ما لم يقله محمد بن سلمان

مع اغناتيوس مجدداً: حوار مدفوع الأجر!

محمد فلالي

لا ينفك ديفيد اغناتيوس، الذي وصفناه ذات مقالة بأنه مطبّل فخم، يقدّم الدليل تلو الآخر على أن الحوار الذي يجريه مع محمد بن سلمان ليس حواراً عادياً، أو بالأحرى ليس حواراً بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هو مادة دعائية مكثّفة ومعدّة بإتقان.

إصراره على ذكر المدة الطويلة للمقابلة، لا يغيّر من حقيقة أن ثمة جهداً فردياً قام به اغناتيوس، كيما تصل الأمور الى خواتيمها المرسومة سلفاً، أي مقابلة بجرعة دعائية عالية.

 
ديفيد اغناتيوس: صحفي مأجور!

في الأصل، هناك نيّة مبيّتة لدى الدوائر الأميركية والبريطانية، لناحية تظهير محمد بن سلمان في هيئة المصلح، الحازم، رجل التغيير، وشخصية الوقت المناسب. بوريس جونسون، وزير الخارجية البريطاني، قال في 28 فبراير الماضي بأن «محمد بن سلمان يستحق دعمنا»، وهو كلام تكرّر بصيغ مختلفة في الدوائر الأميركية.

في المقابلة المزعومة التي أجراها ديفيد اغناتيوس مع محمد بن سلمان في صحيفة (واشنطن بوست) ونشرت في 28 فبراير الماضي، لا يمكن للمرء أن يترجم مستسلماً لما ورد حرفياً في المقابلة دون تعليق على ما فيها، لأن ما فيها لا يمكن أن يمرّ هكذا وكأن القارىء مجرد (صَيْدَةْ)، أو أسيراً لجُمل فيها ما فيها من المغالطات والكلام الحرام.

اختار اغناتيوس لمقابلته شيفرة «الصدمة» لاختطاف انتباه القارىء، وكأننا أمام اكتشاف تاريخي، أو عملية نادرة الوقوع في حركة الاصلاحات عبر التاريخ. إن «الصدمة» التي اختار اغناتيوس وصفها لما قام به محمد بن سلمان منذ 4 نوفمبر 2017 هي بمثابة «تفلسف» فارغ، أو كمن يضفي على جريمته معنى راقياً.

بكل وضوح وبدون فذلكة تافهة، حملة محمد بن سلمان على الأمراء لم يكن القصد منها مكافحة الفساد، وإنما نزع مصدر قوة من أيدي الأمراء يمكن أن تستخدم في مرحلة يكون فيها سلمان قد توسّد القبر، وبات الصراع على السلطة أمراً حتمياً. والأمر الآخر تقويض «مراكز القوى» داخل العائلة المالكة.

يقول اغناتيوس بأن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، وصف الموجة الجديدة من الإصلاحات وحملته ضد الفساد بأنها جزء من العلاج بـ»الصدمة»، لكونها «ضرورة لتطوير الحياة الثقافية والسياسية في المملكة وكبح التطرف». كل ذلك قاله محمد بن سلمان وباللغة الإنجليزية أيضاً. لابد أن يكون الرجل عبقرية سياسية فذّة، لأن هذا الكلام كبير على ابن سلمان، ويتناقض مع ما قاله زوّاره أو محاوروه في موضوعات بالغة الحساسية، والتي بدا فيه مثل «جمجمة خاوية» بحسب أحد من التقاه في لقاء مرتبط بملف إقليمي.

وبعيداً عن ذلك كله، أن مبدأ «الصدمة» لم تكن حاضرة في الحملة على أمراء الريتز، فقد توقّعنا ذلك قبل شهور، وذكرنا ذلك في عدد أغسطس 2017، وأن عنوان تقويض مراكز القوى داخل العائلة المالكة سوف يكون «الحرب على الفساد»، وإن الحملة لا بد أن تتم في حياة والده سلمان لضمان نتائجها.

الطريف أن إبن سلمان قال بعد «الصدمة» كلاماً بات من البديهيات في علاج مرض السرطان على الأخطاء الواردة فيه كقوله: «أن يكون لديك جسد مصاب بالسرطان في كل أعضائه، سرطان الفساد، فعليك استخدام العلاج الكيمياوي، وإلا فإن السرطان سيلتهم الجسم». هل ثمة جديد في هذا الكلام؟ بالطبع كلا، ولكن ما لا يعرفه اغناتيوس أو إبن سلمان هو أن العلاج الكيمياوي يتم استخدامه في حالات كثيرة وليس بالضرورة أن يصاب الجسد في كل أعضائه بالسرطان.

والطريف أيضاً، أن ابن سلمان، وربما خان اغناتيوس التعبير حين قال بأن: «المملكة لن تتمكن من تحقيق أهداف الميزانية دون وضع حد لهذا النهب». فالميزانية لا تحقق أهدافها بوضع حد للنهب فقط، بالرغم من أن العائلة المالكة بالغالبية الساحقة من أفرادها، ومن بينهم سلمان وأبناؤه، وعلى رأسهم محمد الذي اشترى يختاً روسياً، وقصراً فرنسياً ولوحة فنية أميركية (دافنشي) بما يفوق مليار دولار.. غارقة في النهب والفساد، الا أن مصادر تمويل الميزانية أشمل من ذلك، وإن الحملة على الفساد، التي يقودها لأغراض أخرى لا علاقة لها بالفساد، لا تجعل منه مصلحاً، ولن تضع حداً للهدر في الموازنة أو تحقق أهدافها.

يمارس محمد بن سلمان الاستبداد السياسي، واحتكار عملية صنع القرار، في ظل غياب الشفافية ـ كما الحال الآن، وحتى في الفترة التي قضى فيها الأمراء في فندق الريتز ـ بحيث لم يطلع ابن سلمان الرأي العام المحلي على تفاصيل التحقيقات، وما هي المبالغ المستحصلة من الأمراء، وطبيعة التسويات المالية، والأهم من ذلك كله: مصير الأموال التي حصل عليها ابن سلمان في تلك التسويات.

من الأمور المستغربة في مقابلة ابن سلمان، أنه يتذكر في أواخر سن المراهقة أن هناك أشخاصاً حاولوا استخدام اسمه وعلاقاته. كيف؟ قبل أن يجيب يستدرك «لقد كان الأمراء الفاسدون قلّة، ولكن الجهات الفاعلة السيئة حظيت باهتمام أكبر. لقد أضرّت بقدرة العائلة المالكة».

بصراحة، مقولة أن الأمراء الفاسدين قلّة! هي كبيرة بعض الشيء، مع أن الأثرياء المتخمين في هذا البلد ليسوا سوى من الأمراء، فكيف جمعوا ثرواتهم، وأولهم محمد بن سلمان نفسه، ومعه أمراء آخرون مثل: الوليد بن طلال، محمد بن فهد، خالد بن سلطان، عبد العزيز بن فهد، ومحمد بن نايف والقائمة تطول. وأما الكبار فليس هناك من السديريين السبعة الا من تجاوزت ثروته العشرة مليارات دولار، وبات ذلك معروفاً في توزيع الإرث فهد (400 مليار ريال)، سلطان (720 مليار ريال)، وليست ثروات سلمان ونايف وتركي وعبد الرحمن وأحمد بأقل من ذلك، وإن أخفى هؤلاء طبيعة النشاطات التجارية التي يقومون بها. الأمراء الآخرون ليسوا أقل ثراءً، فقد بلغت ثروة مشعل بن عبد العزيز تريليون ومائتي مليار ريال. الفساد في العائلة المالكة ليس محصوراً في قلة، بل كان ولا يزال متفشياً وقديماً.

 
ابن سلمان يعالج الشعب بالصدمات ـ مقابلة الواشنطن بوست

أما الحرب على الفساد، فقد سبق وأن حاول عبد الله تقليص مخصصات الأمراء، وكان سلمان أول من عارض ذلك مع شقيقه نايف. لا ننسى أن الملك عبد الله حين طرد محمد بن سلمان من الحكومة، عاد هو الى العمل في إدارة شركات والده، وهي شركات لم يؤسسها بمخصصاته المالية، أو مرتباته الشهرية، بل هي من الأموال التي حصل عليها بطرق غير مشروعة، وهي جزء من عملية الفساد المالي الكبرى والمنظّمة ضمن اتفاق أمراء آل سعود.

يقول ابن سلمان بأنه «تم إطلاق سراح جميع المعتقلين ما عدا 56 شخصاً، بعد دفعهم تعويضات». وأضاف أن «معظمهم يدركون أنهم ارتكبوا أخطاء كبيرة، وقد قاموا بالتسوية».

طالما أن الكذب لا ضريبة عليه، وإذ لا قضاء مستقل يعاقب، ولا إعلام حر يراقب، ولا برلمان يحاسب، فبإمكان محمد بن سلمان ان يتلو روايته فتصبح نهائية، ولا رواية بعدها. يقول بأنه يحظى بدعم شعبي، وليس فقط من الشباب السعودي، بل وحتى من أفراد العائلة المالكة. أما الدعم الشعبي فدليله الآلاف الذين يقبعون خلف القضبان لمجرد أنهم عبّروا عن آرائهم الحرّة، بعيداً عن حفلات الردح الإعلامي التي يديرها فريق ابن سلمان من أمثال سعود القحطاني وتركي آل الشيخ وثامر السبهان وأضرابهم. وأما دعم العائلة المالكة، فالأدلة المناقضة كثيرة، ومنها غياب هؤلاء عن أي محفل رسمي تجمعه بهم ولو لمجرد التقاط الصورة، وإن حركته المحدودة في الداخل وإحجامه عن السفر منذ إطاحة محمد بن نايف من ولاية العهد ووزارة الداخلية في 4 يونيو 2017 دليل على أن الرجل مذعور ويخشى الاغتيال، وصار حتى كأس الماء الذي يقدّم له يخضع للرقابة والفحص.

شيء آخر لم نفهمه كجوابه عن سياسته المحلية والإقليمية حيث قال: «إن التغييرات تُعد جوهرية لتمويل تنمية المملكة ومكافحة أعدائها، مثل إيران». عن أي تغييرات يتحدّث؟ هل هي الضرائب الباهظة والرسوم الجديدة على الماء والكهرباء والمشتقات البترولية، ورفع الدعم عن المواد التموينية، واختفاء الرز من الأسواق، والتضخم.. عن أي تغييرات؟ هل هذه مصادر «تمويل تنمية المملكة».

وأما السياسة الإقليمية التي يتبعها ابن سلمان، فقد حصد النظام السعودي ثمارها المرّة الى القدر الذي دفع سلمان للتدخل لوقف مسلسل التدهور والانهيار. وهل بمكافحة ايران يتم تخريب اليمن، وتخريب العلاقة مع لبنان وقبلها العراق والأردن والسلطة الفلسطينية ومع الجزائر وأخيراً الكويت التي لم تسلم من التصريحات الطفولية لوزير رياضته تركي آل الشيخ..عن أي سياسات إقليمية؟

وهنا نتوقف عند ديفيد اغناتيوس الذي كان المحرر الرئيسي للمقابلة مع ابن سلمان، وحتى قوله أن الأخير «تحدث في الحوار باللغة الإنجليزية بشكل كامل»، على أية حال، وبحسب المثل المصري «الميه تكذب الغطاس». فقد التقى محمد بن سلمان مع وزير الدفاع الأميركي ماتيس في البنتاغون في 16 مارس 2017، وفي مبنى البنتاغون لم ينبس ببنت شفة انجليزية حتى حين كان يتصافح مع مسؤولي البنتاغون؛ وحين تبادل الطرفان الحديث، تحدث هو بالعربي، وكان عادل الجبير وزير الخارجية يترجم الى الإنجليزية. من يقول بأن ذلك من البروتوكول أن يتحدث بلغته الأصلية، ونجيب وهل من البروتوكول أن يتحوّل الجبير، وهو وزير الخارجية، الى مترجم؟!

أطرف من كل ما سبق، تبرير ابن سلمان لخوضه الصراع على جبهات كثيرة جداً، والقيام بمخاطر في كثير من الأحيان، وقال: «إن اتساع وتيرة التغيير وسرعتها يُعتبران ضروريين للنجاح». الظاهر إن خبرة ابن سلمان في الألعاب الالكترونية كانت طويلة وعميقة الى حد أنه بات يهوي خوض عدد من المعارك في وقت واحد. في عقيدة إبن سلمان: ليس مهماً أن تكسب المعركة، وإنما المهم هو أن تخوضها! ولذلك أي حرب يخوضها عسكرية كانت أم سياسية أم اقتصادية تأتي على الدوام بنتائج كارثية.

كلما توغّلت في مقابلة اغناتيوس مع إبن سلمان يتأكد خبر التدخل المباشر للصحافي المتملق والمأجور، لأن القوالب اللغوية المستعملة لا تنتمي لا لثقافة ابن سلمان ولا لبيئته الملكية. وإنما هي تصنيع مفتعل لشخصية يراد لها أن تكون مطيّة لمصالح أمريكية في المنطقة، شأن نظيره أو ربما ملهمه محمد بن زايد.

بخصوص التغييرات التي أجراها في وزارة الدفاع وإنهاء خدمات رئيس هيئة الأركان وتعيين قادة عسكريين جدداً، يقول ابن سلمان بأنه «تم التخطيط لذلك منذ عدة سنوات من أجل الحصول على نتائج أفضل للإنفاق السعودي على وزارة الدفاع». بصراحة هذه قويّة جداً، لأنه حين يتحدّث عن الوتيرة السريعة للتغييرات، فيما يقول هنا بأنه تم التخطيط لعملية التغيير في وزارة الدفاع منذ عدّة سنوات نكون أمام معادلة «حيص بيص»، ثم كيف يكون ذلك مع أن تغييرات جرت قبل عشرة شهور في المؤسسة العسكرية؛ ثم ان عمر ابن سلمان في وزارة الدفاع ثلاث سنوات تقريباً.

الانفاق العسكري الفلكي ثابت ولا يحتاج الى دليل إضافي، فقد تحوّلت صفقات التسلّح مصدر الهدر الرئيسي لثروة البلد بسبب النهب الكبير الذي يرافق صفقات الأسلحة، ولم يتوقف هذا النهب حتى اليوم، سوى أن السريّة باتت أشدّ، حتى لا يسمح لا للإعلام ولا للقضاء (في البلدان المصدّرة) من الوصول الى أسرار الصفقات والرشاوى المصاحبة لها.. يقول ابن سلمان بأن «ترتيب الجيش في المملكة، التي تملك رابع أكبر ميزانية للدفاع في العالم، يقع في المرتبة ما بين الـ 20 أو 30 في قائمة أفضل الجيوش في العالم»، وهل الرتبة بحجم الموازنة؟ أم أن هناك عوامل أخرى تدخل في التقييم، من بينها النظام السياسي الحاكم، والعقيدة القتالية، والتجانس الداخلي، وطبيعة الأهداف المرسومة، والبيروقراطية العسكرية الحاكمة.. الخ.

من النكات الطريفة في هذا الصدد هي خططه الطموحة «لحشد القبائل اليمنية ضد الحوثيين وداعميهم الإيرانيين في اليمن». أليس مستغرباً، أنه يتحدث عن الجيش السعودي وكيف أنه برغم موازنته العالية، لا يزال يقبع في مرتبة منخفضة، وهذا يفترض أن يؤسس للحديث عن خطة لتطابق الموازنة مع القدرة القتالية للجيش، وإذا به نفسه من طرف خفي يضع خططاً لحشد القبائل اليمنية في وجه الحوثيين؟!!

في الملف اللبناني، وبدلاً من التزام الصمت بخصوص إرغام رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري على الاستقالة في الرابع من نوفمبر الماضي، كابر محمد بن سلمان وركب رأسه وأصرّ على نفي ذلك، بل أحال من الاستقالة الى انتصار رغم الهزيمة الثابتة والمؤكدة. يقول بأن «سعد الحريري الآن في وضع أفضل في لبنان مقارنة بميليشيات حزب الله المدعومة من إيران». إذا كان ابن سلمان لا يتابع فتلك مصيبة، وتكبر المصيبة حين يعتمد على تقارير مستشارين أو حلفاء منافقين، لأن الحريري عاد بعد الاستقالة أضعف من ذي قبل سعودياً، وإن ما قوّاه هو وقوف رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون وحزب الله ووليد جنبلاط، وليس حلفاء آل سعود من 14 آذار.

في النتائج، إن مقابلة اغناتيوس لابن سلمان هي وصمة على الأول وفضح للثاني، وما قيل فيها هي مجموعة خزعبلات تؤكد أن ابن سلمان يسير في الطريق الخاطىء للتاريخ.

الصفحة السابقة