مؤشرات الصراع على السلطة

الحسم المؤجل لوراثة العرش

إن الانتقال السلس للسلطة في السعودية عقب موت الملك فهد في الاول من أغسطس الماضي لم يطوِ خلافاً حاداً وتحديات كبيرة مازالت تواجه الملك عبد الله. فقد كان عليه مواجهة طائفة مشاكل ورثها من عهد سلفه وحاول إيجاد مخارج طوارىء لها قبل وصوله سدة الحكم منها: العلاقات مع أميركا، الانعكاسات غير المتوقعة بعد الانتخاب المفاجىء لمحمد أحمد نجاد كرئيس جديد في ايران، وتسارع زيادة أسعار النفط، والضغوطات من أجل الاصلاح وتنامي الارهاب الدولي.. وعلى أية حال، بدت هذه القضايا تحت السيطرة في المرحلة الراهنة، ولنقل بأنها لم تعد تشكل خطورة مباشرة، وإن كان من الصعب إستبعاد عدم بروزها أو ربما تفجّرها في مرحلة لاحقة.

ولكن التحدي الحقيقي الذي يواجه الملك عبد الله هو داخلي بالدرجة الاساسية ويمثّل اختباراً لقدرته على تقديم نفسه كقيادة حازمة وكزعيم للعائلة المالكة التي يبلغ عدد أفرادها اكثر من خمسة آلاف أميراً وربما نفس العدد من الاميرات، حيث أن الاختبار في حال عدم إجتيازه سينطوي على أزمة مستقبلية.

حكّام كهول

في السنوات القليلة الماضية، شهد عدد من البلدان الشرق أوسطية تغييراً في القيادات السياسية، وأن نظام التوارث الذي إتبعته بعض الدولة تقليدياً أو مستحدثاً عنى بدرجة متفاوتة وصول الجيل الثاني الى القيادة، في بلدان مثل البحرين والاردن وقطر والمغرب، حيث اعتلى سدة الحكم قادة شباب. وحتى في مثال سوريا، فإن موت حافظ الاسد جاء بإبنه بشار الى سدة الحكم. وبالرغم من الدلائل السلبية على وصول قيادات بالتوارث الى الحكم، بوصفها مؤشراً على التراجع، فإن هؤلاء القادة يمثّلون الجيل الشاب بتطلعات جديدة.

السعودية بطبيعة الحال ليست جزءاً من هذا النمط، فالتوارث مازال مقتصراً على أبناء الملك المؤسس عبد العزيز. و منذ تأسيس الدولة السعودية عام 1932، اعتلى العرش ستة ملوك: عبد العزيز (1932 ـ 1953)، ثم أبنائه سعود (1953 ـ 1964)، وفيصل (1964 ـ1975)، وخالد (1975 ـ 1982)، فهد (1982 ـ 2005) وعبد الله (2005ـ الان). وكنتيجة، فكل ملك جديد ليس بأكبر سن من الذي قبله، فعلى سبيل المثال، فإن الملك عبد الله وولي العهد سلطان يصنّفون في فئة 75 ـ 90 عاماً. ووفق هذا المعدل، فإن بقاء التوارث بين أبناء المؤسس سيعني بلا مناص عهوداً أقصر وتوارثاً دائماً.

للتأمل قليلاً في هذه القضية الشائكة، فقد أعلن الملك فهد في مارس 1992 عن الانظمة الثلاثة، وقد نصت المادة الخامسة ب من النظام الاساسي على أن (يكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، وأبناء الأبناء، ويبايع الاصلح منهم للحكم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم).

في ضوء هذه المادة، من الضروري إجراء تغييرات راديكالية في نظام التوارث. على سبيل المثال، فإذا جرى انتقال التوارث الى أحفاد الملك المؤسس، فمن سيكون من بين المئات من أمراء الجيل الثالث قادراً ومقبولاً؟

إن أول ما يتبادر الى الذهن حول انتقال السلطة الى الجيل الثالث هو صراع محموم على السلطة داخل العائلة المالكة. فقد ظل الصراع الداخلي على السلطة في العائلة المالكة في شكله المحدد مقتصراً على الفاعلين الاساسيين والنافذين وبخاصة السديريين الستة (بعد أن كانوا سبعة قبل موت الملك فهد). فمن بين الستة الامراء، ثلاثة على الاقل يتمتعون بسلطة ونفوذ واسعين وهم سلطان ونايف وسلمان. إن تمتع هؤلاء بالدعم والقدرة على تحشيده سيكون دون ريب حيوياً بالنسبة للملك عبد الله من أجل تطبيق أي جزء من أجندته السياسية. فبالرغم من أن الجلطة الخطيرة التي أصابت الملك فهد في 1996، أملت من الناحية التقليدية على الملك عبد الله أن يتولى من موقعه كولي للعهد إدارة شؤون الدولة لنحو عقد تقريباً الا أن ذلك كان يحمل في طياته رسالة شديدة الخطورة والاهمية. وقد يجادل المرء بأنه لولا العامل السديري، لكان الملك قد أزيل من منصبه أو أجبر على التنازل عن العرش للملك عبد الله، بعد أن فقد الملك فهد إمكانية ادارة السلطة.

إن أبناء الملك عبد الله الثلاثة قد تم إستيعابهم ضمن الحرس الوطني الذي يرأسه الملك عبد الله. وقد يكون ذلك مؤشراً على قاعدة سلطته المحدود داخل العائلة، ولذلك، فإن الملك عبد الله بحاجة الى توسيع قاعدة الدعم من خلال حشد الدعم من قبل أخوانه غير الاشقاء من خارج الجناح السديري وبخاصة النافذين منهم داخل العائلة المالكة. يجادل البعض بأن أي اصلاح سياسي ذي معنى في السعودية يجب أن يكون داخل العائلة المالكة، إذ لا يمكن لعملية الاصلاح أن تسير بنجاح طالما تمسّك الامراء النافذون بمصادر القوة الهائلة التي تحت أيديهم والتي أدت الى أزمات إقتصادية وأمنية وسياسية، بالنظر الى الاموال الطائلة التي اقتطعوها من مداخيل الدولة، وبالنظر أيضاً الى حجم النفوذ الذي يتمتع به الأمراء والذي تسبب في إعاقة حركة الدولة وتسيير شؤونها بثبات ودون مشاكل.

من سيأتي بعد سلطان؟

منذ عام 1975 أصبح الملك مخوّلاً بتعيين نائب ثانٍ لرئيس مجلس الوزراء، وعليه كان يتم تسمية الشخص الثالث في خط التوارث داخل العائلة المالكة. منذ إعتلائه العرش، عيّن الملك خالد فهد ولياً للعهد وعبد الله نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء. وتماشياً مع هذا التقليد، فقد عيّن الملك فهد في عام 1982 الامير سلطان نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء. وبينما إقتفى الملك عبد الله النمط نفسه وعيّن الامير سلطان ولياً للعهد، فإنه أحجم عن تسمية نائب ثانٍ لرئيس مجلس الوزراء، يكون الثالث في خط التوارث.

ينظر الى الامير سلمان، الاخ الاصغر للأمير سلطان، من قبل كثيرين على أنه المرشح المحتمل لمنصب النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، أي الثالث في خط التوارث. وكعضو في كتلة السديريين السبعة، فإنه يتمتع بنفوذ سياسي قوي، ولكن اختياره كنائب ثانٍ لرئيس مجلس الوزراء سيعني تجاوز مطالب الامراء الاقوياء الآخرين مثل وزير الاسكان متعب بن عبد العزيز ووزير الداخلية نايف بن عبد العزيز. وأكثر من ذلك، فإن عمر الامير سلمان ليس قليلاً، فقد ولد سنة 1936، أي يبلغ من العمر سبعين عاماً.

وما يجدر ذكره أن مشكلة العمر في السعودية ليس مقتصرة على الحّكام ولكن تمتد الى الاشخاص الذي يمسكون بالمناصب الرئيسية في الحكومة منذ عدة عقود، بدءا من رأس الدولة ونزولاً الى الامراء الكبار. فالملك عبد الله يترأس الحرس الوطني منذ عام 1963، فيما تولى الامير سلطان (ولي العهد الحالي) منصب وزير الدفاع منذ عام 1962، اما سعود الفيصل فقد تم تعيينه أول مرة كوزير للخارجية منذ عام 1975، ونفس الشيء يقال عن وزير الداخلية الامير نايف. أما الامير بندر بن سلطان الذي تم تعيينه قبل أشهر قليلة رئيساً لمجلس الامن الوطني فقد كان سفيراً في واشنطن منذ عام 1983، أما خلفه الامير تركي الفيصل فقد تولى رئاسة الاستخبارات العامة منذ عام 1978 وحتى عام 2001. بالنسبة لوكلاء وزارتي الدفاعي والداخلية فقد أمسكوا بمناصبهم لأكثر من عقدين، أما الامير سلمان، الذي ينظر إليه من قبل البعض كملك مستقبلي محتمل، فقد كان حاكماً لمنطقة الرياض منذ عام 1962. باختصار، فإن مناصب الدولة السيادية ظلت في عهدة أمراء بلغوا من العمر عتياً وهم مازالوا منذ عقود ماسكين بتلك المناصب.

في النظام السعودي، فإن الملك يتولى أيضاً منصب رئيس الوزراء، وهذا من شأنه أن يخلق مشكلات جديدة للحكّام. ويتولى الملك عبد الله أيضاً منصب رئاسة الحرس الوطني، وهو منصب تولاه منذ عام 1962. كانت تلك قاعدة السلطة المبدئية داخل العائلة المالكة. فهل سيبقي الملك عبد الله ممسكاً بمنصبه كرئيس للحرس الوطني أو سيعلي من شأن إبنه متعب بن عبد الله المتخرج من جامعات الغرب، والذي يتولى حالياً منصب نائب رئيس للحرس الوطني منذ عام 1984؟. إن السؤال ذاته يمكن أن يثار حول ولي العهد سلطان، فهل سيبقى ممسكاً بمنصبه كوزير للدفاع أو يستقيل لصالح أخيه الاصغر عبد الرحمن الذي يتولى منصب نائب وزير الدفاع منذ عام 1983. أسئلة ظلت بلا إجابة منذ وصول عبد الله الى العرش، وإن بقاء تلك المناصب في أيدي أصحابها دليل على أن مسألة تقاسم السلطة وحسمها لم تحل، بل إن هناك ما يبعث على القلق من أن التجاذبات داخل العائلة المالكة قد تأخذ شكل استقطابات حادة وانفلاشية.

ماذا عن الاصلاح السياسي؟

ليس ثمة شك في أن هناك ضغطاً داخلياً قوياً من أجل الاصلاح والمحاسبة، وإن إقامة مجلس شورى معيّن من قبل الملك فهد عام 1992 كان بمثابة تنازل جزئي لمطالب الاصلاح، والشيء ذاته يمكن قوله حول الحوار الوطني الذي أعلن عنه الملك عبد الله في السنوات القليلة الماضية واللقاءات الدورية مع قطاعات مختلفة من الشعب وكذا اقامة الانتخابات البلدية منذ أكثر من عام.. تلك كانت مؤشرات واضحة بأن النظام السعودي قد أجبر على إصلاح نفسه جزئياً على الاقل. وعلى أية حال، فقد كان واضحاً أن هامش المناورة لدى الملك عبد الله ومنذ كان ولياً للعهد محدود وأن ثمة إتفاقاً على أن الامراء الآخرين (من الجناح السديري بدرجة أساسية) يعيقون قدرته على المضي في مشروع الاصلاح بصورة فاعلة. وقد بدا واضحاً بأن الملك عبد الله قد إستجاب لضغوط الجناح السديري وبات ينزع الى الحفاظ على الاجماع داخل العائلة المالكة والبقاء على وحدة السلطة وإن أفضى ذلك الى التخلي عن مزاعمه الاصلاحية.

إن فرضية السلطات السيادية الكاملة لدى الملك عقب موت الملك فهد من غير المحتمل أن تعدّل من الوضع القائم بصورة راديكالية حيث يبقى على الملك عبد الله أن يبحث عن سبل آمنة وحذرة في إدارة السلطة. إن حركته نحو الاصلاح ستتطلب دون شك إجماعاً ودعماً من قبل الامراء الاقوياء الآخرين وهذا بدوره يعني بأن الملك عبد الله يجب عليه أيضاً أن يستوعب مطالب هؤلاء الامراء بتولي المواقع الرئيسية في الحكومة.

وبطبيعة الحال، فإن إدخال اصلاحات سياسية مماثلة لتلك التي شهدتها الدول المجاورة مثل الكويت والبحرين لن يكون أمراً سهلاً. إن المعارضة الاساسية في السعودية تنبع ليس من التيار الليبرالي فحسب ولكن أيضاً من العناصر المحافظة التي تشعر بأن العائلة المالكة قد اجترحت طريقاً منحرفاً عن الاسلام والتقاليد الطهرانية للوهابية. بالنسبة لرجال الدين الوهابيين، فإن الملكية الحاكمة ليست إسلامية بالمعنى التام، ولذلك فإن الملك عبد الله لن يكون قادراً على الاندفاع بإتجاه أي إصلاح سياسي يفضي الى تحييد قاعدة الدعم التي يوفّرها الاتجاه الديني المحافظ.

في السياق ذاته، فإن الاصلاحات السياسية ستعني أيضاً محاربة الفساد داخل العائلة المالكة. وبالرغم من بساطة جنازة الملك فهد وغياب معالم البذخ عن قبره، فإن ثروته الشخصية الهائلة قدّرت ما بين 20 ـ 30 مليار دولار (70 ـ 100 مليار ريال سعودي)، فيما ذكرت مصادر مالية أجنبية أن الملك فهد يعدّ سابع أغنى رجل في التاريخ، وأن ثروته تجاوزت 500 مليار ريال سعودي (أي نحو 140 مليار دولار). ويمكن القول ذات الشيء عن الامير سلطان، وزير الدفاع، والذي يرأس واحدة من أغلى برامج التحديث العسكري، والذي باتت قصص ثرواته مضرب المثل حتى أطلق الناس عليه لقب (سلطان الحرامية). في المقابل، وبينما لم يعرف عن الملك عبد الله تورّطه في قضايا الفساد بصورة فاضحة، فإن نمط الحياة الفارهة لكثير من الامراء قد جذبت إهتماماً كبيراً ونقدياً واسعاً سواء في الداخل أو الخارج. إن الاصلاحات الهادفة الى الشفافية ستعني محاسبة الأمراء وتقليص نزعاتهم نحو الثراء الشخصي الفاحش.

بالنظر الى أوضاع كهذه، كان يفترض أن يولي الملك عبد الله إهتماماً شخصياً وجاداً لجهة وضع حلول حاسمة لها، حيث إن تبعات المرحلة السابقة ستُلحِق بصورته وقيادته كل آثام الفساد والانحراف الموروثة من عهد سلفه. ولكن فيما يبدو فإن الملك عبد الله بدأ يولي السياسة الخارجية أولوية في أجندة حكمه. إن الاستقرار الداخلي الاستثنائي الذي دعمه التحسّن الملحوظ في الاوضاع الاقتصادية عقب إرتفاع أسعار النفط قد يضمر مشاكل أشد تعقيداً في المستقبل، مع بقاء ملفات الفساد مقفلة في وقت تتنامى نزعات الجشع لدى الامراء الذي يحاولون اقتناص فرصة إنتعاش السوق النفطية من أجل جني القدر الممكن من الثروة الوطنية لحساباتهم الخاصة.

وبالرغم من شعبية الملك عبد الله في الداخل والتفاؤل السائد حالياً وهو تفاؤل مرتبط بصدفة تحسن الاوضاع الاقتصادية، فإن الملك سيدخل في سباق ضد الزمن حيث أن عمره يعمل بخلاف ذلك. إن التحديات التي تواجهه دقيقة وأن المدى الزمني للفرصة القائمة هو بالتأكيد قصير. وبخلاف أسلافه، فإن الملك عبد الله لن يفيد كثيراً من ولي العهد الامير سلطان الذي مهما بلغت درجة التفاهم بينهما فإن الخلاف يظل عميقاً، فضلاً عن أن الامير سلطان يعاني من مجموعة أمراض جسدية، من بينها سرطان في الجهاز الهضمي.

بالنظر الى شعبيته وسمعته الشخصية، فإن الملك عبد الله يتمتع بميزة فريدة للقيام بتغييرات راديكالية، وخصوصاً داخل العائلة المالكة، وكذا قدرته على القيام بعملية نقل منظم للتوراث الى الجيل الثالث. وحتى في حال عدم إفادته من هذه التغييرات، فإن عليه إجراء بعض التغييرات الراديكالية داخل الحكومة حيث أنها ستكون ضرورية للاستقرار بعيد المدى للمملكة. فقد يكون مضطراً لاقالة بعض الأمراء الكهول الذين يمسكون بمناصب رئيسية في الدولة منذ عقود. بغير تلك التغييرات، فإن العائلة المالكة لن تكون قادرة على مواجهة عدد من التحديات التي تواجه البلاد.

إن إساءة إدارة الوضع أو إنحراف الامراء الاقويا سيقوّض قدرة الملك عبد الله لتأهيل البلاد للمستقبل. وفي الوقت نفسه، فإن قوانين الطبيعة ستعمل ضد إرداة الملك عبد الله الذي لا يملك من فرص الحياة أفضل من فرص أسلافه. ومن أجل إحداث تغييرات هيكلية، فإن البلاد بحاجة الى تغييرات فورية بدلاً من الانتظار لسنوات أو عقود.

الصفحة السابقة