملكته العثمانية الجديدة، أمرٌ بالغ الأهمية بالنسبة للغربيين والسعوديين. وما يجعل الرياض متألمة كثيراً، أنها لم تعقد تحالفاً مع تركيا، قابل للصمود، كما لا توجد لديها اغراءات اقتصادية يمكنها ثني اردوغان من التحول في الإتجاه المعاكس، من زيادة التحالف مع ايران الى مصادمتها!

الصفحة السابقة