السعودية في عالم متحوّل

هيثم الخياط

نحن أمام عالم متحوّل بكل ما في الكلمة من معنى.. تحوّل في البنى السياسية، والاقتصادية، والإجتماعية، والثقافية على المستوى الدولي، ولا يستثني أحداً أو دولة أو اتحاد دول..فالتغيير جارف، يكتسح كل شيء في طريقه. يذكّرنا بالظاهرة قريبة العهد في الشرق الأوسط، أي الربيع العربي، حين تساقطت الأنظمة كأحجار الدومينو. إنه صهيل الخيول، ولكن هذه المرّة قد يتجاوز مداه قارة بعينها، لأن الاستجابة للصهيل سريعة ومتجاوزة للجغرافيا.

في المشهد الدولي العام تبرز المعادلة التالية: صعود الشعبوية واليمين المتطرّف بشعاراته (أمريكا العظيمة، فرنسا عظيمة تارة جديدة)، ولكن الأمر أبعد من ذلك بكثير، وقد يكون أهم ما فيه هو عنصر المفاجئة..بل مفاجئات متعاقبة من قبيل: بريكست بريطانيا، فوز ترامب، فوز اليميني فرانسوا فيون في فرنسا، ونتائج الاستفتاء على إصلاحات دستورية في إيطاليا لتقوية السلطة التنفيذية في مقابل البرلمان واطاحة رئيس الوزراء ماتيو رينزي. وباستثناء المثال النمساوي حيث خسرت الشعبوية في الانتخابات لصالح مرشح حزب الخضر فان دير، فإن تيار الشعبوية المعبّر عنه باليمين الوسط والمتشدّد يتمدّد أوروبياً ويتهيأ للوصول الى قارات أخرى.

التيار الشعبوي بمختلف أطيافه، على الأقل في أوروبا والولايات المتحدة، يجتمع على مشتركات محدّدة: الهجرة، الإرهاب، إسلاموفوبيا..وهناك عوامل داخلية اقتصادية وسياسية حرّضت على نشأة التيار وانتشاره، يأتي في مقدمها: فشل الدولة في معالجة ملفات اقتصادية واجتماعية ، أي بمعنى آخر: هموم الأغلبية..

من الجدير بالإشارة أن المتغيّرات السياسية تأتي متزامنة مع تحوّلات اقتصادية كونية وموجات تكنولوجية جديدة تطيح بالاقتصاديات الكلاسيكية التي من شأنها إنتاج جيل سياسي جديد يحمل سمات التحوّلات الاقتصادية والتكنولوجية.. فكما أن اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الأولى كان يعتمد على الشركات العملاقة العابرة للقارات مثل الشقيقات السبع العاملة في الصناعة النفطية، والتي صعّدت جيلاً من السياسيين الذين كانوا يشتغلون على حماية مصالح عمالقة النفط في العالم، فإن اقتصاد ما بعد الحرب العالمية الثانية جاء بصنّاع السلاح، والمعدات الثقيلة، والطائرات، والقطارات، والسيارات، والمكائن الزراعية والصناعية، والمنتجات الزراعية، والملبوسات، والكماليات.

ومع نهاية الحرب الباردة دخلنا موجة جديدة من الاقتصاد الذي يعتمد على التكنولوجيا العالية، ونظم الاتصالات الحديثة والقائمة على تحقيق فكرة التواصل الاجتماعي عبر برامج الانترنت، والواي فاي، وبرامج المحادثات، والانتقال بالاقتصاد الى عصر الرقمية الدقيقة. وفي الظاهر، فإن الموجة التكنولوجية الجديدة، والمترافقة مع تحّول اقتصادي كوني، تنجب جيلاً سياسياً يحمل سمات التحوّل ذاك.

ويمكن في ضوء ما سبق، قراءة طبيعة التحوّلات المقبلة، على مستوى العلاقات البينية، وفي الداخل مترافقاً مع التحديّات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لاريب أن العلاقات السعودية الأميركية سوف تكون من بين أبرز التحديّات التي تواجه الرياض، وتلزمها بالنفير بحثاً عن خيارات جديدة أو متنوعة.

في فهم الرؤية الأميركية في عهد الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، إزاء العلاقة مع السعودية، هناك معطى ضروري لا بد من الانطلاق منه لقراءة مستقبل العلاقة بين الدولتين:

أولاً ـ ترامب يميل الى تعديل في صيغة التحالف بين بلاده والمملكة السعودية، وتدفيع الأخيرة ثمن الحماية. هو لم يعد يعتقد بأن معادلة النفط مقابل الحماية صالحة للحفاظ على العلاقة القديمة. لابد من الإشارة الى ان موقف ترامب من الرياض ليس تحوّلاً إنقلابياً، بل يأتي في سياق تبدّل متواصل في العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية، وهو مسار بدأ منذ عهد الرئيس بيل كلينتون في العام 1992، وتواصل مع جورج بوش الإبن، وأيضاً مع باراك أوباما، وإن ترامب يسير على سيرة أسلافه، وإنما بوتيرة قد تكون أسرع مما قد نتخيّل.

بالمناسبة، فإن رؤية ترامب ليست أميركية فحسب، بل نجد أن هذه الرؤية تمّ التعبير عنها أوروبياً أيضاً. وبصورة عامة، فما يربط أوروبا بالسعودية هي مجرد مصالح تجارية وصفقات تسلح، وما يفرّقها الارهاب والوهابية..

يتفق ترامب مع فيون في أولوية الحرب على داعش والتخلي عن فكرة إسقاط النظام في سوريا والإنفتاح على روسيا، وفي الموقف المتشدّد من السعودية وقطر والاسلام السياسي عموماً، ويختلف فيون عن ترامب في تبني الأول سياسة الإنفتاح على إيران، فيما يميل الثاني الى خيار التشدّد معها..وفي كل الأحوال، فإن ثمة مناخاً عاماً بدأ يتشكل في الغرب، يحمل في طيّاته رسائل مختلطة في الحد الأدنى إزاء ملفات بالغة الحساسية والتعقيد.

وكما هو الكيان الاسرائيلي الذي لم يتحرر تماماً من تبعات تاريخ الكراهية لليهود في أوروبا، ويخشى أن تكون النزعة اليمينية المتشدّدة تأتي على حساب الدولة العبرية التي ربما أفادت كثيراً من الاتجاهات الليبرالية غير القومية في ترسيخ أسس كيان الدولة وتسهيل مهمة الهجرات اليهودية، ومشاريع الاستيطان في الضفة الغربية ومصادرة الاراضي، وصولاً الى إرساء أسس الدولة اليهودية المكتملة النمو، فإن السعودية ودول الخليج عموماً تخشى من خسارة الغطاء الغربي الذي حظيت به هذه الكيانات على مدى عقود، وتخشى أن لا تعود الحماية التي كانت أزمة الخليج الثانية أبرز تجلياتها عنواناً لتحالف السعودية مع الغرب.

ما تخشاه دول الخليج هو تطبيق ترامب لمقولات أوباما التي عبّر عنها في أكثر من مناسبة حول المشكلة الحقيقية لدى أنظمة الخليج، المتمثلة في مظالم شبابها، وليس في التهديد الخارجي، الإيراني بدرجة أساسية، وان الحل يكمن في الانتقال الديمقراطي.. صحيح، أن ترامب لم يعكس في أي لحظة رغبة في تشجيع الشركاء على الاصلاحات السياسية، ولم يكشف عن مناصرته لقضايا المرأة، وحقوق الانسان، والمجتمع المدني. كل ما لفت اليه يتعلق بمصالح الولايات المتحدة، بما في ذلك الحرب على داعش والارهاب عموماً.

على مستوى التحوّلات الاقليمية، فنحن أمام مشهد ما بعد الربيع العربي الذي طوى ذيوله بحلوها ومرّها، وبتنا في مرحلة الحصاد، إذ يخلص المشهد اليوم على النحو التالي:

ثانياً ـ هناك ثورات تحوّلت الى حروب: اليمن، ليبيا، سوريا..ويضاف اليها العراق كأحد إفرازات الربيع العربي. بدأت الحرب في ليبيا، وكان الناتو طرفاً مباشراً فيها بدعم من دول خليجية على رأسها الامارات وقطر والسعودية، وأفضت الى تمزيق ليبيا الى مناطق متنازع عليها، ولم تضع الحرب نهاية حاسمة. وأما سوريا التي انزلقت ثورتها الى العنف بعد أقل من شهر من وقوعها، فقد أصبحت ساحة حرب كونية منذ إبريل 2011 وحتى اليوم. وأما اليمن، وبعد فشل المبادرة الخليجية المعلن عنها في إبريل 2011 من احتواء ثورة الشعب اليمني، ومحاولات تقويض مسارها عبر مشاريع سياسية ملغومة، بما في ذلك مشروع الاقاليم، واندلاع ثورة تصحيحية في 21 سبتمبر 2014، قرّرت السعودية إعلان الحرب على اليمن في 26 مارس 2015 لإفشال ثورة الشعب اليمني الهادفة إلى إقامة دولة بمواصفات يمنية كاملة بعيداً عن التدخلات الإقليمية والدولية.. لم يرق للسعودية ولا للولايات المتحدة استقلال اليمن، فكانت الحرب التدميرية التي طاولت كل شيء..أي كل شيء تماماً.

اليوم وبعد خمس سنوات على الأزمة في سوريا، وأكثر من عام ونصف على العدوان السعودي على اليمن، وعامين وعدّة أشهر على احتلال داعش للموصل، تبدو الصورة مختلفة الى حد ما. في سوريا تغيّر في الميدان كبير يتمثل في زوال خطر سقوط النظام، واستعادة الجيش السوري لكثير من المناطق وآخرها حلب التي يقترب من السيطرة عليها بصورة كاملة، فيما تتراجع مساحة سيطرة الجماعات المسلّحة بفعل تسويات إقليمية تركية وروسية وايرانية أدّت الى تراجع الدعم التركي للجماعات المسلحة، وتشتّت قوة الأخيرة بفعل معركة الموصل التي امتصّت أعداد كبيرة من المقاتلين، وتململ المقاتلين نتيجة الانكسارات الميدانية المتوالية.

لم تعد السعودية لاعباً رئيساً وفاعلاً في الميدان، وهي مجرد مموّل ولكن بلا سلطان فعلي. مؤخراً دفعت السعودية ثمن صفقة صواريخ غراد طلبها شرعي جيش الفتح، عبد الله المحيسني، السعودي. ولكن الميدان يتغيّر بوتيرة سريعة لصالح النظام السوري وحلفائه، وإن ما كانت تراهن عليه السعودية بعد الانتخابات الاميركية قد سقط فترامب ليس مع خيار الحرب في سوريا، على الأقل.

وأما في اليمن، فالسعودية التي اضطرت الى الاستعانة بمقاتلين مرتزقة من القاعدة وداعش ومن الصومال والسنغال والسودان، لم تستطع حتى الآن تحقيق منجز ميداني يمكن توظيفه في أية مفاوضات سياسية مع الأطراف اليمنية. في حقيقة الأمر، أن خطوة تشكيل الحكومة في اليمن وجهت ضربة قاصمة للسعودية وحلفائها، إذ أفقدتها ورقة كانت تراهن عليها، وهي " الشرعية"، المتمثلة زعماً في عبد ربه منصور هادي، برغم من انتهاء ولايته منذ 21 فبراير 2014 بموجب المبادرة الخليجية وآلياتها الزمنية.

وبالتالي، فإن السعودية في عدوانها على اليمن هي في مأزق حقيقي لا تستطيع الخروج منه خوفاً من انهيار صورتها كدولة مهزومة، وفي الوقت نفسه لا تستطيع السير فيه الى ما لا نهاية فتريد الخروج منه ولكن عن طريق اشعال حرب أهلية داخلية تكون هي خارجها، وتتنصل منها بسهولة.

في الميدان العراقي، فإن الصراخ السعودي عبر الجيش السلماني وجيش الداخلية على مواقع التواصل الاجتماعي يعبر بأمانة عالية عن حقيقة الموقف. خسارة الرهان على داعش كأداة تفجير للأوضاع الداخلية والانقسامات السياسية والمذهبية لا تعادله سوى انتصارات القوات العراقية والحشد الشعبي في معركة "قادمون يا نينوى" كما أطلقوا عليها، وهذا بحد ذاته هزيمة متعدّدة الابعاد، فداعش، الصنيعة الأميركية السعودية لم تعد قادرة على لعب دور "التنظيم الوظيفي"، كما كانت منذ عامين، فهي تخسر الأرض والقادة والخطط وتلجأ اليوم الى أسلحة باتت مكشوفة عبر السيارات المفخخة والانتحاريين والانغماسيين، وهي استراتيجية تفقد تدريجاً مفعولها مع نفاذ الذخيرة، وتناقص أعداد العناصر المستعدة لخوض مثل هذه المغامرات القصوى.

كان الرهان على داعش بغرض تقسيم العراق، ولكن استعجال معركة تحرير الموصل قبل أوانها الأميركي وتطويق مقاتلي داعش للحيلولة دون الهرب الى سوريا لتنفيذ مخطط إقامة إمارة إسلامية كأحد مؤامرات التقسيم بالسيطرة على محافظات الرقة ودير الزور شمالي شرق سوريا، أحبط الرهان بصورة شبه كاملة.

على المستوى الداخلي، تواجه السعودية أخطر أزمتين في تاريخها:

الاولى، أزمة انتقال السلطة: من يحكم بعد سلمان؟ هو السؤال الكبير الذي يقدر سلمان وحده على تقديم إجابة حاسمة عليه، وفي حال بقاء الوضع كما هو فسوف نكون أمام مشهد شديد الغموض بقدوم شخصية غير شعبية مثل محمد بن نايف، الممقوت من قطاع واسع من الناس، وسوف تكون عملية نقل السلطة الى الملك الجديد بالغة الصعوبة.

الثانية، أفول الدولة الريعية: السعودية محاطة بأزمات اقتصادية مع انهيار أسعار النفط وتآكل الرصيد النقدي، والغاء البدلات، وزيادة الرسوم، وخفض الانفاق الحكومي بصورة حادة، وتفاقم ملف الفساد (تريليون ومائة مليار ريال مجهولة المصير).

ضبط الايقاع على وقع عالم متحوّل بوتيرة سريعة قد يكون أصعب من الاحتفاظ بمكتسبات باتت عرضة للزوال. فهل ينجح سلمان في إتقان السباحة مع التيار القادم أو الاصطدام به أو التكيّف معه دن خسارة العرش..إن الحزم الذي يتغنى به المطبّلون لسياسة سلمان، لا مكان له في العلاقة مع الأقوياء، وعليه أن يبحث مبكراً عن خيارات لاسترضاء الكلاب المسعورة قبل أن تبدأ نهش الأجساد.

الصفحة السابقة