خرائب سلمان وتحديات المستقبل

(المتغيّر) هو (الثابت) في المملكة السعودية

يحي مفتي

إنّ التحدّيات التي سوف تواجه النظام السعودي في ظل التغييرات الراديكالية التي أحدثها الملك سلمان على مدى الثلاث سنوات الماضية تنذر بعواقب يصعب التنبؤ بالمديات التي يمكن أن تصل اليها، وبالنظر الى متغيرات داخلية وإقليمية ودولية قد تلعب دوراً عكسياً لتيار أراد سلمان أن يخدم نجله، وقد ينطوي على أخطار تهدد الكيان استقراراً ووحدة. هذه بعض التحديات الرئيسة التي سوف تواجه النظام السعودي في المرحلة المقبلة.

أولاً: الشبكة العائلية المعقّدة
 
الولد سرّ أبيه.. والحكم لمن غَلَب

إذ تتداخل البيوتات وتنفتح على خطوط متشابكة، وسوف تفرض نفسها بقوة في العهد القادم. فالتقديرات المعلنة تفيد بأن عدد أفراد آل سعود ما بين 15 ـ 30 ألف نسمة، وتشمل ابناء الملك عبد العزيز وأحفاده من الذكور والإناث، كما تشمل أبناء وأحفاد إخوانه وأخواته وأعمامه وأبناء عمومته وأحفادهم.. يضاف اليهم عدد من الفروع العائلية المتصاهرة مع آل سعود مثل الفرحان، المشاري، الثنيان، وغيرهم. والخلاصة: إن الدلائل عموماً تشي بمشهد بالغ التعقيد يجعل من انتقال السلطة بصورة سلسة أو بلا ثمن ضرباً من الخيال، تأسيساً على طبيعة تشكّل السلطة والقوى المتنافسة عليها.

وبالنظر الى خارطة العوائل المتصاهرة مع العائلة المالكة والتي تخوض تجاذباً حادّاً لضمان حصتها في الجهاز الدولتي (state apparatus)، هناك أربع عوائل رئيسية تخوض تنافساً داخل مجال السلطة وهي:

الأولى: آل فيصل (أحفاد الأمير فيصل بن تركي الأول بن عبد العزيز، أول وزير للداخلية توفي 1963)، وتصاهر هؤلاء مع آل السديري عبر التزاوج: عبدالرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود تزوّج من سارة والجوهرة بنتا أحمد الكبير بن محمد السديري، ومحمد بن فيصل بن تركي آل سعود وزوجته فلوة بنت أحمد الكبير بن محمد السديري). فشكّل آل فيصل أكبر حاضنة للجناح السديري (السديريون السبعة: فهد، سلطان، نايف، سلمان، عبد الرحمن، تركي، أحمد) بكتلة بشرية تصل الى 4000 شخص. نلفت الى أن الأمير فهد ـ الملك لاحقاً ـ خلف فيصل بن تركي في وزارة الداخلية، وهو إبن حصة السديري. وبعد تسلّم فهد مقاليد السلطة في 1982 خلفاً للملك خالد، كان غالبية آل فيصل من عائلة السديري، من ناحية الأم، وقد سيطرت العائلة على السلطة منذاك، باستثناء عهد الملك عبد الله (2005 ـ 2015)، حيث سعى فيها الى تفتيت العصبة السديرية وتجريدها من مواقع سيادية، إلى جانب موت الأمير سلطان في أكتوبر 2011 ومن ثم الأمير نايف في 12 يونيو 2012. يتغلغل آل فيصل/السديريون في المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية، الأمر الذي يجعلهم القوة النافذة والمؤثرة الأكبر في صنع القرارات الكبرى في المملكة.

الثانية: آل الثنيان، وهم ينتسبون لآل سعود، والى فرع المصاليخ من عنزة شأنهم شأن آل سعود (كما يزعمون)، وهم أبناء عمومة للحاكمين، إلى جانب آل الفرحان وآل المشاري وآل جلوي. ويعود نسبهم الى الامير محمد بن عبدالله بن ثنيان بن ابراهيم بن ثنيان ال سعود، وكانوا حكّاماً على العارض وضرماء في نجد. والثنيان فرع مقرّب من عائلة السديري، ويحتل مكانة مهمة في المجال البيروقراطي المدني من السلطة، في مقابل السلطة السياسية والعسكرية التي يمسك بها آل فيصل. ويدين الثنيان في جزء كبير من نفوذهم لتداخلهم مع عائلة آل الشيخ. وتتألف قبيلة الثنيان من أكثر من 3 آلاف عنصر، وهم منتشرون في أرجاء متفرقة من المملكة.

الثالثة: آل جلوي، وهم ايضا فرع من آل سعود، ولعب دوراً محورياً في معارك عبد العزيز، وتولى إدارة المنطقة الشرقية لعقود من الزمن، ولا سيما في مرحلة انطلاق النهضة الصناعية/ النفطية وقدوم الشركات الاجنبية، الأميركية على وجه الخصوص. وقد اشتهر حكّام آل جلوي في المنطقة الشرقية بقمع الحركات العمالية والاحتجاجات الشعبية السياسية والنقابية، وكان لهم نفوذ واسع في إدارة المنطقة الشرقية إذ أصبحت أشبه بامتياز حصري لآل جلوي.

دخل آل جلوي في خلاف مع آل فيصل وال الثنيان على خلفية الانقسامات التي حصلت في عهد الملك سعود، حيث انحاز بعض أفراد الجلوي الى جانب الملك سعود، ووقفوا ضد آل فيصل. وبعد مقتل الملك فيصل عام 1975، سعى آل جلوي الى تحسين مواقعهم داخل السلطة في مقابل الجناح السديري الذي نجح في السيطرة على المراكز الرئيسة في الدولة.

وبعد تولي الملك فهد مقاليد السلطة سنة 1982، عمل على تعزيز مواقع السديريين في الجهاز البيروقراطي، وفي عام 1985 أصدر الملك فهد أمراً ملكياً بإعفاء الأمير عبد المحسن بن عبد الله بن جلوي آل سعود، وعيّن إبنه محمد أميراً على المنطقة الشرقية، وبذلك أنهى احتكار آل جلوي إمارة هذه المنطقة، وأبقى لهم على محافظة الإحساء (أميرها الحالي: بدر بن محمد بن جلوي آل سعود). ولا يزال أبناء الجلوي ينظرون الى أنفسهم بكونهم شركاء في الدولة السعودية، ويتطلعون لاستعادة نفوذهم في المنطقة الشرقية.

الرابعة: آل سعود الكبير بن عبد العزيز بن سعود بن فيصل بن تركي آل سعود (ت 1959)، ابن عم عبدالعزيز، مؤسس الدولة السعودية. شارك الكبير مع الأخير في عدّة معارك، وزوّجه عبد العزيز شقيقته نورة، وبعد وفاتها زوّجه أختها حصة. وبرغم من أن أبناء هذا الفرع لا يطالبون علنياً بالخلافة، ولكن يرون أن لهم حقاً تاريخياً في السطة لدور والدهم في إقامة المملكة، وفي الوقت نفسه الانتماء لأسرة آل سعود.

وبصورة إجمالية، ثمة استحقاقات قادمة أمام هذه الأفرع الأربعة، ومن غير المستبعد تشكّل تحالفات إنطلاقاً من مصلحة مشتركة أو خطر مشترك، إذ سوف يتعيّن على محمد بن سلمان التعامل مع شبكة معقدة من العوائل المندغمة في تركيبة آل سعود. إن التحدّي الأكبر سوف ينبع من داخل الفرع السديري نفسه، أو آل فيصل، لكون أفراده يمكسون بمفاصل حسّاسة في جهاز الدولة، وأيضاً لكون هذا الفرع منقسماً بشكل عميق في عهد سلمان، ونتيجة الاقصاء الشامل لأفراده واحتكار السلطة من قبل سلمان.

 
سعود بن جلوي، حاكم الشرقية الأسبق

سعى الملك سلمان من خلال دفعات التعينيات الأخيرة الى تشتيت القوة وتوزيعها على عدد كبير من الأفرع بما يحرم الفرع السديري من رجحان القوة وفرص تهديد موقع محمد بن سلمان في المستقبل. وعليه، فإن الخطر المستقبلي المحدق بالمصير السياسي للأمير محمد بن سلمان يكمن في الفرع السديري الذي قد يلعب دوراً محورياً في تقرير مصير السلطة والدولة معاً..

هناك قوى أخرى سوف يكون لها دور ما: علماء الدين (هيئة كبار العلماء)، وجمهرة من شيوخ الصحوة الناشطين، وزعماء القبائل، ورجال الأعمال، والنخبة الثقافية والاعلامية، والتي سوف يعوّل عليها في التجاذبات المستقبلية على السلطة.

ثانياً: شخصية محمد بن سلمان

وهي شخصية فاقدة لخصائص القيادة الكاريزمية، إذ لم يكن تصوّر موقعه النافذ مفصولاً عن شخصية والده (الملك ورئيس مجلس العائلة وحلاّل مشاكلها)، بما يمثّله كمصدر وحيد داعم، وسوف يبقى مرتهناً لوجوده على قيد الحياة، وما بعد سلمان يصبح، بحق، لكل حادث حديث. وقد تنبّه الملك سلمان لهذه الثغرة الكبرى في شخصية إبنه، فاختار له فريقاً من الأمراء الذي ينتمون الى الجيل الرابع من صغار السن وقليلي الخبرة والتجربة ليسهل قيادهم والسيطرة عليهم.

على أية حال، فإن إجراءً من هذا القبيل لا يضع نهاية حاسمة لمشكلة بنيوية في شخصية الملك، في ظل وجود جمهرة من الأمراء المنافسين والحانقين على اجراءات سلمان، والذين يشعرون بالغبن والخسارة، بما قد ينمّي لديهم رغبة في الانتقام والاصطفاف مع أمراء آخرين قد يشكلون تحالفاً ضدّياً، كما حصل في عهد سعود حين لعب ائتلاف الأمراء الذي قاده فهد وإخوته لترجيح كفة فيصل على حساب سعود، وانتهى الحال بفوز فيصل بالسلطة وتنحية سعود، وفي نهاية المطاف كسب آل فهد معركة السلطة. بطبيعة الحال، فإن مكوّنات الصراع قد تغيّرت، وعدد المنافسين قد ازداد بأضعاف، وبالتالي فإن ضبط إيقاع العائلة المالكة يتطلب شخصية كاريزمية قويّة ونافذة، وهذا ما يفتقره اليه ابن سلمان الذي لا العمر ولا الخبرة ولا الموقعية في العائلة المالكة تؤهله للعب هذا الدور الجامع بين الهيبة على المستوى الشخصي والتوافق العائلي على مستوى إدارة القضايا الخلافية.

ثالثاً: مراكز القوى داخل العائلة المالكة

صنعت الطفرة المالية منذ منتصف السبعينيات مراكز قوى داخل أسرة آل سعود، وتعزّزت هذه المراكز في عهد الملك فهد (1982 ـ2005) الذي أطلق العنان لعشرات الأمراء لبناء ما يشبه امبراطوريات مالية ممتدة في آفاق العالم عبر الانخراط في صفقات التسلّح والرشاوى المصاحبة لها، إلى جانب عقود النفط والاتصالات والتجهيزات المتصّلة بالبنية التحتية للمملكة. وبذلك، جمع أعضاء الجيل الثاني (فهد، سلطان، نايف، عبد الله، سلمان، طلال، مشعل..) ثروات ضخمة، وانتقلت الى عهدة أبنائهم.

أمام ابن سلمان خيارات صعبة في التعاطي مع مراكز القوى داخل العائلة المالكة:

■ فإما المصادمة معها تحت عناوين مختلفة (مثل الحرب على الفساد كعنوان مقبول شعبياً)، وبالتالي تحمّل تبعات ما سوف ينجم عن ذلك من ردود فعل. وقد يكون التوقيت المناسب لتحرّك من هذا القبيل هو في حياة الملك سلمان، لأن من غير الممكن التنبؤ بنتائجها في حال غيابه.

■ وإما الابقاء على المراكز وقبول مبدأ «تقاسم السلطة» داخل العائلة المالكة، وهذا ما لا دليل عليه في ظل الجهود المتواصلة لتجميع أطراف السلطة بيد الملك.

■ وإما الدخول معها في «صفقة»، بحيث يترك للأمراء ما جمعوه من أموال، على أن يتركوا له السلطة بكامل حمولتها. ولكن السؤال: هل ستكون «صفقة» رابحة في نظر الأمراء، وقد خسروا ما يعتقدونه حقاً مشتركاً مع ابن سلمان، وهي السلطة؟ الى جانب أن مشكلة الأمراء مع ابن سلمان ليست في المال، بل في تقاسم السلطة، وعليه فإن ما يلزم تسويته هو السلطة توزيعاً أولاً وأخيراً.

نعم، قد يكون تدخل العامل الأميركي في ملاحقة ثروات الأمراء إجراءً محتملاً وإن لم يخل من تداعيات خطيرة على وحدة العائلة المالكة وتماسكها وعلى الأوضاع الداخلية عموماً.

رابعاً: التحدي الاقتصادي
 
تركي الأول بن عبدالعزيز: آله يبحثون عن دور

بالرغم من المشروع الطموح الذي تبناه محمد بن سلمان المتمثل في رؤية السعودية 2030، الا أن الشكوك ساورت الخبراء الاقتصاديين والسياسيين على السواء لناحية افتقار صاحب المشروع لقاعدة بيانات متينة حول الواقع الاقتصادي للمملكة. إن الانتقال الراديكالي من عصر النفط الى عصر الاستثمار لم يكن ينبني على رؤية عميقة لمتطلبات الانتقال، على مستويات تشريعية، وسياسية، وثقافية، واجتماعية.

إن مجرد استعارة نموذج قد يبدو في ظاهره ناجحاً لايعني تحويله الى نموذج معياري، خصوصاً في بلد يتفاوت في مقدراته، وموارده البشرية، وحجمه السكاني وتنوّعه، ومساحته الجغرافية، عن البلد الذي يراد استنسساخ تجربته (دبي نموذجاً).

لقد كرّر الخبراء الاقتصاديون ودعاة الإصلاح السياسي النداء المدخلي للإصلاح الاقتصادي، إذ لا بد أن يسبق الأخير إصلاحات تشريعية وسياسية وحقوقية، ومن غير المملكن السير نحو إصلاح اقتصادي مستقلاً عن إصلاحات في المجالات الأخرى.

يقدّم التآكل المتسارع للفائض النقدي من 737 مليار دولار في أغسطس 2014 الى 508.58 مليار دولار في نهاية مارس 2017، مؤشراً على تراجع الأداء الاقتصادي العام. وتعاني المملكة السعودية من أزمة مالية حادة، بسبب تراجع أسعار النفط العالمية، وأن تخفيض سقف الانتاج لم يحدث تغييراً فارقاً في التسعيرة، إذ لم يصل البرميل عتبة الخمسين دولار. وقد لجأت الحكومة السعودية الى اتخاذ سلسلة من الاجراءات التقشفية القاسية لإصلاح الاقتصاد والاتجاه نحو الاقتراض للحد من الأزمة المالية، وفرض المزيد من الضرائب وتقليص الانفاق العام.

فقد خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو الاقتصادي السعودي هذا العام إلى «ما يقرب من الصفر». ويرى محللون في سيتي جروب، المجموعة المالية هيرميس، وستاندرد تشارترد ترى الصورة أكثر سوداوية، ويتوقعون انكماشاً اقتصادياً للمرة الأولى منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2009، وفقا للبيانات التي جمعتها بلومبرغ. وما لم ترتفع أسعار النفط، فإن وتيرة الإصلاحات المالية من المرجح أن تبقى أبطأ مما كانت عليه في عام 2016»، عندما خفضت السلطات الإنفاق وخفضت الدعم عن السلع، بحسب مونيكا مالك، كبيرة الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري. وقالت «اننا نرى امكانية حدوث نمو منخفض جداً أو بيئة اقتصادية راكدة مع بقاء العجز مرتفعاً». وأضاف «هذا خطر كبير»، بفعل انخفاض أسعار خام برنت بنسبة 15٪ هذا العام إلى 48 دولاراً للبرميل، أي أقل بكثير من المستوى الذي تحتاجه المملكة لتحقيق التوازن في ميزانيتها.

وحتى في حال وصول السعر الى 55 دولاراً للبرميل لن يكون كافياً لتحقيق التوازن بين واحد من أعلى عجز في الميزانية في الشرق الأوسط بحلول عام 2020. فهي بحاجى الى «زيادة تدريجية في أسعار النفط إلى حوالي 70 دولارا «. ولا شك أن انخفاض أسعار النفط تعوّق عملياً خطط ولي العهد الاقتصادية في الوقت الذي تهدد فيه تحديات السياسة الخارجية بكلفة رأسمال سياسي مرتفع، بفعل الحرب على اليمن، والأزمة مع قطر.

خامساً: التحدي الأمني

إن خسارة تنظيم «داعش» معقل خلافته في الموصل، وتآكل جغرافيته في العراق وسوريا، لا يعني زوال التنظيم. فقد وطّن نفسه على خسارة بعض الأرض، ولذلك اختار الانتشار بديلاً عن وحدة الجغرافيا. وبرغم اختلافه عن تنظيم «القاعدة» في نزوعه نحو «الأرض» التي يقيم عليها «الشريعة»، فإن البعد الكوني في استراتيجية عمله جعلته حرّاً في الانتقال من مكان إلى آخر، بما يجعله قادراً على التعويض عن خسائره «الأرضية». ولا شك، أن «بلاد الحرمين» تبقى البوصلة التي توجّه عملياته، وقد صمّم كل خططه بما يقرّبه اليها.

 
ابن سلمان.. حاكم يفتقد الكاريزما والحكمة

دلالة الزيارة التي قام بها رئيس هيئة أركان الجش السعودي الفريق الاول الركن عبد الرحمن بن صالح الى بغداد في 19 يوليو الماضي كانت واضحة لجهة ارتباطها بمرحلة ما بعد تحرير الموصل. والهدف من الزيارة بحسب مصدر عراقي: «لتنسيق الجهود العسكرية لمكافحة الارهاب وحفظ وصيانة أمن الحدود المشتركة، التي يبلغ طولها 814 كيلومتراً..». وتأتي هذه الزيارة في ظل تقارير استخبارية إقليمية وغربية تفيد بانتقال مقاتلي تنظيم داعش الى الاردن الذي يجعله قريباً من حدود المملكة السعودية. واذا ما حصل ذلك، فإنه سوف يشكّل تحدّياً أمنياً خطيراً، إذ لا يمكن حينئذ عن تنظيم طارىء بل سوف يبعث الخلايا النائمة من رقادها، ويدفع المقاتلين السعوديين في التنظيم للعب أدوار محلية تحريضية وتعبوية وقيادية.

إن الدور الأمني الذي شكّل عنصر التفوّق لدى محمد بن نايف وفريقه في التعاطي مع التنظيمات المسلّحة (القاعدة وداعش) سوف تظهر أهمية وخطورة غيابه حينئذ، وقد يشكّل رهاناً لابن نايف وتيار عريض من الأمراء على فشل ابن سلمان بما يجعل الباب مشرعاً أمام خيارات أخرى تعيد التوازن للسلطة المحتكرة حالياً من ابن سلمان. وكما يبدو واضحاً، فإن الرياض في عهد محمد بن سلمان بدأت تقارب قضايا الارهاب من زاوية عسكرية أكثر منها أمنية، وهذا يفسر ايفاد شخصية عسكرية وليس أمنية الى بغداد للتفاهم بخصوص ملف «داعش».

ماذا بعد؟

مهما يكن، فإن التحديات الأمنية المستقبلية ليست نمطية، بالنظر الى المشكلات التي تشهدها المنطقة وبعضها من صنع النظام السعودي نفسه، ومن إبن سلمان على وجه الخصوص، سواء الحرب على اليمن، أو الأزمة مع قطر، وكذلك التوتّر مع ايران في ذروته القصوى، فضلاً عن التحدّيات الأمنية الداخلية لاسيما في حال فشل التغييرات الاقتصادية.

يبقى السؤال: هل يتنازل سلمان عن الحكم لصالح إبنه وبذلك يكون قد استكمل آخر فصول نقل السلطة بالطريقة التي أرادها منذ توليّه العرش؟

نحن أمام أكثر من إجابة:

الأولى: ما نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» في 19 يوليو 2017 نقلاً عن عدد كبير من الناس المقرّبين من الديوان الملكي، بأن الملك سلمان سجّل مقطع فيديو في الأسابيع الأخيرة يقول فيه بأن الوقت حان لأن يصبح محمد بن سلمان ملكاً. وتضيف الصحيفة بأن مقطع الفيديو قد ينشر عند موت الملك أو إبان التنازل العلني عن العرش.

في اليوم ذاته، نشرت وكالة (رويترز) تقريراً جاء فيه أنه بعد الصعود المفاجىء لابن سلمان، هناك توقعات وسط دبلوماسيين ومسؤولين سعوديين وعرب بأن الملك سلمان يستعد للتنحي عن العرش لصالح إبنه. ونقلت عن شهود في القصر، بأن أحد المصادر ذكر بأن الملك سلمان سجّل هذا الشهر ـ تموز ـ بياناً يعلن فيه نقل السلطة الى إبنه. وأن الاعلان قد يذاع في أي وقت، وربما في إيلول المقبل.

على أية حال، فإن «رويترز» عادت ونقلت عن مصدر رفيع المستوى في العائلة المالكة في 22 يوليو الماضي نفيه لما ذكرته الوكالة عن نيّة الملك سلمان التنحي في إيلول القادم. وقال «إن هذا لا يتفق مع أعراف المملكة حيث يبقى الملك على العرش إلى أن توافيه المنية». وأوضح بإسهاب:»هذا السيناريو ليس مطروحاً. الملك في السعودية يحظى بالتبجيل. الملك فهد أصيب بجلطة أعاقت عمله من 1995 إلى 2005 وبقي ملكاً ولم يعزل. كذلك الملك عبد الله قبل أن يتوفى في 2015 كان في حالة غيبوبة وظل في مكانه ولم يفكر أحد في عزله». وختم “أؤكد مليون في المئة أن هذه الفكرة غير مطروحة وليست محل نقاش”. في حقيقة الأمر، إن هذا التوضيح يمثل بأمانة عالية طريقة تفكير الملك سلمان نفسه.

من جهة ثانية، فإن ذريعة إدمان الأمير محمد بن نايف على المخدرات ورفضه العلاج لتبرير عزله، تذكّر بحرب الشائعات بين جناحي الملك عبد الله وولي عهده سلمان حول الاوضاع الصحية والتي أخذت وتيرة متصاعدة في الشهور الأخيرة من حياة الملك عبد الله. في نهاية مارس 2014 سرت شائعات عن تنحي الملك عبد الله عن العرش وتولّي سلمان مكانه بسبب عجزه عن أداء سلطاته، فصرّح «مصدر مسؤول» من جناح الملك عبد الله في أول نيسان من العام نفسه بنفي التنحي، ولمّح إلى مصدر الشائعة بردّه على المتذرعين ببند عجز الملك عن أداء سلطاته (بحسب نظام هيئة البيعة) وقال بأن الملك عبد الله: «ما زال قادراً على إدارة دفة الحكم بكل كفاءة واقتدار».

 
تحديات اقتصادية وفشل سياسي

وتنص المادة (11) من نظام هيئة البيعة على أنه: «في حالة توافر القناعة لدى الهيئة بعدم قدرة الملك على ممارسة سلطاته لأسباب صحية تقوم الهيئة بتكليف لجنة طبية بإعداد تقرير طبي، فإذا ثبت عدم قدرة الملك على ممارسة سلطاته وأنها حالة مؤقتة، تقوم الهيئة بإعداد محضر إثبات لذلك، وتنتقل سلطات الملك إلى ولي العهد. أما إذا أثبت التقرير الطبي أن عدم قدرة الملك على ممارسة سلطاته تعد حالة دائمة، عندئذ تدعو الهيئة لمبايعة ولي العهد ملكاً على البلاد».

من الواضح أن الجناح السديري توسّل هذه المادة لإرغام جناح الملك عبد الله على «التسويّة»، على أساس أن نظام هيئة البيعة هو المرجع الذي يحظى، شكلياً بروتوكولياً على الأقل، بإجماع داخل العائلة المالكة وليس أوامر الملك.

في رد فعل على جناح سلمان، روّج أقطاب في جناح الملك عبد الله (مستشاره خالد التويجري، نجله متعب، ووزير العدل ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الأسبق محمد العيسى) لشائعة إصابة سلمان بمرض الزهايمر لنفي قدرته على مزاولة الحكم. وسافر العيسى الىى الولايات المتحدة لتتبّع الوضع الصحي للأمير سلمان والوقوف على حقيقة إصابته بمرض الزهايمر. وبذلك، فإن أول مصدر تحدّث عن إصابة سلمان بالزهايمر كان جناح الملك عبد الله. الملفت أن سلمان وفور توليّه العرش في 23 يناير 2015، أمر بإعفاء خالد التويجري، فيما سبق العيسى أمر إعفائه بتقديم استقالته، ما أثار ردود فعل في مواقع التواصل الاجتماعي.

على أية حال، فإن مرض سلمان بالزهايمر لايزال يلقى اهتماماً لدى المراقبين والمختّصين بالشأن السعودي. سايمون هندرسون، ومدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ذكر بأن سلمان يتمتع بفترة انتباه قصيرة، ويكرر نفس القصص للزوار ويحتاج الى شاشة حاسوب لحثه على النقاط التي عليه تناولها في حواره، «وعندما زار واشنطن آخر مرة، جلب الوفد المرافق له بالفعل أثاثه الخاص، لكي يجعل جناحه الفندقي يبدو مألوفاً. يبقى أن المرض ليس سبباً للتنحي، فقد عانى الملك فهد من فقدان الذاكرة بعد إصابته بالجلطة الدماغية وبقي في منصبه حتى آخر يوم من حياته.

الثانية: بعد قرار عزل محمد بن نايف وتجريده من الصلاحيات كافة، لم يعد ثمة حاجة ملّحة بروتوكولية أو عملانية تدفع سلمان نحو خيار التنحي، إذ بات الطريق لإبنه سالكاً الى العرش.

من جهة أخرى، إن تجارب سلمان مع فكرة التنحّي سلبية في الغالب، فقد طرح مقترح التنحي في عام 1998 على الملك فهد بعد إصابته بجلطة دماغية، فكان سلمان، الأمير على الرياض حينذاك، من أشدّ المعارضين، بل رفض مجرد البحث فيها وأصر على بقاء فهد على رأس السلطة حتى وإن لم يمارسها عملياً.

وفي مرض الأمير سلطان، ولي العهد ووزير الدفاع الأسبق، حيث أصيب بمرض السرطان الذي شغله عن مزاولة مهمامه في الدولة، وكان منصرفاً للعلاج في الخارج الذي كان يمضى أغلب وقته، وقد طرحت فكرة تنحيه عن السلطة عام 2011 لعدم قدرته على أداء مهمه، ولكن سلمان عارض فكرة التنحي وأصر على بقاء الأمير سلطان في منصبه حتى النهاية.

الثالثة: إن إبقاء معادلة الحكم على حالها لا يضمن، على نحو قاطع، وصول محمد بن سلمان الى العرش، فقد يشهد اليوم الذي يموت فيه سلمان انبعاثاً مفاجئاً لتحالفات كامنة تمنع محمد بن سلمان من اعتلاء العرش. ولا شك، إن هناك عشرات بل مئات المتربصين من الأمراء من الأجيال كافة (الثاني والثالث والرابع)، من يريد الانتقام من محمد بن سلمان الذي أخفق في بناء تحالف متين داخل الأسرة يحصّن مستقبله السياسي في غياب والده. وقد يلعب «مجلس العائلة» دوراً مستقبلياً في غياب سلمان، في حسم الخلاف، وترشيح شخصية موضع إجماع، من الجيل الثاني (لايزال هناك 8 من أبناء عبد العزيز على قيد الحياة)، أو حتى من الجيل الثالث، وهم بالمئات.

وعليه، فإن هواجس من هذا القبيل، قد تدفع الملك سلمان للتنازل عن العرش من أجل تقويض فرص الانقلاب على إبنه في المستقبل. وبذلك، تمكين محمد بن سلمان من إدارة شؤون البلاد، وتعويد الناس على وجوده في سدة العرش، بدلاً من الإنتظار الى حين الموت ويصبح لكل حادث حديث.

السعودية إلى أين؟
 
التحدي الأمني: العوامية.. تهجير وتدمير

في ضوء المتغيرات الدراماتيكية سالفة الذكر، لابد من سؤال الساعة: أي وجهة تسير اليها المملكة السعودية؟

فنحن أمام مشهد يمكن رسم معالمه على نحو عاجل كما يلي:

ـ الانقسام الداخلي غير القابل للإنكار: نلتمس ذلك من معطيات ذات دلائل كبيرة مثل غياب محمد بن نايف عن مجلس عزاء عمه عبد الرحمن (أحد السديريين السبعة)، اختفاء صورة محمد بن سلمان من مجلس أحمد بن عبد العزيز (المنافس الراجح للعرش)، عدم مبايعة عبد الرحمن واحمد ومقرن وعبد العزيز بن عبد الله ومحمد بن سعد وأمراء آخرين من الجيل الثاني والثالث لمحمد بن سلمان، تغيّب الملك سلمان ونجله عن قمة العشرين في هامبورغ الالمانية في يومي 7ـ 9 تموز 2017، والذي وصفته مجلة (فوكس) الإلمانية على أنه خوف من الاضطراب السياسي على خلفية إعفاء إبن نايف، إلى جانب ما اعتبره عبد المطلب الحسيني، الخبير في شؤون الشرق الأوسط، إزدراء الملك السعودي للمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، إذ كان بإمكانه إيفاد إبنه ولي العهد الجديد ممثلاً عنه. لم تكن قمة هامبورغ وحدها التي غاب عنها الملك وولي عهده، بل توقّف سفر إبن سلمان الى الخارج منذ عزل إبن نايف، وبدوره لم يسمح للأخير بالسفر مع عائلته الى سويسرا أو بريطانيا، ما يؤشر الى أزمة عميقة داخل العائلة المالكة.

داخلياً أيضاً، تظهر مؤشرات عديدة على أن نهج الحكم في عهد محمد بن سلمان سوف يقوم على المصادمة وقمع الأصوات المخالفة.

حملة القمع التي بدأت قبل حلول عطلة الصيف تجنح نحو اسكات الناشطين ورجال الدين عن طريق زيادة وتيرة أحكام الاعدام لاسيما في المنطقة الشرقية، وحملة الاعتقالات، والمنع من السفر، ووقف الخدمات المدنية عن كثير من الناشطين وشيوخ الصحوة الذين ينظر اليهم إبن سلمان بكونهم أقرب الى إبن نايف، نتيجة مشاركة بعض منهم في برامج المناصحة. حملة التهويل الامني التي قادها إبن سلمان ظهرت في التراجع الملحوظ على شبكات التواصل الاجتماعي. المحامي والكاتب المقرّب من السلطة عبد الرحمن اللاحم وصف هذا التراجع بـ «الهروب الكبير» في مقالة عن التيار الاخواني في المملكة، ويرى بأن «الأزمة القطرية القشة التي قصمت ظهر هذه الجماعة وخلاياها وجيوبها ورموزها في الداخل..»، وأشار الى الحملة الامنية ضد هؤلاء «وعندما أحسوا بأن يد العدالة تقترب من أعناقهم لاذوا بالفرار..».

ـ التخبّط في إدارة ملفات: الحرب على اليمن، والعلاقات الخارجية: ايران، العراق، لبنان، باكستان، تركيا، فلسطين، وأخيراً الأزمة مع قطر، تنذر بدبلوماسية موتورة في المرحلة المقبلة، وسوف تنعكس في علاقات مأزومة مع دول إقليمية وعربية، وإن مهّدت لعلاقات حيوية مع الولايات المتحدة و»اسرائيل».

وعلى الضد من الرأي القائل بأن الانتقال من «النيابة» الى «المباشرة» في عهد الملك سلمان يعكس الشعور بالقوة والثقة، فإن هذا الانتقال لا صلة له بفارق القوة وإنما بفارق القلق.. في زمن الاستقرار والثقة بالذات لم تكن المملكة السعودية تنزع الى المباشرة في الخطاب، والمواقف، واللهجة، بينما اليوم بات القلق محرّكاً فعالاً لقرارات غير متوازنة تبنتها القيادة السعودية في الأوامر الملكية الداخلية، وفي ملفات خارجية: الحرب على اليمن، والأزمة مع قطر، والتوترات المعلنة والمستترة مع ايران، وسلطنة عمان، ومصر، وباكستان، وتركيا، ولبنان، والعراق.

باختصار: السعودية ليست في حال استقرار وثبات، بل إن المتغيّر هو الثابت في المملكة السعودية.

الصفحة السابقة