MBS ملكاً

زوابع الإنقسام تضرب العرش

عمرالمالكي

أوامر الملك سلمان غير المفاجئة في الحادي والعشرين من يونيو الماضي، حسمت سؤال توقيت تنحية ولي العهد السابق محمد بن نايف من كل مناصبه (وليس بناء على طلبه كما جرت العادة)، بعدما كان قرار التنحية محسوماً منذ صيف 2015، وتأكّد بعد لقاء سلمان ــ أوباما في 5 أيلول 2015، حين بدأ يطرح محمد بن سلمان مرشحاً راجحاً للعرش خلفاً لأبيه، كما ذهب الى ذلك الطبّال الفخم (كما أسميناه في عدد سابق) ديفيد اغناتيوس في واشنطن بوست في مقالة بهذا المضمون.

قرار الملك سلمان عزل محمد بن نايف من منصبه، وتعيين محمد بن سلمان بدلاً منه، يعد التطوّر الأبرز في عهد سلمان منذ توليه العرش في 23 كانون الثاني 2015. هو القرار الثاني على هذا المستوى من الخطورة الذي يتخذه بعد إعفاء ولي العهد الأسبق مقرن بن عبد العزيز في 29 نيسان 2015.

 
اذلال محمد بن نايف: اللحظات الأخيرة لنهايته السياسية
لا مفاجأة ولكن..

لم يكن قراراً مفاجئاً، وليس هناك من يدّعي نبوءة وقوعه، وإنما كان مدار الجدل ينحصر في التوقيت. أما وقد فعلها، فإن الأمور باتت واضحة، ما يسترعي اهتماماً خاصاً لما يأتي:

أولاً ــ لأول مرة في تاريخ المملكة السعودية ينجح ملك من أبناء عبد العزيز في تنصيب ابنه ولياً للعهد، فيما فشل الملوك الآخرون، وقد جرّبوا فعل ذلك، على الأقل سعود وفهد وعبدالله، وهذا من شأنه حصر السلطة ليس في العائلة المالكة، وإنما في بيت سلمان.

إن تعديل المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم، والقاضية بعدم الجمع بين منصبي الملك وولي العهد في فرع واحد، يشبه إلى حد كبير نص تعيين ولي ولي العهد في عهد الملك عبدالله، مع فارق أن التعديل الأولي لم يكن في النظام الأساسي للحكم، بينما التعديل الثاني هو في جوهر النظام الأساسي للحكم. ما يجمع بينهما أن خرق المادة يأتي لمن يأتي بعدهم، بالرغم من أن التعديل يناقض الإجراء الذي قام به الملك بالجمع بين الملك وولي العهد في فرع واحد.

ما يلفت الإنتباه أن التشديد على عدم الجمع بين منصبي الملك وولي العهد في فرع واحد، يشي باتفاق مسبق بين الملك وكبار الأمراء الذين خاضوا على ما يبدو نقاشاً طويلاً حول هذه النقطة، بعدم حرمان الأجنحة الأخرى من أبناء عبد العزيز من حقها في العرش.

لكن هذا التغيير في القانون الأساسي إسمي، وغرضه تهدئة بعض أمراء العائلة المالكة، الى حين. اي الى حين يحين الوقت فيقوم محمد بن سلمان نفسه بتعيين ولي عهد من صلبه، ويتم تغيير ما ورد في القانون الأساسي، مثلما تم تغيير أمور كثيرة، وبينها هيئة البيعة نفسها التي اضحت منذ تأسيسها حبراً على ورق.

وقد لا يقوم محمد بن سلمان بتعيين ابنه مباشرة، بل قد يضع اميراً آخر اذا وصل الى كرسي المُلك بعد والده، وفاة أو تنازلاً، ثم يعمد بعدها الى تكرار السيناريو الذي فعله والده، فيعين هو ابنه، اذا ما بلغ من العمر 18 او 20 عاما!

المؤكد هو انه مهما كانت السيناريوهات، فإن محمد بن سلمان لن يجعل المُلك إلا في عقبه هو، ولن ينتقل لا إلى إخوته، ولا الى أبناء عمّه!

ثانياً ــ إلغاء منصب ولي ولي العهد، يؤكد أن استحداث المنصب في عهد الملك عبدالله، قد قطف ثمرته سلمان، حين جعله جسراً لعبور ابنه محمد الى العرش، ثم ألغى المنصب (ولي ولي العهد) حتى يختار محمد بن سلمان من يشاء لمنصب ولي العهد حين يصبح ملكاً، مع شرط عدم كونه من أبنائه أو إخوته أو أبناء إخوته أو أخواته، بالرغم من عدم وجود قيد يمنع الملك القادم من تغيير ما يشاء من مواد النظام الأساسي للحكم، كما فعل والده سلمان، وسبقه الملك عبدالله. وهنا يصبح النظام الأساسي مرجعية غير ثابتة وغير مقدّسة وأن الملك لديه سلطة تغيير مواده أيضاً.

ثالثا ــ نقل السلطة قد تم بتجاوز الجيل الثاني إلى الجيل الثالث، أي إلى الأحفاد، وإن تضمّن مخالفة للبروتوكولات العائلية. على سبيل المثال، فإن وزير الداخلية الجديد عبد العزيز بن سعود بن نايف (مواليد 1983)، أصبح رئيساً على والده سعود، أمير المنطقة الشرقية، لكون إمارات المناطق في المملكة السعودية تابعة لسلطة وزير الداخلية. للإشارة أيضاً، والتي سوف تبرز في مرحلة لاحقة، فإن أحمد بن فهد بن سلمان بن عبد العزيز ـ نائب أمير المنطقة الشرقية سوف يكون هو الآخر تحت سلطة عبد العزيز بن سعود بن نايف، ما يثير سؤالاً حول المرجعية والصلاحية.

لكن الأهم من هذا، فإن جناح نايف، الذي لم يخسر الداخلية نظرياً، سوف يخسر على الأرجح إمارة المنطقة الشرقية، وسيتم عزل سعود بن نايف كأمير لها، وسيتولى الإمارة حفيد الملك سلمان.

كل هذا يعني ان التغييرات في المناصب لاتزال تتمتع بانسيابية، ولم تُستكمل بعد خطة سلمان وابنه محمد ولي العهد. وقد يظهر لاحقاً ان هذه التغييرات ليست نهائية، ولربما يُطاح لاحقاً ايضاً بوزير الداخلية بعد أن يُطاح بأبيه من إمارة الشرقية.

رابعاً ــ البيعة لولي العهد الجديد محمد بن سلمان تمّت بدعوة إكراهية، ورغم الزعم بأن هيئة البيعة (تأسست في تشرين الأول 2006)، قد بايعت محمد بن سلمان، كولي للعهد، فإن كل المؤشرات تفيد بأن الهيئة لم تنعقد أصلاً، وأن كل ما قيل مجرد تلفيقات. والمعروف أن رئيس هيئة البيعة هو الأمير مشعل، الذي توفي قبل نحو ثلاثة اشهر، وهو، أي الرئيس المعني ابتداءً بدعوة الهيئة للانعقاد واختيار ولي العهد. وعلى أي حال، فإن الهيئة لم تمارس دوراً فاعلاً ومؤثراً منذ تشكيلها، فمن أسّسها هو أول من خرقها بتعيين نايف ولياً للعهد، وتعيين سلمان بعده بدلاً منه بعد موت الأول.

 
مؤامرة الأب وابنه.. مملكة سلمانية!

خامساً ــ تقليص دائرة التنافس على السلطة وحصرها في بيت سلمان، أي بإلغاء الثنائية التي حكمت معادلة السلطة منذ موت الملك عبد العزيز حتى عزل محمد بن نايف. وعليه، فإن الأحادية السياسية سوف تكون سمة الحكم السعودي في المرحلة المقبلة. لا يعني ذلك استقراراً في الدولة ولا سلاسة في انتقال السلطة، فالخاسرون في التغييرات يتكاثرون إلى قدر يصعب التكهن معه بما سوف تكون عليه ردود أفعالهم في حال موت الملك، وربما قبل ذلك أيضاً.

لكن الأخطر من موضوع اختفاء الأجنحة والتوازنات داخل العائلة، هو ان السياسات العامة للدولة الداخلية منها والخارجية، الإقتصادية والأمنية والعسكرية.. كلها أضحت أسيرة قرار منفرد. ففي الماضي كانت توازنات القوى بين الأجنحة في العائلة تفرض مشاركة في صنع القرار، او التأثير عليه. أما وقد انفرد الجناح السلماني بكل السلطة، وتم تهميش الجميع، فلم يعد هناك من دائرة صنع للقرار، بل هو قرار منفرد يأتي بمزاج شاب عديم الخبرة، بدون اخذ استشارات او غيرها. ومن هنا ربما، وقعت الدولة السعودية، في أزمات القرارات الحادة غير المدروسة التي تتناسب مع شخصية محمد بن سلمان ووالده، وهي سمات التهور والحدة والعنف وعدم التروّي. ولعل ازمة السعودية مع قطر تكشف لنا جانباً من هذا الامر.

سادساً ــ استعمال «الرشوة» المالية لشراء الصمت الشعبي، وبأثر رجعي، في إطار تمرير قرارات الملك بهدوء، برغم من افتقار المملكة السعودية إلى ملاءة مالية متينة تسمح لهذا النوع من التقديمات الاجتماعية الكبيرة، في ظل انخفاض أسعار النفط، وعجز قياسي في الموازنة العامة، وتآكل الرصيد النقدي من العملات الأجنبية (بحسب آخر إحصائية انخفض الرصيد إلى 496 مليار دولار)، فيما تتجه الحكومة إلى سياسة ضريبية جديدة (بدأت بزيادة الضرائب بشكل فلكي على المشروبات الغازية والدخانيات، وتبعتها بالضريبة المضافة)، ويجري الحديث عن ضريبة على الدخل.

وعادة ما تستخدم العائلة المالكة قرارات مالية لتمرير مشاريع سياسية. وفي هذه المرة ـ اي في قضية ازاحة ابن نايف من ولاية العهد ـ تم اقرار دفع راتبين الى الجنود المقاتلين على الحدود اليمنية، والتراجع بأثر رجعي عن كل قرارات التقشف، بما في ذلك اعادة العلاوة السنوية على الرواتب. مع ان هناك من يشكك في تطبيق هكذا قرارات في نهاية المطاف، ويحتمل ان بعضها على الأقل سيكون مصيره مصير (حساب المواطن).

سابعاً ــ سوف تتطلب القرارات الجديدة إعادة تشكيل السلطة مجدداً بإلغاء نظام المجلسين: مجلس الشؤون السياسية والأمنية الذي كان يرأسه محمد بن نايف، ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الذي يرأسه محمد بن سلمان. وقد جلس الأخير فعلاً في مقعد محمد بن نايف كرئيس مجلس الشؤون السياسية في اجتماع علني باعتباره رئيساً له. وهكذا اصبح محمد بن سلمان رئيساً للمجلسين، اي عملياً رئيساً للوزراء بكامل طاقمه، وبكل خططه ومشاريعه. إن تجاوز الفراغ يشي بنزوع نحو احتكار السلطة كاملاً ، ما يجعل البلاد على محك خطير للغاية، إذ سوف يعاد انتاج مشوّه لتجربة التأسيس.

معادلة العرش
 
من ولاية العهد الى الإقامة الجبرية!

وهنا نعيد طرح السؤال حول العوامل المؤثرة في معادلة العرش، ومن أبرزها:

1 ـ الملك: وتلعب شخصية الملك دوراً محورياً في تقرير سياسة البلاد وفي تحديد شكل السلطة، معطوفاً على النظام الأساسي للحكم الذي يمنحه صلاحيات مطلقة. فبينما أفقدت الملك سعود شخصيته الضعيفة والمربكة، السلطة، لصالح شخصية منافسه فيصل، الذي كان يتمتع بشخصية قوية.. فإن المرض حال دون ترجمة الشخصية القوية لدى الملك فهد في قرار توريث إبنه عبد العزيز. وأما الملك عبد الله الذي يتمتع بكاريزما استثنائية، فقد اختار تطوير آليات السلطة نفسها، باستحداث منصب ولي ولي العهد يكون مقرن على رأسها لتسهيل وصول ابنه الى العرش، وتحويل الحرس الوطني الى وزارة يكون نجله متعب على رأسها، ويكون مرشحاً راجحاً في حال تولّي مقرن العرش بعد موت سلمان. ولكن ما غفل عنه عبد الله، استحضره سلمان؛ وهو موقع الملك نفسه، والصلاحيات المطلقة التي يمنحه إياها النظام الأساسي للحكم.

2 ـ العائلة المالكة: رحيل أعضاء الجيل الثاني أنهى ثنائية السلطة التي حكمت المملكة السعودية منذ 1953 ـ 2015، أي منذ موت الملك عبد العزيز وحتى موت الملك عبد الله. سلمان يعد الملك الوحيد الذي لا يقاسمه ولي عهد من الجيل الثاني، الأمر الذي جعله صانع القرار الوحيد في المملكة، ولذلك لم يشعر قط بأي ضغط من داخل العائلة المالكة، سوى ما يرتبط ببناء تحالفات بين الأجنحة. لقد ازاح الموت عدداً كبيراً من ابناء عبدالعزيز، ثم جاء الملك عبدالله وازاح اغلب اخوته من المنافسة، وأحالهم الى التقاعد شبه النهائي، وبعضهم أقعده المرض والعجز، وبالتالي كان الطريق مهيئاً للملك سلمان لينهي الجولة بابعاد شقيقيه: عبدالرحمن الذي توفي مؤخراً، وكذلك ابعاد احمد نهائياً. وأخيراً تم ابعاد مقرن من ولاية العهد واحالته الى التقاعد، مع العلم انه أصغر ابناء الملك عبدالعزيز الأحياء.

3 ـ العامل الأميركي: لم يغب هذا العامل البته في تاريخ صراع الأجنحة في المملكة السعودية، بل وفي انتقال السلطة أيضاً، حتى في المراحل التي كان فيها الانتقال سلساً. وقد ترسّخت قناعة لدى الملوك السعوديين عموماً، بأن الاستعانة بالأميركي إلزامي لشرعنة المرشّح الأوفر حظاً داخل العائلة المالكة، أو ترجيح منافس على آخر.

هذا ما حصل في صراع سعود وفيصل، حين انحاز جون كينيدي (1961 ـ1963) ثم خلفه ليندون جونسون (1963 ـ 1969)، الى فيصل وحسم الصراع لصالحه بتنحية سعود عن السلطة. والآن، انحاز دونالد ترامب الى جانب محمد بن سلمان في مقابل منافسه محمد بن نايف. وقد كانت قمة الرياض بمجمل فعالياتها (توقيع مذكرة التفاهم الاستراتيجي بين سلمان وترامب)، والعرض السخي الذي قدّمه سلمان لضيفه (460 مليار دولار)، قد أفضت الى تتويج ابن سلمان ولياً للعهد؛ وما كان لمثل هذا القرار أن يولد بسهولة بمجرد الاتكّال على تطوّرات داخلية خالصة.

4 ـ المؤسسة الدينية: وهي على وهنها وهزالها، لا زال المتنافسون على السلطة داخل العائلة المالكة في مسيس الحاجة اليها، او على الأقل بحاجة الى المسحة الدينية (بعد أن كانت جرعة في صراعات الأمراء في مراحل سابقة). الزيارات المبرمجة التي كان يقوم بها محمد بن سلمان في السنتين الماضيتين الى المشايخ من الأطياف كافة، ولا سيما أعضاء هيئة كبار العلماء، لم تكن تقديراً لأهل الدين، ولا تعبيراً عن التزام ديني. باختصار شديد، كانت تحصيلاً لدعم المؤسسة الدينية، وبناء قاعدة تحالف داخل المجتمع الديني الوهابي تكون رافعة له في المستقبل.

لابد من الإشارة هنا الى أن برنامج التحوّل الوطني الذي تبناه إبن سلمان، مؤسس على مناجزة المؤسسة الدينية، بالحد من نفوذها، وتقطيع أوصالها، وينسحب ذلك على المشايخ الناشطين في تيار الصحوة، الذين إما خمدت أصواتهم في عهد سلمان، أو تعرّضوا للاعتقال، أو المنع من السفر، ولم يبق سوى من رغب في التماهي مع تيار سلمان وإبنه.

ايضاً لا بد أن نشير الى أن محمد بن نايف ومن قبله أباه، كانا الأثيرين لدى المؤسسة الدينية، ولكن هذه المؤسسة التي فقدت سلطتها ونفوذها لم تعد قادرة على تغيير شيء، الا التوقيع والبصم، والمبايعة للأقوى، وهذا ما حدث. في حين انها كانت في الماضي قوة مرجحة، كما ان بعض مشايخ الصحوة يقولون بأن مفهوم اهل الحل والعقد يشمل (الأمراء والعلماء/ المشايخ). ولكن تبيّن ان هؤلاء المشايخ ليسوا احسن حالاً من المواطن العادي، فلا رأي لهم ولا كلمة؛ لكنهم يعلمون علم اليقين بان إضعاف الحكم السعودي يعني اضعافاً لهم انفسهم، فمذهبهم استخدم مركبة الدولة لتوسعة نفوذه، وبدونها ينتهي داخلياً وخارجياً. ولهذا، فإن تأييد محمد بن سلمان ومبايعته رغم معرفتهم بأنه سيفسد البلاد والعباد (خاصة في مشروع الترفيه)، لا يعبّر فقط عن عجزٍ ذاتي، وإنما يعبّر أيضاً عن نظرة انتهازية مصلحية من ضرورة بقاء الحكم السعودي (الخادم للمذهب الوهابي).

 
المفتي يبايع ابن سلمان وليا للعهد

5 ـ العامل الاقتصادي: لم يكن محض صدفة تضمين القرارات الاستراتيجية ذات الصلة بتغييرات في بنية السلطة عنصر التقديمات الاجتماعية، والتي لا يمكن النظر اليها سوى كونها «رشوة» لتسهيل مرور القرارات. وعليه، فإن العامل الاقتصادي بات عامل «تهضيم» و»ترضية» يلجأ اليه الملوك السعوديون لاحتواء أي ردود فعل شعبية محتملة إزاء قرارات ذات طبيعة خلافية، أو كإجراء احترازي لامتصاص نقمة حقيقية أو افتراضية لدى الشعب إزاء أوضاع عامة، كما هي حال التقديمات الاجتماعية التي أعلن عنها الملك عبد الله في مارس 2011 على وقع ثورات الربيع العربي.

بل ان هذه السياسة كانت ولازالت وسيلة لاسترضاء أجنحة الحكم، من امراء وغيرهم، فمن لا يجد منصباً، فإنه سيجد مالاً وفيراً. ومن يتنازل عن السلطة، يحظى بمليارات. هذا ما حدث مع مشعل في تنازله لسلطان عن ولاية العهد؛ وهذا ما حدث للأمير مقرن حينما اجبر على التنازل لصالح محمد بن نايف ابتداءً. وهكذا فالمال، اضافة الى تولية بعض حفدة المؤسس، وسيلة لاستجماع السلطة بيد محمد بن سلمان. بل يمكن اضافة عنصر آخر، فمن لا يسترضيه المال ويصر على المشاركة في السلطة، فإنه يلقى العقاب، والتهديد، والعصا الغليظة. ومن هنا لم نجد حتى الآن اعتراضاً علنياً واضحاً من الأمراء لتولي ابن سلمان ولاية العهد، بسبب هذه السياسة متعددة الوجوه (المنصب المتواضع، المال/ الرشوة، الهراوة)!

التحديات

إن التحدّيات التي سوف تواجه النظام السعودي في ظل التغييرات الراديكالية التي أحدثها الملك سلمان على مدى الثلاث سنوات الماضية، تنذر بعواقب يصعب التنبؤ بالمديات التي يمكن أن تصل اليها، وبالنظر الى متغيرات داخلية وإقليمية ودولية، قد تلعب دوراً عكسياً لتيار أراد سلمان أن يخدم نجله، وقد ينطوي على أخطار تهدد الكيان استقراراً ووحدة. من بين التحديات الرئيسة التي سوف تواجه النظام السعودي في المرحلة المقبلة:

أولاً: شخصية إبن سلمان، الفاقد لخصائص القيادة الكاريزمية، إذ لم يكن تصوّر موقعه النافذ مفصولاً عن شخصية والده، بما يمثّله كمصدر وحيد داعم، وسوف يبقى مرتهناً لوجوده على قيد الحياة، وما بعد سلمان يصبح، حقاً، لكل حادث حديث. وقد تنبّه الملك سلمان لهذه الثغرة الكبرى في شخصية إبنه، فاختار له فريقاً من الأمراء الذي ينتمون الى الجيلين الثالث والرابع، من صغار السن، وقليلي الخبرة والتجربة، ليسهل قيادهم والسيطرة عليهم.

على أية حال، فإن إجراءً من هذا القبيل لا يضع نهاية حاسمة لمشكلة بنيوية في شخصية الملك، في ظل وجود جمهرة كبيرة من الأمراء المنافسين والحانقين على اجراءاته، والذين يشعرون بالغبن والخسارة، بما نمّى لديهم رغبة في الانتقام والاصطفاف مع أمراء آخرين قد يشكلون تحالفاً ضدّياً. تماما مثلما حصل في عهد سعود، حيث لعب ائتلاف الأمراء الذي قاده فهد وإخوته، لترجيح كفة فيصل على حساب سعود، وانتهى الحال بفوز فيصل بالسلطة وتنحية سعود، وفي نهاية المطاف كسب آل فهد معركة السلطة.

بطبيعة الحال، فإن مكوّنات الصراع قد تغيّرت، وعدد المنافسين قد ازداد بأضعاف، وبالتالي فإن ضبط إيقاع العائلة المالكة، يتطلب شخصية كاريزمية قويّة ونافذة، وهذا ما يفتقره اليه ابن سلمان، الذي لا العمر ولا الخبرة ولا الموقعية في العائلة المالكة تؤهله لأن يحظى باجماعها.

ثانياً: مراكز القوى داخل العائلة المالكة: صنعت الطفرة المالية منذ منتصف السبعينيات مراكز قوى داخل آل سعود، وتعزّزت هذه المراكز في عهد الملك فهد (1982 ـ 2005) الذي أطلق العنان لعشرات الأمراء لبناء ما يشبه امبراطوريات مالية ممتدة في آفاق العالم، عبر الانخراط في صفقات التسلّح والرشاوى المصاحبة لها، وصفقات النفط والاتصالات والتجهيزات المتصّلة بالبنية التحتية للمملكة. إلى جانب الثروات الضخمة التي جمعها أعضاء الجيل الثاني (فهد، سلطان، نايف، عبد الله، طلال، مشعل..)، والتي انتقلت الى عهدة الاحفاد أبناء فهد وعبد الله وسلطان ونايف، وابناء طلال وابناء مشعل بدرجة ثانية.

أمام ابن سلمان خيارات صعبة في التعاطي مع مراكز القوى داخل العائلة المالكة، فهناك خيار المصادمة معها تحت عناوين مختلفة (مثل الحرب على الفساد كعنوان مقبول شعبياً)، وبالتالي تحمّل تبعات ما سوف ينجم عن ذلك من ردود فعل. وقد يكون التوقيت المناسب لهذه الخطوة في حياة أبيه، لأن من غير الممكن التنبؤ بنتائجها. او ـ الخيار الآخر ـ الدخول معها في «صفقة»، بحيث يترك للأمراء ما جمعوه من أموال، على أن يتركوا له السلطة بكامل حمولتها.

ولكن السؤال: هل ستكون «صفقة» رابحة في نظر الأمراء، وقد خسروا ما يعتقدونه حقاً مشتركاً مع ابن سلمان، وهي السلطة؟ الى جانب أن مشكلة الأمراء مع ابن سلمان ليست في المال، بل في تقاسم السلطة، وعليه فإن ما يلزم تسويته هو السلطة توزيعاً أولاً وأخيراً.

نعم، قد يكون تدخل العامل الأميركي في ملاحقة ثروات الأمراء إجراءً محتملاً، وإن لم يخل من تداعيات خطيرة على وحدة العائلة المالكة وتماسكها، وعلى الأوضاع الداخلية عموماً.

 
متعب بن عبدالله وزير الحرس الوطني في حفل بيعة
محمد بن سلمان بولاية العهد: الإقصاء قادم!

ثالثاً: التحدي الاقتصادي: فرغم المشروع الطموح الذي تبناه محمد بن سلمان، والمتمثل في رؤية السعودية 2030، الا أن الشكوك ساورت الخبراء الاقتصاديين والسياسيين على السواء لناحية افتقار صاحب المشروع لقاعدة بيانات متينة حول الواقع الاقتصادي للمملكة. إن الانتقال الراديكالي من عصر النفط الى عصر الاستثمار، لم يكن ينبني على رؤية عميقة لمتطلبات الانتقال، على مستويات تشريعية، وسياسية، وثقافية، واجتماعية.

إن مجرد استعارة نموذج قد يبدو في ظاهره ناجحاً، لا يعني القدرة على تحويله الى نموذج معياري، خصوصاً في بلد يتفاوت في مقدراته، وموارده البشرية، وحجمه السكاني وتنوّعه، ومساحته الجغرافية.. عن البلد الذي يراد استنسساخ تجربته (دبي نموذجاً).

لقد كرّر الخبراء الاقتصاديون، ودعاة الإصلاح السياسي، النداء المدخلي للإصلاح الاقتصادي، إذ لا بد أن يسبق الأخير إصلاحات تشريعية وسياسية وحقوقية، ومن غير الممكن السير نحو إصلاح اقتصادي مستقلاً عن بقية الإصلاحات في المجالات الأخرى.

هناك فشل متوقع وهائل لمشروع محمد بن سلمان الإقتصادي، ولا يوجد ما ينبيء عن مؤشرات نجاح ألبتة. فالفساد قائم بشكل مهول، وإن تقلّص عدد المفسدين، واستولى فاسدون قلائل على مغانم الدولة. ثم هناك توسع حالة الفقر لتشمل نحو نصف عدد السكان، والبطالة في ازدياد لانخفاض مشاريع الدولة، والشركات الكبرى تغلق ابوابها، وملايين العمال بدأوا بالعودة الى بلدانهم، فيما يستمر اهدار الثروة بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد، اما لشراء ولاءات دول لصالح مشاريع سعودية عدوانية في اليمن وغيرها، وإما لشراء القوى الأجنبية بعقد صفقات بمئات المليارات. زد على ذلك، فإن الطبقة الوسطى في السعودية انكمشت، وتقلص عددها، ما ينبيء عن عدم استقرار سياسي، وزيادة في الجريمة تتصاعد امام الأعين، وشرعية حكم تضمحل ازاء فشل المشاريع في الداخل والخارج، سياسة واقتصادا، فيما يحذر كثيرون ـ وبينهم موالون للنظام ـ من ان يكون ربيع داعش قد بدأ ـ ولكن هذه المرة في السعودية.

رابعاً: التحدي الأمني: إن خسارة تنظيم «داعش» معقل خلافته في الموصل، وتآكل جغرافيته في العراق وسوريا، لا يعني زوال التنظيم. فقد وطّن نفسه على خسارة بعض الأرض، ولذلك اختار الانتشار بديلاً عن وحدة الجغرافيا. وبرغم اختلافه عن تنظيم «القاعدة» في نزوعه نحو «الأرض» التي يقيم عليها «الشريعة»، فإنه البعد الكوني في استراتيجية عمله، جعلته حرّاً في الانتقال من مكان إلى آخر، بما يجعله قادراً على التعويض عن خسائره «الأرضية».

ولا شك، أن «بلاد الحرمين» تبقى البوصلة التي توجّه عملياته، وقد صمّم كل خططه بما يقرّبه اليها. وقد وقعت أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية على تقارير تفيد بانتقال مركز التنظيم الى الاردن (وفيه من الدواعش والقواعد الكثير من الأنصار والمؤيدين) الذي يجعله قريباً من حدود المملكة السعودية. واذا ما حصل ذلك، فإنه سوف يشكّل تحدّياً أمنياً خطيراً، إذ لا يمكن حينئذ عن تنظيم طارىء بل سوف يبعث الخلايا النائمة من رقادها، ويدفع المقاتلين السعوديين في التنظيم للعب أدوار محلية تحريضية وتعبوية وقيادية.

إن الدور الأمني الذي شكّل عنصر التفوّق لدى محمد بن نايف وفريقه في التعاطي مع التنظيمات المسلّحة (القاعدة وداعش) سوف تظهر أهمية وخطورة غيابه حينئذ، وقد يشكّل رهاناً لابن نايف وتيار عريض من الأمراء على فشل ابن سلمان، بما يجعل الباب مشرعاً أمام خيارات أخرى، قد تعيد التوازن للسلطة المحتكرة حالياً من ابن سلمان.

مهما يكن، فإن التحديات الأمنية المستقبلية ليست نمطية، بالنظر الى المشكلات التي تشهدها المنطقة، وبعضها من صنع النظام السعودي نفسه، ومن إبن سلمان على وجه الخصوص، سواء الحرب على اليمن، أو الأزمة مع قطر، وكذلك التوتّر مع ايران في ذروته القصوى، فضلاً عن التحدّيات الأمنية الداخلية لاسيما في حال تواصل فشل التغييرات الاقتصادية.

متى يصبح ابن سلمان ملكاً؟
 
مقرن يبايع محمد بن سلمان بعد ان أجبر على التخلي عن موقعه كولي للعهد

يبقى السؤال: هل يتنازل سلمان عن الحكم لصالح إبنه، وبذلك يكون قد استكمل آخر فصول نقل السلطة، بالطريقة التي أرادها منذ توليّه العرش؟ وهل هناك حاجة ماسة لذلك اصلاً، طالما ان الإبن ـ ولي العهد ـ يمارس مهام الملك في أكثرها؟

نحن أمام أكثر من إجابة:

ـ الأولى، بعد قرار سلمان عزل محمد بن نايف، وتجريده من كل مناصبه، لم يعد هناك ما يحول دون وصول إبنه محمد الى العرش وبسهولة بالغة. وعليه، فإن فكرة التنحي لم تعد ملحّة. من جهة أخرى، فإن تجارب سلمان مع فكرة التنحّي سلبية في الغالب، فقد أثيرت في عهد الملك فهد بعد إصابته بجلطة دماغية في صيف 1996 أقعدته عن مزاولة مهام الحكم، ومع ذلك فقد عارض الأمير سلمان، وكان أميراً على الرياض حينذاك، فكرة التنحي في عام 1998، بل رفض مجرد طرحها على طاولة البحث، وأصر على بقاء فهد على رأس السلطة حتى وإن لم يمارسها عملياً.

وفي مرض الأمير سلطان، ولي العهد ووزير الدفاع الأسبق، حيث أصيب بمرض السرطان الذي شغله عن مزاولة مهمامه في الدولة، وكان منصرفاً للعلاج في الخارج حيث كان يمضى أغلب وقته.. وقتها طرحت فكرة تنحيه عن السلطة لعدم قدرته على أداء مهامه، ولكن سلمان عارض فكرة التنحي في عام 2011 وأصر على بقاء الأمير سلطان في منصبه حتى النهاية.

ـ الإجابة الثانية، أن إبقاء معادلة الحكم على حالها لا يضمن على نحو قاطع وصول نجله الى العرش بصورة سلسة، فقد يشهد اليوم الذي يموت فيه سلمان انبعاثاً مفاجئاً لتحالفات كامنة تمنع محمد بن سلمان من اعتلاء العرش. ولا شك هناك عشرات بل مئات المتربصين من الأمراء من الأجيال كافة (الثاني والثالث والرابع)، من يريد الانتقام من محمد بن سلمان الذي أخفق في بناء تحالف متين داخل الأسرة يحصّن مستقبله السياسي في غياب والده.

وعليه، فإن هذه الهواجس قد تدفع الملك سلمان للتنازل عن العرش، وتعيين ولي عهد جديد لمحمد بن سلمان ـ الملك، من أجل تقويض فرص الانقلاب على إبنه في المستقبل، بأن يمكنه من إدارة شؤون البلاد، وأن يعوّد الناس على وجوده في منصب الملك، بدلاً من الإنتظار الى حين الموت ويصبح لكل حادث حديث.

غير ان مقربين من ابن سلمان، يميلون الى الخيار الاول، ويقولون انه مهما كانت التحالفات المعارضة داخل العائلة المالكة، فإن ابن سلمان من الناحية العملية يمسك بكامل مصادر القوة، حتى قبل الإطاحة بمحمد بن نايف. فبيده الجيش، وبيده الآن وزارة الداخلية، وهو المسؤول الأول عن اقتصاد البلاد وعن قرارات النفط وارامكو والاستثمارات وكل شيء تقريباً (من خلال المجلسين اللذين يرأسهما)، فضلاً عن انه بات واضحاً مسيراً للسياسة الخارجية. في ظرف كهذا، من يستطيع من الأمراء ـ في حال توفي والده الملك سلمان ـ ان يجرؤ على معارضته؟! ومن لديه القوة لقول كلمة: لا ويرفض مبايعته؟!

هناك قوة واحدة متبقية في طريقها للإنهيار، وهي الحرس الوطني الذي ارتبط منذ تأسيسه تقريباً بالملك عبدالله وابناءه. هذا القوة العسكرية، الخارجة نظريا عن سيطرة محمد بن سلمان، سيتم استلحاقها، والسيطرة عليها لأول مرة في تاريخ المملكة، وبالتالي لن تبقى قوة مالية او سياسية او أمنية او عسكرية أو دينية تخالف سلطات الملك القادم محمد بن سلمان!

الصفحة السابقة