النشمي والرواية الاخرى لعملية الخبر

المواجهة الشاملة ضد الدولة

فوّاز بن محمد النشمي، قائد (سرية القدس) التي نفّذت عملية الخبر في شرق المملكة، سرد في لقاء خاص مع مجلة (صوت الجهاد) الناطقة بإسم التنظيمات الجهادية التابعة لشبكة القاعدة، تفاصيل العملية وقدّم رواية تختلف كلياً عن الرواية الرسمية، بل زاد عليها بأن كشف الثغرات الرئيسية في رواية الحكومة وقدّم معلومات جديدة تنشر لأول مرة.. ولعل من أهم الحلقات المفقودة في الرواية الرسمية هي المتصلة بكيفية انتهاء عملية احتجاز الرهائن، والتي تم التعتيم عليها لساعات طويلة ثم تبين لاحقاً بأن أفراد المجموعة لاذوا بالفرار، وأن اعلان وزارة الداخلية عن خبر الفرار كان على ما يبدو للحيلولة دون استباق وسائل الاعلام المناصرة للمجموعات الجهادية في الكشف عن خبر الفرار الامر الذي يضر بمصداقية الاعلام الرسمي.. وقد روى النشمي بأن المجموعة تمكنت من التسلل من المجمع بعد منتصف الليل، فيما كانت القنوات التلفزيونية تنقل مشاهد اقتحام المجمع وإنزال الجنود على سطح الفندق في الساعة السابعة صباحاً أي بعد ساعات من فرار المجموعة وربما ابتعادها عن المنطقة بأسرها على حد النشمي.

إن قيمة المقابلة لا تنحصر في المعلومات التي حوتها ولكن أيضاً في المضامين الايديولوجية والسياسية، ففي إجابات النشمي ثمة رؤية، وأجندة، وأهداف كبرى.. فهو يقرر بأن المجموعة لا تقدّم نفسها كحركة استشهادية فحسب، وإنما ايضاً حركة تغيير تناضل من أجل تحقيق أهداف محددة وضد نظام سياسي تكفره هذه المجموعة ـ الحلقة في سلسلة طويلة من الجماعات المنضوية تحت لواء التيار الجهادي السلفي في المملكة والمرتبط بدوره بشبكة القاعدة.

بالنسبة لعملية الخبر فإن المجموعة التي نفّذتها كانت قد تعاقدت على القيام بعملية استشهادية تحقيقاً لـ (معنى الانغماس في العدو)، وفي ذلك دلالة على أن المواجهة تدور رحاها ضد (عدو) والذي يشمل ليس فقط الغربيين والاجانب بل يمتد مسرح العمليات ليشمل قوات الامن والحراسات وتالياً الحكومة.. يقول النشمي (ظهر الإخوة من النوافذ وبدأوا بالتكبير والرماية عليهم ورأيت جمجمة العسكري الواقف خلف الرشاش تتفجر أمامي ولله الحمد). كما يتحدث عن رد فعل المجموعة على اقتحام قوات الطوارىء للمبنى فيقول (وفي الساعة الثانية اقتحموا وكان معهم ضابط، ونحن نراهم من مكاننا، فرمينا عليهم القنابل وقُتِل الضابط ولله الحمد وأصيب جنوده..).

يكشف النشمي عن أن الجماعة التي يتحدث بإسمها ليست ظاهرة استثنائية وطارئة او حركة انفعالية انشقاقية سريعة الاشتعال والخمود، بل هي جماعة مؤسسة في حركة تطهير اجتماعي وديني، لها بنية تنظيمية صلبة، ولديها قائمة مهام وتكليفات، ولديها أيضاً نظام قيادي، وهنا تكمن انفصالية الحركة عن الدولة.. فحين يقول النشمي بأن (أبو هاجر كلفني بإمارة المجموعة) فهو يتحدث عن مجتمع مضاد منفصل عن المجتمع القائم، وأمير بديل عن الحاكم السياسي، ومعيارية مختلفة للطاعة والالتزام، وبالتالي فإن المرجعية هنا ليست للدولة بل لأمير الجماعة الذي تصبح أوامره تكاليف دينية يجب الامتثال لها، وأن الدولة من الناحية العملية تصبح من الناحية الشعورية والمبدئية ساقطة اعتباراً وأن السعي يكون الى تحقيق هذا السقوط على الأرض..

من الناحية الاستراتيجية، فإن المجموعة إنتقلت من العمل العشوائي الى التخطيط المحكم والتنفيذ المتقن، وهذا ما يكشف عنه النشمي من خلال مراقبة الموقع المستهدف، والاعداد العسكري الضروري المناسب، وتقدير حجم الاضرار المتوقّعة، ووضع خطة للرصد والهجوم والمتابعة المتصلة، بل وفوق ذلك تقدير حجم الذخيرة المطلوبة في هذه العملية.

لماذا مجمع الواحة؟

يقول النشمي في المقابلة بأن الواحة (أكبر منتجع للعهر والدعارة) وهو توصيف يراد منه شيء آخر غير المعاني الواردة فيه، ولربما يلجأ مثل هؤلاء الى إستعمال عبارات ذات دلالة معينة ومتشددة من أجل تبرير الهجوم.. ومن خلال تقصي المعاني الخفيّة في ثنايا كلام النشمي تظهر حقيقة أخرى. لا يعكس المعنى الدقيق للكلمات المستعملة في توصيف المجمع، حيث يزعم النشمي بأن اطلاق اسم مجمع الصانع ما هو الا تغطية للمالك الحقيقي وهو أمير المنطقة الشرقية الامير محمد بن فهد.

في الاجابة الثانية للنشمي تكمن حقيقة جديدة تلفت الى خلفية التوترات الاجتماعية والسياسية في السعودية. يقول النشمي عن المجمعات التي جرى استهدافها (هذه المجمعات لم أر مثلها في حياتي.. وهي أفخم وأثرى منطقة في المنطقة الشرقية وكلها قصور، لدرجة أن أمير الشرقية ساكن فيها، حتى أننا كنا نرى جنود المارينز يخرجون من هذه المجمعات بالبدلة العسكرية..).

ففي هذه الفقرة يحدد النشمي على وجه الدقة محرّضاً رئيسياً لدى الجماعة الجهادية في الحرب التي يخوضونها في الداخل.. بالنسبة لهم يمثل (مجمع الواحة) رمزاً للتفاوت الطبقي والاختراق الايديولوجي وتالياً المواجهة الحضارية. إن اختيار مجمع الواحة لم يكن يعني مجرد كونه يضم غربيين يعملون في مجال النفط، بل وأيضاً لأنه يرمز الى الثراء الذي ينعم به الوافد على حساب المواطن الذي يعاني من بؤس العيش.. إن عناصر المجموعة التي هاجمت المجمع ينتمون الى الجيل العشريني، وهو الجيل الذي تستوطنه البطالة وتشكّل بعد بداية انحسار ظل دولة الرفاه والرعاية.. وهذا يستدعي صورة الحشد أمام (مركز المملكة) التابع للعائلة المالكة والذي يديره الامير الوليد بن طلال، حيث عبّر المحرومون في العام الماضي عن غضبهم امام رمز الثراء الفاحش، مطالبين بتحسين ظروفهم الاقتصادية..

ولابد أن ثمة مغزى خاصا في اختيار مجمع الواحة السكني بمدينة الخبر والذي يعد من أكثر المناطق رفاهية حيث يقطنه كبار مديري ورؤوساء الشركات الكبرى.. فهو مكان شديد الرفاهية على حد وصف قاطنيه وزوّاره، كونه يضم الى جانب المطاعم الراقية، نوادي التزحلق على الجليد والصالات الرياضية وحمامات السباحة والمساحات الخضراء التي تتوسطها نافورات الماء. ويقع المجمع الذي يضم 200 فيلا و48 شقة سكنية كبيرة و195 شقة صغيرة إضافة إلى فندق فخم على مساحة 1.3 مليون قدم مربع.

وحين يلتقي الثراء بمصدره، أي النفط، يكون لتكريس المجموعة هجومها على شركات النفط ومجمع الواحة الذي يقطنه مدراء ومسؤولون في شركات نفطية بعد اجتماعي ـ اقتصادي محلي الى جانب البعد الاقتصادي الدولي.. فهناك ثمة موقف يتداخل فيه السياسي والاقتصادي والديني، ويعبّر عن نفسه في أشكال مختلفة، ولكنه بالتأكيد يمثل في مجموع عناصره مبرر الحرب الجهادية ضد مصالح الدولة والاجانب.

فقد اختارت المجموعة شركات النفط العربية والدولية باعتبارها رمزاً للتسلط الاقتصادي والهيمنة السياسية، سيما في هذه الفترة بالتحديد حيث تشيع الاتهامات عن تورط قادة الادارة الاميركية في الصناعة النفطية في افغانستان والعراق بدءا من الرئيس بوش ومروراً بنائبه تشيني وعدد من الوزراء والمستشارين في الادارة الحالية.

الاستعداد القتالي والعامل الخارجي

ما يظهره النشمي في المقابلة هو أن ثمة ثقة مفرطة لدى افراد المجموعة قبل وخلال وبعد تنفيذ هجوم الخبر، ولذلك اطلق النشمي عليه ولأكثر من مرة بأنه كان أشبه ما يكون بـ (نزهة).. في مقابل ذلك، هناك أمر ينطوي عليه كلام النشمي وهو الحط من قدر أجهزة وأفراد قوى الامن، والتقليل من شأن كفاءاتهم القتالية، وقدراتهم المعنوية، ويقول في وصف قوى الامن في إحدى الاشتباكات مانصه: (وكان الجبن العجيب واضحاً في تصرفاتهم، فهم بعيدون جداً ونحن نقترب منهم وهم يتراجعون ويبعدون..) ويقول في مكان آخر(وكنا في هذه الأثناء نسمع صوت الدوريات والحشود بالخارج ، ولم يجرؤ الجبناء على الاقتحام).

من جهة ثانية، نلحظ بأن ثمة ظلالاً شاخصة لقاموس حرب العراق قبل سقوط نظام صدام حسين في لهجة النشمي، فقد أمدّت لغة وزير الاعلام العراقي (الصحّاف) المتميزة في مفرداتها التهكمية المعجمية الجهادية لدى الجماعات المتشددة في السعودية من أجل استعمالها في الحرب ضد الاجانب. يقول النشمي (دخلنا إلى إحدى الشركات ووجدنا علجاً أمريكياً.. ودخلنا مكتباً آخر فوجدنا أحد العلوج .. وكان هذا هو العلج الجنوب أفريقي.. استمرينا في عملنا هذا نبحث عن العلوج وننحر من وجدنا منهم.. بدأنا نمشط الموقع ونبحث عن العلوج).

الى جانب ذلك، إستعارت المجموعة من ممارسات مقاتلي الفلوجة فكرة سحل الجثث، وقد سبق الى تطبيقها في السعودية مقاتلو ينبع. يقول النشمي بعد مقتل مدير استثمارات شركة هيلبرتون وهو بريطاني الجنسية (ركبنا سيارتنا وربطنا العلج برجل واحدة وخرجنا من الشركة فوجدنا الدوريات..) وقد سارت المجموعة فيما كانت جثة البريطانية عالقة في السيارة التي كان يستقلونها وهكذا طافوا بالجثة في عدد من الشوارع خلال المطاردة مع قوات الامن بحيث كما يقول النشمي (وتقطعت ملابس العلج وأصبح عارياً في الشارع وكان الشارع مليء بالناس ـ فالوقت وقت دوام ـ والكل شاهد العلج مسحولاً فلله الحمد والمنة.. ولما توسطنا الجسر انقطع الحبل وسقطت جثة العلج بين الإشارات الأربع وفي وسط الميدان، وأصبح كل من كان واقفاً في إحدى الإشارات يشاهد العلج يوم أن سقط من أعلى الجسر..).

نشير هنا الى أن أسلوب السحل بدأ في الصموال حين جاءت القوات الاميركية تحت يافطة اعادة السلام لهذا البلد بغطاء من الامم المتحدة، فواجه الجنود الاميركون مقاومة شرسة بعد الاقترافات التي ارتكبوها في الصومال، فقامت قوى مناصرة لتنظيم القاعدة (ولم يكن الاسم معروفاً حتى ذلك الوقت) والمتداخلة مع الرئيس عيديد، بقتل عدد من الجنود الاميركيين وسحل جثثهم في الشوارع مما تسبب في إحداث صدمة عنيفة للرأي العام الاميركي.

ثمة تشابه مذهل بين وسائل الجماعات القتالية في العراق والسعودية، فكلها تعتمد وسيلة قطع الرؤوس بالسكين أو آلات القطع الحادة، كما حصل للمقاول الاميركي بيرغ، وتكررت الحالة في عملية الخبر حسب النشمي حيث تم قطع عدد من الرؤوس، وبحسب النشمي (ووجدنا نصارى فلبينيين فنحرناهم وأهديناهم إلى إخواننا المجاهدين في الفلبين، ووجدنا مهندسين هندوس فنحرناهم أيضاً ولله الحمد، وطهّرنا أرض محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم من كثير من النصارى والمشركين). ولعل المثالين الاشد بشاعة هو ماذكره النشمي في المقابلة حول نحر قائد المجموعة لسويدي وايطالي بما نصه: (وجدنا علجاً سويدياً فقطع رأسه الأخ نمر ووضعه عند البوابة لكي يراه الداخل والخارج !!) اما الرهينة الايطالي الذي تحدث الى قناة الجزيرة من مبنى المجمع فقام نمر البقمي بنحره.

في مقابل تلك الصورة الدامية المفزعة، يرسم النشمي صورة اخرى مقابلة تفيض بالرحمة والعاطفة الانسانية، فقد نفى ان تكون المجموعة قد قتلت الطفل المصري الذي نقلت شاشات التلفزيون صورته مكرراً، ووجه الاتهام الى قوى الامن التي اشتبهت في السيارة التي كان فيها الطفل على انها تابعة للمجموعة فأمطرتها بوابل من الرصاص ما ادى الى مقتل الطفل. يتحدث النشمي عن تدابير احتياطية دقيقة اخذتها المجموعة من اجل تجنيب المسلمين الضرر. يقول النشمي (وطلّعنا المسلمين إلى الأدوار العليا لكي لا تصيبهم رصاصات الطوارئ وقذائفهم الطائشة..).. إن هاتين الصورتين المتناقضتين واجتماع الشراسة والعاطفة الانسانية تمثلان جزءا من الخطاب المزدوج لدى مجموعة ترى بأن حربها عالمية ولامحدودة في وسائلها، وأزمانها، وأماكنها واخيراً في افرادها.

إعادة انتاج مجتمع الصحابة

تمثل تجربة الاسلام الأولى مصدر الهام شديدة التأثير في وعي المجموعة وحركتها القتالية، فأفرادها يتقمصون شخصيات الصحابة الأوائل الذين انغمسوا في العدو، وأثخنوا، وقاتلوا وقتلوا.. إن ثمة ايحاءات للتصوير القرآني للمعارك والسيرة القتالية للمسلمين في المعارك المشهورة تبدو في لغة النشمي، كما يكشف عنه النص التالي (والله يا إخوان أكبر كرامة هي السكينة والهدوء الذي أنزله الله علينا وثبّت قلوبنا به ، سبحان الله تكاد تحلف بالله أننا في نزهة وليس بين أهوال تضطرم، تخيل أنَّ النعاس لم يفارقنا منذ بداية العملية فاللهم لك الحمد، ثم الفضل الإلهي الكبير علينا بهذا الإثخان وبهذا الانتصار الذي هو من الله وحده على هذه الآلاف المؤلفة، لقد كان الإنسان يقرأ سير الصحابة والسلف فيجد مثل هذه الأخبار ، ولكن لما مررنا بمثل ذلك كان وقع الأمر علينا عظيماً فاللهم لك الحمد).

في المقابلة نتف متناثرة تلتقي مع مضمون هذا النص من قبيل إقامة حلقة تلاوة القرآن أثناء تواجد المجموعة في مجمع الواحة، وتصحيح قراءة بعض السور لدى البعض، واسداء النصحية لبعض المتشبّهين باليهود والنصارى، وهي مهام نجد ما يقابلها في تاريخ المسلمين القديم.

يكاد النشمي في المقابلة وهكذا الادبيات المتداولة وسط المجموعات الجهادية والبيانات الصادرة عنها يعبّر عن المجتمع المثالي (= الصحابة) الذي تطمح هذه المجموعة الى تقمّصه وسلوك سيرته واخيراً تحقيق غاياته.. فهؤلاء يلحّون على ادراج أنفسهم كإمتداد للخط الرسالي الاول، وهم الممثلون الشرعيون للجيل الاول من مجتمع الرسالة.

الصفحة السابقة