دولة التزوير

تشكيلة واسعة من الأساطير نثرها ولي العهد الشاب المتفجّر حماساً، وطموحاً، وغطرسة، وكذباً، وسط الاعلام الأميركي. لا نملك أداة لقياس حجم التأثير الذي تركه المال الحرام في هذا الوسط، ولكن من قراءة مجمل المقابلات والمقالات التي نشرت حول جولته الأميركية، يبدو أن هناك من تناقض مع ذاته بفعل المال، وهناك من أبت عليه مهنته الا التصالح مع ذاته وتوصيف الأشياء كما هي، وهناك من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فهؤلاء مرجون لتقييم الناس بحسب أفهامهم وميولهم السياسية والايديولوجية.

ما يعنينا هنا، أن ابن سلمان زاول خداعاً مشفوعاً بعبثية مثيرة للاشمئزاز، فهو لم يتلاعب بذاكرة الجزيرة العربية، ولا بالسجل التاريخي لمنطقة الشرق الأوسط، فحسب؛ بل بدأ العبث أول مرة حين رسم صورة عن النبي صلى الله عليه وآله بما يتناسب مع نزوعه الانفتاحي، وصوّر الحقبة الاسلامية الأولى على أنها مكتظّة بالنشاطات الترفيهية، فكانت تقام المسارح، وكان الغناء والرقص.

وكنا نعتقد بأن تلك سقطة أو عثرة وقى الله المسلمين عواقبها. ولكن، يبدو، وطبقاً لمبدأ «من أمن العقوبة أساء الأدب»، فإن الشاب وتحت وطأة التطبيل والداشرية الدعائية المكثّفة، شعر بأن الايغال في الفبركات لا ضرر منه، وسوف تمرّ كما مرّ غيرها.

من بين ما قاله ابن سلمان، هو أن المرأة السعودية كانت تتمتع بحقوق كثيرة قبل العام 1979 (أي قبل الثورة الايرانية، مع أن المرأة هناك تتمتع بحقوق قبل وبعد الثورة بما في ذلك قيادة السيارة، والترّشح للانتخابات..). وجه الغرابة حقاً حين ينسب الى الثورة الايرانية سبب عدم حصول المرأة في المملكة على حق قيادة السيارة، وهو حق كانت تتمتع به قبل العام 1979.

نقرأ أيضاً، أن ابن سلمان يريد قيادة ثورة اصلاحية اجتماعية واقتصادية ليس على مستوى المملكة فحسب، بل وفي الشرق الأوسط عموماً.

مجلة «التايم» تساءلت في مقابلة مع ابن سلمان نشرت في 5 إبريل الجاري، أن ولي العهد السعودي يعتقد بأنه يستطيع تحويل الشرق الأوسط، فهل علينا أن نصدّقه؟

 تجاوزت المجلة البهرجة الاعلامية التي رافقت جولته في الولايات المتحدة. وقدّمت طائفة من الحقائق، من بينها أن 55% من الاميركيين لا يثقون في السعودية، وفقاً لاستطلاع جالوب الأخير. استذكرت مجلة (التايم) حقيقة ضلوع السعودية في الارهاب الدولي، بما في ذلك هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، كما استحضرت الكوارث التي أحدثها ابن سلمان في اليمن. وتوقفت المجلة عند ثورته المزعمة، وقالت بأنه اذا حصل ذلك، فسوف يحوّل: «واحدة من الأنظمة الاستبدادية الأكثر رجعية في العالم، ومصدر النفط والإيديولوجية الإرهابية، إلى قوة للتقدم العالمي». واستدركت المجلة: «لكن التغيير المفاجئ غالباً ما ينتهي بشكل سيء في الشرق الأوسط»، ولذا حذّرت الإعلام من تصرفات ولي العهد في الداخل والخارج. وبحسب تشاس دبليو فريمان جونيور، وهو سفير أمريكي سابق في الرياض في عهد الرئيس جورج دبليو بوش: «إن الكثير مما فعله ولي العهد بتسرّع يجعله ضعيفاً».

ترسم «التايم» صورة مناقضة لما يريد ابن سلمان وتقول: “خلال الـ 75 دقيقة التي قضاها مع التايم في فندق بلازا في مدينة نيويورك، لا تزال القنابل السعودية تسقط على اليمن، ولا زال المدونون السعوديون في السجن، و3 من أصل 4 مواطنين سعوديين يتقاضون رواتب، فيما يحصل الأجانب الأكثر فقراً على 84٪ من الوظائف الحقيقية». هذه الصورة الحقيقية التي تريد المجلة أن يعرفها العالم وليس الصورة المزوّرة التي يريد تعميمها ابن سلمان.

وحتى دعوى محاربة التطرّف في الداخل، واختطاف الاسلام من قبل المتشدّدين، عارضته «التايم»، وأعادت تصويب البوصلة نحو الحقيقة، حيّن نبّهت الى أن ابن سلمان «منذ شهر سبتمبر أودع عشرات من رجال الدين اللاعنفيين والمفكرين الإسلاميين السجن، مما دفع المسؤولين الأميركيين الحاليين والسابقين إلى التساؤل عمّا إذا كان حديثه عن الإصلاح يخفي حملة على المعارضة». ونقلت المجلة عن مسؤول سابق في البيت الأبيض قوله: «لم يضعف القمع السياسي. هذا ليس إصلاحاً ديمقراطياً».

وعابت المجلة على داعمي ابن سلمان في الإدارة، لأنهم قد يصحوا على خديعة كبرى بفعل رواية مزوّرة يقدّمها عن الاصلاح والتغيير في بلده. يسأل آرون ديفيد ميلر، مسؤول وزارة الخارجية منذ فترة طويلة في مركز وودرو ويلسون: «عندما كنت في وزارة الخارجية، كنا نصلي من أجل قائد مثل هذا. [لكن] احذر من تمني شيء لا تريده حقاً».

الصورة النمطية الرائجة عن سلمان وأبنائه بأنهم نظيفو اليد، والتي تأثرت «التايم» بها هي الأخرى.. عادت وتراجعت عنها حين ذكّرته بنفقاته الخاصة على اليخت الروسي، والقصر الفرنسي، واللوحة الاميركية. على أية حال، يعد سلمان من الملوك الأشد ذكاء في إخفاء آثار ثروته، مع أن جولاته الخارجية توحي بإسراف وبذخ لا يضاهيهما سوى جولات الملك فهد، شقيقه الأكبر ومثله الأعلى.

حتى الآن لا تغييرات حقيقية في الواقع المحلي، ما عدا شكليات ترفيهية مثل اقامة المهرجات الموسيقية، والسماح بدور عرض السينما، والسماح للنساء بقيادة السيارة ابتداءً من يونيو القادم. ماعدا ذلك، لا أثر لتغييرات اقتصادية واجتماعية وسياسية وتشريعية فارقة. وفي كل الأحوال، يبقى السؤال الكبير والمعياري هو الاصلاح السياسي، الذي تساءل عنه كثيرون، لا سيما في ظل موجة الاعتقالات (قام ابن سلمان «بشكل تعسفي» بسجن 60 ناشطاً وصحافياً وأكاديمياً ورجل دين منذ سبتمبر الماضي).

وبدعوى محاربة ايران، شنّ ابن سلمان حرباً علىى اليمن أودت بحياة أكثر من 10 آلاف شخص، ودمّر ما كان بالفعل أفقر دولة في العالم العربي، وقد تمّ تسجيل ما يزيد على 16749 غارة جوية منذ العام 2015، الثلث منها على الأقل ضد مواقع غير عسكرية.

قدّم ابن سلمان شهادات مزوّرة في موضوعات كثيرة، كما في باقي المقابلات، ولكنه كان واضحاً في موقفه من الكيان الاسرائيلي حيث قال: «لدينا ـ يقصد السعودية واسرائيل ـ عدو مشترك ـ أي ايران ـ ويبدو أن لدينا الكثير من المجالات الممكن التعاون فيها في المجال الاقتصادي». هو لم يتردد في الموقف من اسرائيل وحقها المزعوم في الوجود، بل كرّره في أكثر من مقابلة.

في الأخير: محمد بن سلمان مزوِّر، ويدير دولة مزوَّرَة.

الصفحة السابقة