دولة القاع

كيماوي خان شيخون في محافظة أدلب السورية كذبة.. نعم هي كذلك. وإن المتاجرة بدماء الأطفال والنساء جريمة موصوفة. ولسنا مبتدئين في السياسة حتى يأتي من يعبث بشبكة المشاعر، كيما نصدّق كذبته، ونقبل على الفور عدالة مجرمي الحرب والسفّاكين، من أمثال نتنياهو، الذي تلقى بطاقة شكر من صحيفة (مكة) في 8 إبريل الجاري ويالعار هذه الأمة.

لناحية المزايدين، وإخراساً لألسن المتحذلقين نقول: إن للشعب السوري وحده الحق المطق والتام في تقرير مصيره واختيار شكل الحكم الذي يشاء، ولا وصاية عليه من أحد. وإن من يصادرون إرادته هم من يسفكون دمه ويستغلونه في مقايضات رخيصة ودنيئة.

نكمل ما بدأنا به: كيماوي خان شيخون هو رسالة موجّهة لترامب من أجل تغيير مواقفه من بشار الأسد، كما كان كيماوي الغوطة الشرقية في صيف 2013 هو رسالة لأوباما لشن حرب على سوريا ابتداءً، وإقليمية انتهاءً.

وبالرغم من أن لوردات الحروب ومشعليها ليسوا بحاجة الى ذريعة، ولكن لضرورة التزييف للحقائق على الأرض، تصبح دماء الأطفال والنساء مادة ابتزاز وابتذال.

أولئك الذي فبركوا كيماوي الغوطة الشرقية، هم أنفسهم الذين فبركوا هذه المرة كيماوي خان شيخون. ولكن للأسف في كل مرة هناك ضحايا يسقطون تحت وطأة لعبة قذرة من أناس لم تلامس الرحمة جدار قلوبهم.

ترامب ـ ضعيف الخبرة السياسية والمؤهّل، ولكي يصبح ألعوبة بيد جهاز الاستخبارات أو البنتاغون ـ بات أداة عالية الكفاءة لاستصدار قرارات رهن الطلب، وإن خالفت شعاراته التي رفعها خلال حملته الانتخابية، وإن تناقضت مع مواقف كان قد عاب سلفه على تبنيها ومنها الحرب في سوريا.

تصرّف ترامب وفق قواعد «البزنس»، وليس السياسة، دع عنك الحق والعدالة، وأن الحرب كلها بالنسبة له مجرد صفقة تجارية، ومادام هناك من لديه الاستعداد لتسديد فواتير هذه الحرب، وبالأرقام التي يطلبها، فمالذي يمنعه من إشعالها، طالما أنه لن يزجّ بجنود أميركيين على الأرض؛ فهي مجرد صواريخ وطائرات بدون طيار غالباً؛ وبطيار أحياناً، إن دعت الضرورة، وإن الرياض هي من تتولى دفع الأثمان. ولننتظر نهاية ولاية ترامب الأولى (وربما الأخيرة) كم هي ثروته في حال خضعت للمحاسبة والشفافية.

صفقة ترامب ـ بن سلمان تشمل فيما تشمل، الحرب على سوريا، وإن فبركة خان شيخون، هي جزء جوهري من الصفقة. ترامب كان يطلب ذريعة من أجل شن هجوم على المنشآت العسكرية السورية، فكانت السعودية وتركيا وقطر ومعها بريطانيا وفرنسا واسرائيل على استعداد لتوفير الذريعة.. وقد فعلوا لخبرتهم في اقتراف الجرائم وفبركة الأكاذيب.

من سخف واقعنا، ومن هوان الدنيا على الله، أن يكون المجرم وسفّاك الدم، هو من يضطلع بمهمة إقامة العدل. ومن السخرية أن ينتقم ترامب للإسرائيلي الذي خسر إحدى طائراته الحربية بصاروخ سوري (من صنع روسي)، بإطلاق 59 صاروخ توماهوك على قاعدة الشعيرات وسط سوريا، فلم يصل منها إلا 23 صاروخاً فيما لا يزال 36 صاروخاً مجهول المصير، وأن من يدفع الفاتورة الكاملة هو محمد بن سلمان (فساد صاروخي بامتياز: يطلق 23 صاروخاً ويسجّل في الفاتورة 59 صاروخاً، يعني حتى ترامب صار جزءاً من منظومة الفساد المالي السعودي).

من ردود الفعل لدى الجانبين، لم يحضر كيماوي خان شيخون بل حضر «الدفاع الجوي السوري». هيلاري كلينتون المتصهينة تطالب بتدمير منظومة الدفاع الجوري في سوريا بالكامل، والروسي يرد على «ضربة ترامب» بتعزيز منظومة الدفاع الجوي السورية؛ وكأن القضية برمتها تتعلق بالإسرائيلي وليس بالكيماوي.

ومايزيد الأمر سخرية ودناءة، أن تنشر صحيفة (مكة) وببلاهة منقطعة النظير «شكراً نتنياهو»، ثم يأتي مرتزق من خلف الأطلسي من يقدّم الشكر لترامب في صحيفة «الوطن».. هنيئاً للصهيونية بأبنائها الجدد!

ضربة “الشعيرات” تنطوي على رسائل متعدّدة، ومن بينها بل وأبرزها، انها رسالة لخازن بيت المال السعودي، محمد بن سلمان، تقول بأن ترامب «قول وفعل»، وأنه جاهز لتنفيذ «الصفقة الكبرى» في حال وافقت الرياض على دفع «النصف» أو «الثلث» من ثروات السعودية، وعلى المدى الزمني الذي يتم التوافق عليه «5 سنوات» أو «أبد الآبدين».

باختصار: ترامب يريد القول أنني حاضر للدخول في معركة «الحديدة» اليمنية التي يتم التحضير لها على الجانبين ويحشد لها المقاتلون والمرتزقة من سودانيين وصوماليين وسنغاليين، ومن كل دولة لديها استعداد لأن تبيع مواطنيها في سوق النخاسة اليمنية، برعاية أميركية واسرائيلية وبريطانية، وبأموال سعودية وإماراتية.

لا يتردد آل سعود في خوض أقذر الصفقات، في ظل انقسام غير مسبوق في العالم العربي والاسلامي. فقد مزّقوا شعوبه شيعاً وطوائف. ووسط الأخاديد المشتعلة بالغرائز والنزعات الشريرة بات للإسرائيلي موطىء قدم راسخة في هذا العالم، حتى بات ينظّر لمشاريع سكة التطبيع من يافا الى الدمام مروراً بالإردن.

آل سعود يتولون أقذر مهمة في تاريخ هذه الأمة اليوم، والمتمثلة في تمويل حروب أعدائها التاريخيين والتكوينيين عليها.

إن استغلال العواطف الإنسانية النبيلة والصافية، والميول الدينية الفطرية، والاختلافات المذهبية لجهة تعزيز الانقسامات في الأمة، يظهر في الوقت الراهن بأن الغرض منها أكبر وأخطر وأبعد مما يتخيل، فقد أرادوها حرباً على الأمة بعناوين مختلفة.. وهم اليوم يستغلّون عنوان «إيران» لتسويغ أقذر الأدوار، وقد أوغلوا في الخزي حتى تسافلوا الى القاع، بل الى قاع بلا قرار.

الصفحة السابقة