تطور جديد في سياستها الخارجية

لمن يستعرض السعوديون عضلاتهم؟

السياسة الخارجية السعودية تقوم على عمودين أساسيين، يمكن اعتبارهما من زاوية أنها مكمن القوة في تلك السياسة، كما يمكن أن يعتبرا نقطة الضعف المحورية فيها، حين ينظر اليهما من زوايا مختلفة أخرى.

بقاء بشار حماية لآل سعود

العمودان هما: المال، والغطاء السياسي الأميركي.

فإذا ضعف أحدهما بان الخلل والعجز في السياسة الخارجية السعودية، وإن تغيّر مؤشرهما إيجابيا، شهدنا تحسّنا في الأداء السعودي الخارجي واستعراضاً لـ(دولة إقليمية عظمى)!

الأشهر القليلة الماضية شهدت انطلاقة واضحة في السياسة الخارجية السعودية بعد عقد ونصف من الركود، بل الجمود، حتى بدت السعودية وكأنها دولة تعيش على هامش الأحداث، وكان أداؤها السياسي ضعيفاً الى حدّ أن الأردن وقطر وحتى السودان وليبيا كانت أكثر فاعلية في المحيط العربي والإقليمي منها.

لا غرو أن الإنطلاقة الجديدة جاءت متزامنة تماماً مع الصعود الصاروخي لأسعار النفط. فقدرات السعودية السياسية على ممارسة دور متميز ومقنع في محيطها العربي والإسلامي يعتمد اعتماداً كبيراً على الهبات الإقتصادية والمساعدات المالية والإغراءات بفتح سوقها للبضائع والعمالة. وحين تضعف السعودية، أو تشح لديها الأموال كما حدث في اعقاب حرب تحرير الكويت، لا تجد السعودية أذُناً تسمع ممن يعتبرون أصدقاءها، فهؤلاء اعتادوا على قبض ثمن مواقفهم السياسية من السعودية، وفي حال تعذر الحصول على الثمن، فإنهم لا يأبهون بالموقف السعودي، بل قد يناكفونه إمعاناً في الضغط من أجل الثمن.

السعودية التي عوّدت الآخرين ـ أفراداً وحكومات ـ على هذا النوع من العمل السياسي، أصبحت خلال عقد التسعينيات الماضي غير قادرة على الإيفاء بمتطلبات شعبها وحاجاته المادية والإقتصادية، وكانت بحاجة بعد العواصف الإقتصادية والأمنية الى الإنكفاء على ذاتها، ربما بسبب هول الصدمة التي سببها حلفاء الأمس من حركات اسلامية وشخصيات سياسية ودول صديقة وقفت بأجمعها مع صدام حسين.

لم تكن تلك مراجعة سياسية شاملة، بل كانت مجرد رد فعل.

ومع أن أسعار النفط بدأت بالإرتفاع التصاعدي خاصة خلال العامين الماضيين، إلا أن السعوديين لم يمارسوا سياسة فاعلة، فقد أدخلهم ابن لادن والتيار السلفي العنفي في صدام مع الولايات المتحدة الأميركية، وكانت الأزمة الاقتصادية المحلية تزيد الخناق على الجمهور الذي لجأ الى الأبواب السياسية المغلقة تعبيراً عن احباطه الإقتصادي.

الأشهر الماضية اختلفت من زوايا ثلاث.

فقد تحسّن الوضع الإقتصادي ـ رغم اضطرابه وعدم استقراره ـ بسبب وصول أسعار النفط الى معدلات غير مسبوقة، الأمر الذي أعطى الحكومة السعودية قدرة إضافية على احتواء المصاعب السياسية الداخلية والخارجية في آن.

أسنان نفطية ومظلّة أميركية

ومن جهة ثانية، أصبح من الواضح لدى القيادة السعودية أن لديها قدرة غير قليلة في الممانعة السياسية تجاه دعوات الإصلاح السياسي المحلية والخارجية. لقد رمّمت القيادة السعودية بعضاً من خلافاتها مع حلفائها الغربيات، لأسباب تتعلق بتلك الدول (الخسائر السياسية والمادية والبشرية في أفغانستان والعراق، وضعف قدراتها على ممارسة حروب اضافية، وتوجه الغرب الى أعداء آخرين لا تأتي السعودية في مقدمتهم كما كان اللوبي الصهيوني يريد). وبعضها الآخر يتعلق بالسعودية نفسها، حيث عدّلت بعض سياساتها المحلية، والأهم من ذلك اصبح الفائض المالي لديها قادراً على شراء المواقف لدى الغرب، وهو ما قايض به السعوديون الأميركيين في رحلة عبدالله الى الولايات المتحدة الأخيرة في العام الماضي.

ومن جهة ثالثة، وهو الأهم، فإن السعودية بعد سقوط الإتحاد السوفياتي، بل سقوط (الشيوعية) برمتها، فقدت كثيراً من قيمتها في عيون الغرب، خاصة مع الضعف الإقتصادي الذي ألمّ بها، بحيث أصبحت دولة بحاجة الى العون بدل أن تعين.

السعودية وطيلة السنوات الماضية كانت تبحث عن دور.

وكان المتوقع أن تكون المملكة مركز الجدل ومحور (الشر) في عين الغرب، بالنظر الى ما فعله بن لادن والسعوديون الذين كانوا معه. الغرب الذي استبدل الحرب على الشيوعية بالحرب على الإسلام بأوجه مختلفة، أراد في البداية استخدام السلاح ضد السعودية، لا لأنها مركز العالم الإسلامي ومقدساته، بل لأنها ـ بحق ـ مصنع التطرف الإسلامي. وقد وضعت أحداث 11/9 اسفيناً في العلاقات السعودية الأميركية التي لم تكن مرضية للطرفين تماماً.

الذي حدث هو أن السعودية استطاعت حتى الآن إقناع حلفائها بأنها لاتزال ذلك الحليف الوفي، وانها قادرة على تغيير أجندتها وهيكلة رؤيتها بالشكل الذي يتماشى مع الإستراتيجية الغربية في مكافحة الإرهاب (الإسلامي). وبالرغم من أن الغرب بمجمله لا يثق في قدرة الحكومة السعودية في إصلاح نفسها، إلا أنه وجد في المحصلة النهائية، وجد في الدفاع عن آل سعود بنداً استراتيجياً في مكافحة ما أسماه بالإرهاب.

بهذه الخلفية السياسية والتاريخية يمكن قراءة الدور السعودي السياسي النشط ـ نسبياً ـ هذه الأيام. والذي امتدّ من لبنان الى سوريا الى إيران الى العراق والباكستان وأفغانستان وغيرها.

بدأت الإنطلاقة السعودية بتصريحات سعود الفيصل الحادة ضد قوى عراقية بعينها، وضد تدخلات إيران، ثم تمدد الدور الى سوريا حيث وقفت المملكة ضد بشار الأسد بعنف شديد لكنها هدأت مؤخراً حين وجدت أن الضغط على سوريا سيؤدي الى إسقاط النظام هناك الأمر الذي يجعل السعودية نفسها هدفاً تالياً، ولهذا قدمت خطة لتهدئة الوضع بين البلدين رفضها حلفاء السعودية أنفسهم، واستضافت في الوقت نفسه وفداً من حزب الله وحركة أمل للحوار مع سعد الحريري في الرياض نتجت عنه اتفاقات ما لبث أن عوقها الحلفاء (خاصة جنبلاط). كما انها عملت مع مصر لوضع حدود لمعاقبة سوريا إن ثبت انها وراء قتل الحريري، وذلك عبر البوابة الفرنسية، والتي توجت بلقاء مبارك مع شيراك.

لكن هذا التراجع السعودي إنما جاء متناغماً مع قناعة إسرائيلية أميركية غربية تفيد بأن تغيير النظام في سوريا سيؤدي الى أزمة كبيرة لإسرائيل، فالحدود لن تضبط، وستصل قوى العنف المعادية للصهيونية الى الحدود المحمية منذ حرب 1973. ولذا حذر خبراء اسرائيليون من ان سقوط الأسد سيكون اكبر خطأ ترتكبه اسرائيل في تاريخها.

عبدالله للسنيورة: تهدئة الموقف

على الصعيد الإيراني، كشف تركي الفيصل، السفير السعودي في واشنطن، ومسؤول جهاز الإستخبارات السابق بأن السعودية تتفاوض مع إيران حول برنامجها النووي، وذلك في سياق الضغط الغربي على طهران، وكانت الصحافة والإعلام السعوديين قد رفعا من وتيرة التنديد بالبرنامج النووي الإيراني وخطره على منطقة الخليج لذات الغرض.

أما في العراق، فقد استعرض السعوديون عضلاتهم بالشتائم ضد الجعفري، لأن الرجل أشار بشيء من النقد الى إهانته من قبل السعوديين فيما يتعلق بعدد الحجاج العراقيين فانهالت عليه الصحافة السعودية شتماً وإهانة معرضة بأنه طائفي (والسعودية مبرأة من الطائفية!) وأنه يعاني من أزمة سياسية.. وكأن لسان الحال السعودي يقول: لم يبقَ إلاّ أنتم حتى تنتقدوننا! لهذا أشهرت العضلات السعودية بوجه الجعفري والقيادة العراقية عامة، وبدأت التنظيرات والدعوات لتدخل سعودي من نوع ما وبشكل مباشر في الشأن العراقي.

حتى الان لم تختبر السياسة السعودية، فلا العراق ولا سوريا ولا لبنان ولا إيران تريد مواجهة مع السعودية، التي تتحرك ضمن المظلة الغربية وتستهدف ذات الإستهدافات الغربية، بالرغم من الدهشة التي أبدتها هذه الدول جميعاً من الموقف السعودي المسلح بالأسنان الأميركية.

فهذه الدول قادرة على فتح النار ضد السعوديين وإعادة تصنيفهم في الخانة الأميركية. وإذا كانت سوريا البعيدة نسبياً غير قادرة على الرد في الوقت الحالي، فإن العراق الذي يواجه يومياً الإنتحاريين السعوديين الذين يحصدون أرواح عشرات الأبرياء، وحيث الجو المعبّأ ضد الوهابية وآل سعود، قد يصدّر أزماته الداخلية الى السعودية نفسها، وقد يفتح معركة تستهدف توحيد الداخل العراقي ضد المشاكل المصدرة اليه سعودياً. خاصة وأن اللعبة الطائفية ـ التي لم يمنع تفجرها إلا هدوء العراقيين وبلعهم الموسى بصمت ـ قد تنفجر في السعودية نفسها وتلقي بآثارها السيئة على الوضع الأمني.

أما إيران التي فوجئت بتصريحات سعودية متعددة وغير ودّيّة، فإنها لم تزد على التعبير عن تفاجؤها مما يفعل الصديق السعودي. لكن في حال جدّ الجدّ، ومنع الأميركيون والغرب ايران من تصدير نفطها، فإنها من غير المتوقع أن تسمح للاخرين بتصدير نفطهم، وستعمد الى التخريب والهجوم بالصواريخ ومحاولة إغلاق المضيق (هرمز) وقد تملأ الخليج بالالغام كما فعلت في منتصف الثمانينات إبان ما سمي بـ(حرب الناقلات).

السعودية لاتزال مهمة لأميركا

ما يجب التأكيد عليه أن الهجمة السياسية السعودية الجديدة بحاجة الى ترشيد وتعقل كيما تخدم الأخيرة بدل أن تنقلب سياستها عليها، ولا نظن ان السعوديين سيفتحون معارك مع كل جيرانهم إن وجدوا في ذلك تهديداً مباشراً لاستقرار بلدهم.

فهناك فرق بين الظهور بمظهر المساير للغرب في سياساته الإقليمية، بغية دفع البلاء عن النفس، وهو عمل قد يكون مشروعاً، وبين الدخول الجاد في حلف مع الولايات المتحدة لمواجهة سوريا وإيران وحزب الله إضافة الى القاعدة. فالدخول الجادّ، يقتضي ما هو أكثر من التأييد الضمني، وهو ما يقوم به العاجز المغلوب على أمره، فيعمد الى التأييد العلني، وفتح القواعد العسكرية، وزيادة انتاج النفط لتسهيل المهمة الأميركية في ضرب الاخرين.

من الصعب أن تفلت السعودية إن كررت لعبتها السابقة بشأن العراق وافغانستان.

في افغانستان كانت القيادة العسكرية للهجوم الأميركي في الرياض، في حين أن السعودية أعلنت عدم تدخلها وأنها غير راضية، بل زادت أن ضرب طالبان لا يعني ضرب الإسلام، وكأنها تقول بأن احتلال افغانستان ليس عملاً موجهاً ضد المسلمين بل ضد الإرهاب.

وفي العراق، أعلنت أنها ضد احتلاله، ولكنها في نفس الوقت فتحت قواعدها الشمالية التي انطلقت فاحتلت القواعد العراقية الحدودية (اتش 2 واتش 3)، ومولت خطوط الهجوم لداخل العراق.

هذا النوع من الفعل لن يكون مسكوتاً عنه بالنسبة للإيرانيين على الاقل، حتى وإن صدق توقع السعودية بأن القيادتين العراقية والسورية غير قادرتين على الرد ضد السعودية. لكن المرارة التي سيخلفهما الموقف السعودي ستكون شديد التدمير لأسس التعايش على الأقل مع دولة حدودية مثل العراق.

وملخص القول: من يريد إرضاء الولايات المتحدة الأميركية حماية لنفسه فليفعل ولكن ليس على حساب الآخرين، عبر استعارة الإتهامات الأميركية والإنخراط في سياساتها ضد قوى إقليمية قادرة على الإيذاء!

الصفحة السابقة